بسم الله الرحمن الرحيم
كنا نتحدث عن تلك الظاهرة الفريدة في المرحلة التي قضاها الإمام علي (عليه السلام) حاكماً متصرفاً ومصرفاً لشؤون المسلمين.
هذه الظاهرة الفريدة هي ما المحنا إليها من أن الإمام (عليه السلام) كان حريصاً كل الحرص على إعطاء العناوين الأولية للصيغة الإسلامية للحياة، والوقوف على التكليف الواقعي الأولي بحسب مصطلح الأصوليين، دون تجاوزه إلى ضرورات استثنائية تفرضها طبيعة الملابسات والظروف.
لماذا لم يرتض الإمام بأنصاف الحلول أو بشيء من المساومة؟
لماذا لم يسكت؟
لماذا لم يُمضِ ولو بصورة مؤقتة الجهاز الفاسد الذي تركه وخلفه عثمان بعد موته؟
لماذا لم يُمضِ الجهاز حتى إذا أطاعه هذا الجهاز واسلم له القيادة بعد ذلك يستطيع أن يمارس بشكل أقوى واعنف عملية التصفية؟
كنا نعالج هذه المسألة وقلنا إن الجواب على هذا السؤال وتفسير هذه الظاهرة الفريدة في الحياة للإمام (عليه السلام) يتضح بمراجعة عدة نقاط استعرضنا من هذه النقاط أربع:
النقطة الأولى: هي إن الإمام (عليه السلام) كان بحاجة إلى إنشاء جيش عقائدي في دولته الجديدة التي كان يخطط لإنشائها في العراق، وهذا الجيش العقائدي لم يكن موجوداً بل كان بحاجة إلى تربية وإعداد فكري ونفسي وعاطفي وهذا الإعداد كان يتطلب جواً مسبقاً صالحاً لان تنشأ فيه بذور هذا الجيش العقائدي. وهذا الجو ما لم يكن جواً كفاحياً رسالياً واضحاً، لا يمكن أن تنشأ في أحضانه بذور ذلك الجيش العقائدي، لو افترضنا أن الجو كان جو المساومات وأنصاف الحلول حتى في حالة كون أنصاف الحلول تكتسب الصفة الشرعية بقانون التزاحم على ما ذكرناه حتى في هذه الحالة تفقد الصيغة مدلولها التربوي.
النقطة الثانية: هي إن الإمام (عليه السلام) جاء لتسلم زمام الحكم في لحظة ثورة لا في لحظة اعتيادية، ولحظة الثورة تستبطن لحظة تركيز وتعبئة وتجمع كل الطاقات العاطفية والنفسية في الأمة الإسلامية لصالح القضية الإسلامية فكان لا بد من اغتنام هذه اللحظة بكل ما تستنبطه من هذا الزخم الهائل عاطفياً ونفسياً وفكرياً.
النقطة الثالثة: التي ركزنا عليها، هي أن ظاهرة الشك في مجتمع الإمام (عليه السلام) هذه الظاهرة التي بيناها في محاضرات سابقة وكيف إنها عصفت بالتجربة واستطاعت أن تقضي على الآمال والأهداف التي كانت معقودة عليها، هذا الشك بالرغم من انه لم يكن يملك في سيرة الإمام (عليه السلام) أي مبرر موضوعي، وكانت مبرراته ذاتية محضة بالنحو الذي شرحناه تفصيلاً فيما مضى فقد استفحل وطغى، فكيف لو افترضنا أن هذه المبررات الذاتية أضيفت إليها مبررات موضوعية من الناحية الشكلية، إذن لكان هذا الشك أسرع إلى الانتشار والتعمق والرسوخ وفي النهاية إلى تقويض هذه التجربة.
النقطة الرابعة: عبارة عن إن أنصاف الحلول أو المساومة هنا كانت في الواقع اشتراكاً في المؤامرة وكانت تحقيقاً للمؤامرة من ناحية الإمام (عليه السلام) ولم تكن تعبيراً عن الإعداد لإحباط هذه المؤامرة لان المؤامرة لم تكن مؤامرة على شخص الإمام علي (عليه السلام) لم تكن مؤامرة على حاكمية الإمام علي (عليه السلام) حتى يقال: انه يمهد لهذه الحاكمية بشيء من هذه الحلول الوسط، وإنما المؤامرة كانت مؤامرة على وجود الأمة الإسلامية، على شخصية هذه الأمة، على أن تقول كلمتها في الميدان بكل قوة وجرأة وشجاعة، على إن تَنسَلِخ عن شخصيتها وينصب عليها قيم من أعلى يعيش معها عيش الأكاسرة والقياصرة مع شعوب الأكاسرة والقياصرة. هذا الذي كان يسمّى بالمصطلح الإسلامي بالهرقلية والكسروية.
هذه هي المؤامرة.
وهذه المؤامرة هي التي كان يسعى خط السقيفة بالتدريج عامداً أو غير عامد إلى تعميقها إلى إنجاحها في المجتمع الإسلامي.
فلو أن الإمام (عليه السلام) كان قد مارس أنصاف الحلول، لو كان قد باع الأمة بيعاً مؤقتاً مع خيار الفسخ، إذن لكان بهذا قد اشترك في إنجاح وفي سلخ الأمة عن إرادتها وشخصيتها.
كانت الأمة وقتئذ بحاجة كبيرة جداً لكي تستطيع أن تكون على مستوى مسؤوليات ذلك الموقف العصيب، وعلى مستوى القدرة للتخلص من تبعات هذه المؤامرة.
كان لا بد من أن تشعر بكرامتها بإرادتها، بحريتها، باصالتها، بشخصيتها في المعترك وهذا كله مما لا يتفق مع ممارسة الإمام (عليه السلام) لإنصاف الحلول.
النقطة الخامسة: التي لا بد من الالتفات إليها في هذا المجال هي إن الإمام (عليه السلام) لو كان قد أمضى هذه الأجهزة الفاسدة التي خلفها عثمان الخليفة من قبله فليس من المعقول بمقتضى طبيعة الأشياء أن يستطيع بعد هذا أن يمارس عملية التغيير الحقيقي في هذه التجربة التي يتزعمها.
وفي الواقع إن هذا الفهم لموقف أمير المؤمنين (عليه السلام) الذي اعرضه في هذه النقطة مرتبط بحقيقة مطلقة تشمل موقف أمير المؤمنين (عليه السلام) وتشمل أي موقف رسالي عقائدي آخر مشابه لموقف أمير المؤمنين (عليه السلام) أي موقف آخر يستهدف تغييراً جذرياً أو إصلاحياً حقيقياً في مجتمع أو بيئة أو حوزة أو في أي مجتمع آخر من المجتمعات وهذه الحقيقة المطلقة هي إن كل إصلاح لا يمكن أن ينشأ على يد الأجهزة الفاسدة نفسها التي لا بد أن يطالها التغيير.
فلو افترضنا أن الزعيم المسؤول عن إصلاح تلك البيئة أقر الأجهزة الفاسدة التي يتوقف الإصلاح على إزالتها وعلى تبديدها، لو انه أقر هذه الأجهزة وتعاون معها وأمضاها ولو مؤقتاً، ثم بعد أن إكتسب القوة والمزيد من القدرة، وامتد أفقياً وعامودياً في أبعاد هذه التجربة التي تزعمها، بعد هذا استبدل هذه الركائز بركائز أخرى هذا المنطق منطق لا يتفق مع طبيعة العمل الاجتماعي ومع طبيعة الأشياء وذلك لان هذا الزعيم من أين سوف يستمد القوة من أين سوف تتسع له القدرة؟ من أين سوف يمتد أفقياً وعامودياً؟
هل تهبط عليه هذه القوة بمعجزة من السماء؟ لا... وإنما سوف يستمد هذه القوة من تلك الركائز نفسها...
أي زعيم في أية بيئة يستمد قوته وتتعمق هذه القوة عنده باستمرار. من ركائزه، من أسسه من أجهزته التي هي قوته التنفيذية التي هي واجهته الأمة على ، التي هي تعبيره، التي هي تخطيطه، فإذا افترضنا أن هذه الأجهزة كانت هي الأجهزة الفاسدة التي يريد المخطط الإصلاحي إزالتها وتبديلها بأجهزة أخرى، فليس من المعقول أن يقول الزعيم في أية لحظة من اللحظات، وفي أي موقف من المواقف: دع هذه الأجهزة معي دعني اعمل مع هذه الأجهزة حتى امتد حتى اشمخ وبعد أن امتد واشمخ أستطيع أن اقضي على هذه الأجهزة. فإن هذا الشموخ الناتج من هذه الأجهزة لا يمكن أن يقضي على هذه الأجهزة. النتيجة منطقياً مرتبطة بمقدماتها والنتيجة واقعياً مرتبطة أيضاً بركائزها وأسسها، فهذا الشموخ المستمد من ركائز فاسدة، من أجهزة فاسدة، لا يمكن أن يعود مرة أخرى فيتمرد على هذه الأجهزة.
هذا الزعيم حتى لو كان حسن النية، حتى لو كان صادقاً في نيته وفي تصوره سوف يجد في نهاية الطريق أنه عاجز عن التغيير، سوف يجد في نهاية الطريق انه لا يتمكن أن يحقق أهدافه الكبيرة لان الزعيم مهما كان زعيماً، والرئيس مهما كان حاكماً وسلطاناً، لا يغير بيئة بجرة قلم، لا يغير بيئة بإصدار قرار بإصدار أمر، وإنما تتغير البيئة عن طريق الأجهزة التي تنفذ إرادة هذا الزعيم، وتخطيط هذا الزعيم، إذن كيف سوف يستطيع هذا الزعيم أن ينفذ إرادته، أن يحقق أهدافه أن يصل إلى أمله؟
فطبيعة الأشياء وطبيعة العمل التغييري في أي بيئة تفرض على أي زعيم يبدأ هذا العمل أن يبني زعامته بصورة منفصلة عن تلك الأجهزة الفاسدة وهذا ما كان يفرض على الإمام (عليه السلام) أن لا يمضي مخلفات عثمان الإدارية والسياسية...؟
النقطة السادسة: التي لا بد من الالتفات إليها أيضاً في هذا المجال هي أن الإمام (عليه السلام) لو كان قد أمضى ولو مؤقتاً الأجهزة التي خلفها عثمان أمضى مثلاً ولاية معاوية بن أبي سفيان وحاكميته على الشام لحصل من ذلك على نقطة قوة مؤقتة.
لو باع الأمة من معاوية بيعاً مؤقتاً مع خيار الفسخ إذن لاستطاع بذلك أن يحصل على نقطة قوة ونقطة القوة هي أن معاوية سوف يبايعه وسوف يبايعه أهل الشام وهذه النقطة نقطة قوة في حساب عملية التغيير لكن في مقابل هذا أيضاً سوف يحصل معاوية بن أبي سفيان، على نقطة قوة كما حصل الإمام (عليه السلام) على نقطة قوة ونقطة القوة التي سوف يحصل عليها معاوية هي اعتراف الإمام (عليه السلام) صاحب الأطروحة الجديدة صاحب الخط الإسلامي الآخر المعارض على طول الزمن منذ تشكلت السقيفة بشرعية معاوية بن أبي سفيان بأن معاوية رجل على اقل التقادير يوصف بأنه عامل قدير على تسيير مهام الدولة وعلى حماية مصالح المسلمين وعلى رعاية شؤونهم هذا الاعتراف. هو المدلول العرفي الواضح لمثل هذا الإمضاء في الذهنية الإسلامية العامة، فنقطة قوة لمعاوية مقابل نقطة قوة لعلي (عليه السلام)..
ونحن إذا قارنا بين هاتين النقطتين فسوف لن ننتهي إلى قرار يؤكد أن نقطة القوة التي حصل عليها الإمام (عليه السلام) هي أهم في حساب عملية التغيير الاجتماعية التي يمارسها الإمام (عليه السلام) من نقطة القوة التي يحصل عليها معاوية، خاصة إذا التفتنا إلى أن تغيير الولاة في داخل الدولة الإسلامية وقتئذ لم يكن عملية سهلة ولم يكن عملية بهذا الشكل من اليسر الذي نتصوره في دولة مركزية تسيطر حكومتها المركزية على كل أجهزة الدولة وقطاعاتها.
ليس معنى أن معاوية يبايع أو يأخذ البيعة لخليفة في المدينة أن جيشاً في الحكومة المركزية سوف يدخل الشام وان هناك ارتباطاً عسكرياً حقيقياً سوف يوجد بين الشام وبين الحكومة المركزية وإنما يبقى هذا الوالي بعد اخذ البيعة همزة الوصل الحقيقية بين هذا البلد وبين الحكومة المركزية لضعف مستوى الحكومة المركزية وقتئذ من ناحية، ومن ناحية أخرى لترسخ معاوية في الشام بالخصوص لأن الشام لم تعرف حاكماً مسلماً قبل معاوية وقبل أخي معاوية ومنذ دشن الشام حياته الإسلامية فإنما دشنها على يد أولاد أبي سفيان إذن ترسخ معاوية من الناحية التاريخية والصلاحيات الاستثنائية التي أعطيت له من قبل عمر بن الخطاب في أن ينشئ له سلطنة وملكية في الشام بدعوى أن هذا يكون مظهر عز وجلال للإسلام في مقابل دولة القياصرة.
هذه الصلاحيات الاستثنائية التي أخذها معاوية من عمر بن الخطاب لأجل إنشاء مظاهر مستقلة في الشام، لا تشبه الوضع السياسي في الدولة الإسلامية في باقي الأقاليم وهذا مما رسخ نوعاً من الانفصالية في الشام عن باقي أجزاء جسم الدولة الإسلامية.
ثم الصلاحيات التي أخذها بعد هذا من عثمان بن عفان حينما تولى الخلافة، وحينما شعر بأنه قادر على أن يستهتر بشكل مطلق بالأمر والنهي، بحيث لم يبق طيلة مدة خلافة عثمان أي ارتباط حقيقي بين الشام والمدينة وإنما كان هو الآمر والناهي في الشام مما جعل الشام يعيش حالة شبه انفصالية في الواقع وان لم تكن انفصالية بحسب العرف الدستوري للدولة الإسلامية وقتئذ، وهذا مما يعقد الموقف على أمير المؤمنين (عليه السلام) ويجعل نقطة القوة التي يحصل عليها وهي مجرد البيعة في الأيام الأولى نقطة غير حاسمة بينما إذا أراد بعد هذا أن يعزل معاوية فبامكان معاوية أن يثير - إلى جانب وجوده المادي القوي المترسخ في الشام ـ الشبهات على المستوى التشريعي والإسلامي.
لماذا يعزلني؟
ماذا صدر مني حتى يعزلني بعد أن اعترف باني حاكم عادل صالح لإدارة شؤون المسلمين؟
ما الذي طرأ وما الذي تجدد؟
مثل هذا الكلام كان بامكان معاوية أن يوجهه حينئذ إلى الإمام (عليه السلام) ولم يكن للإمام (عليه السلام) أن يعطي جواباً مقنعاً للرأي العام الإسلامي وقتئذ على مثل هذه الشبهة.
بينما حين يعزله من البداية يعزله على أساس انه يؤمن بعدم صلاحيته، وبأنه لا تتوفر فيه الشروط اللازمة في الحاكم الإسلامي، وهو لا يتحمل مسؤولية وجوده كحاكم، في الفترة السابقة التي عاشها معاوية حاكماً من قبل عثمان أو من قبل عمر بن الخطاب.
النقطة السابعة: التي لا بد من الالتفات إليها في هذا المجال هي: أن هذه الشبهة تفترض أن معاوية بن أبي سفيان لو أن الإمام (عليه السلام) أمضى حاكميته وأمضى ولايته لبايعه ولأعطى نقطة القوة هذه إلى أمير المؤمنين (عليه السلام) ولكن لا يوجد في الدلائل والقرائن التي كانت تكتنف موقف الإمام (عليه السلام) ما يوحي بصحة هذا الافتراض، فان معاوية لم يعص علياً لأجل انه عزل عن الولاية، وإنما كان ذلك في اكبر الظن جزءاً من مخطط لمؤامرة طويلة الأمد للأموية على الإسلام، الأموية كانت تريد أن تنهب مكاسب الإسلام بالتدريج هذا النهب الذي عبر عنه بأقسى صورة أبو سفيان حينما ركل قبر حمزة رضوان اللّه عليه بقدمه وهو يقول: إن هذا الدين الذي قاتلتمونا عليه، هذا الدين الذي بذلتم دماءكم في سبيله، وضحيتم في سبيله قوموا واقعدوا وانظروا كيف أصبح كرة في يد صبياننا وأطفالنا.
كان الشرف الأموي يريد أن يقتنص وان ينهب مكاسب البناء الإسلامي والوجود الإسلامي، وكانت هذه المؤامرة تنفذ على مستويات وكانت المرحلة الأولى من هذه المؤامرة ترسخ الأخوين في الشام يزيد بن أبي سفيان ثم معاوية بعد يزيد بن أبي سفيان بعد يزيد. ومحاولة استقطاب معاوية للشام، عن طريق بقائه هذه المدة الطويلة فيها.
ثم كان معاوية بن أبي سفيان بنفسه، ينتظر الفرصة الذهبية التي يتيحها مقتل عثمان بن عفان هذه الفرصة الذهبية التي تعطيه سلاحاً غير منتظر يمكن أن يمسكه ويدخل به إلى الميدان.. ولهذا تباطأ عن نصرة عثمان بن عفان كان عثمان يستنصره ويستصرخه ويؤكد له انه يعيش لحظات الخطر ولكن معاوية كان يتلكأ في إنقاذه وكان معاوية ـ على أقل تقدير ـ قادراً على أن يؤخر هذا المصير المحتوم بعثمان إلى مدة أطول لو انه وقف موقفا ايجابياً حقيقياً في نصرة عثمان بن عفان إلا انه تلكأ وتلعثم وكان يخطط لكي يبقى هذا التيار كاسحاً ولكي يخرج عثمان بن عفان على يد المسلمين ميتاً ثم بعد هذا لكي يأتي ويمسك بزمام هذا السلاح ولكي يقول أنا ابن عم الخليفة المقتول ومن المعلوم أن معاوية سوف لن يتاح له في كل يوم، أن يكون ابن عم الخليفة المقتول، فهذه الفرصة الذهبية التي كانت على مستوى الأطماع والآمال الأموية لنهب كل مكاسب الإسلام هذه الفرصة الذهبية لم يكن من المظنون أن معاوية سوف يغيرها عن طريق الاكتفاء بولاية الشام، ولاية الشام كانت مرحلة أما منذ قتل عثمان بدأ معاوية في نهب كل الوجود الإسلامي، وتزعم كل هذا الوجود وكان هذا يعني أن تعيينه أو إبقاءه والياً على الشام سوف لن يكون على مستوى أطماعه في المرحلة الأولى التي بدأت بمقتل عثمان بن عفان من مراحل المؤامرة الأموية على الإسلام.
وأخيراً لا بد من الالتفات أيضاً إلى شيء آخر: هو أن الوضع الذي كان يعيشه الإمام (عليه السلام) في ملاحظة طبيعة الأمة في ذلك الوضع، وطبيعة الإمام (عليه السلام) في ذلك الوضع، لم يكن ليوحي بالاعتقاد بالعجز عن أمكان النجاح لعملية التغيير دون مساومة.
ومن الواضح أن الفكرة الفقهية عن توقف الواجب الأهم على المقدمة المحرمة، إنما تكون فيما إذا كان هناك توقف بالفعل، بحيث يحرز أن هذا الواجب الأهم لا يمكن التوصل إليه إلا عن طريق هذه المقدمة المحرمة، والظروف وطبيعية الأشياء وقتئذ لم تكن توحي، ولم تكن تؤدي إلى اليقين بمثل هذا التوقف.
وذلك لأن المؤامرة التي كان علي (عليه السلام) قد اضطلع بمسؤولية إحباطها حينما تولى الحكم لم تكن قد نجحت بعد بل كانت الأمة في يوم قريب سابق على يوم مقتل عثمان قد عبرت تعبيراً معاكساً مضاداً لواقع هذه المؤامرة ولمضمون هذه المؤامرة.
هذه المؤامرة صحيح إنها تمتد بجذورها إلى أمد طويل قبل هذا التاريخ، المؤامرة على وجود الأمة الإسلامية فإن الأمة الإسلامية التي سهر عليها رسول الله (صلى الله عليه وآله) على إعطائها اصالتها وشخصيتها وكرامتها ووجودها، حتى كان قد الزم نفسه والزمه ربه بالشورى والتشاور مع المسلمين لأجل تربية المسلمين تربية نفسية وإعدادهم لا تحمل مسؤولياتهم وإشعارهم بأنهم هم الأمة التي يجب أن تتحمل مسؤوليات هذه الرسالة خلفها رسول الله (صلى الله عليه وآله) وهي تعيش هذه الروحية وتعيش على هذا المستوى عاطفياً ونفسياً، وبدأت جذور المؤامرة للقضاء على وجود الأمة كافة وتحويل الوجود إلى السلطان والحاكم.
أول جذر من جذور هذه المؤامرة أعطي كمفهوم في السقيفة حينما قال احد المتكلمين فيها من ينازعنا سلطان محمد.
والسقيفة وان كانت بمظهرها اعترافاً بوجود الأمة لأن الأمة تريد أن تتشاور في أمر تعيين الحاكم بعد رسول الله (صلى الله عليه وآله) ولكن المفهوم الذي أعطي في السقيفة والذي كتب له أن ينجح يوم السقيفة، وان يمتد بأثره بعد ذلك بعد يوم السقيفة هذه، المفهوم كان بحد ذاته ينكر وجود الأمة.
كان ينظر إلى النبوة على إنها سلطان قريش إنها سلطان عشيرة معينة وهذه العشيرة المعينة هي التي يجب أن تحكم وان تسود، نظرية مالكية العشيرة، التي تتحدى وجود الأمة، وتنكر عليها إصالتها ووجودها وشخصيتها، هذه النظرية طرحت كمفهوم في السقيفة ثم بعد هذا امتدت واتسعت عملياً ونظرياً.
عمر بن الخطاب كان أيضاً يعمق بشكل آخر هذا المفهوم.
في مرة من المرات سمع عمر بن الخطاب أن المسلمين يتحلقون حلقاً حلقاً، ويتكلمون في أن أمير المؤمنين إذا أصيب بشيء فمن يحكم المسلمين بعد عمر؟
المسلمون أناس يحملون همّ التجربة هّم المجتمع همّ الأمة تطبيقاً لفكرة: إن كل مسلم يحمل الهموم الكبيرة يفكرون في أن عمر بن الخطاب حينما يموت، من الذي يحكم المسلمين؟
هذا تعبير عن وجود الأمة في الميدان.
انزعج عمر بن الخطاب جدّاً لهذا التعبير عن وجود الأمة. لأنه يعرف أن وجود الأمة في الميدان معناه وجود علي (عليه السلام) في الميدان، معناه وجود الخط المعارض في الميدان، كلما نمت الأمة كلما تأصل وجودها أكثر واكتسبت أرادتها ووعيها بدرجة أعمق كلما كان علي هو الأقدر وهو الأكفأ لممارسة عملية الحكم، لهذا صعد على المنبر وقال ما مضمونه: أن أقواماً يقولون ماذا ومن يحكم بعد أمير المؤمنين...؟ ألا أن بيعة أبي بكر كانت فلتة وقى اللّه المسلمين شرها.
يعني ماذا يريد أن يقول في هذا الكلام يريد أن يقول في هذا الكلام بان المسلمين لا يجوز أن يعودوا مرة أخرى إلى التفكير المستقل في انتخاب شخص وإنما الشخص يجب أن يعين لهم من أعلى. لكن لم يستطع ولم يجرأ أن يبين هذا المفهوم والا هو في نفسه كان هكذا يرى...
كان يرى أن الأمة يجب أن تستمع منه هو يعين من أعلى هذا الحاكم، لا أن الأمة نفسها تفكر في تعيين هذا الحاكم كما فكرت مثلاً عقيب وفاة رسول الله (صلى الله عليه وآله) كان ذلك فلتة وقى الله المسلمين شرها، والأمة يجب ألا تعود إلى هذه الفلتة مرة أخرى.
إذن فما هذا البديل؟ هذا البديل لم يبرزه لكن البديل كان في نفسه هو إني أنا يجب أن أعين هذا أيضاً، كان استمرارية لجذور المؤامرة وبعد هذا عبر عن هذا البديل بكل صراحة وهو على فراش الموت، وحينما طلب منه المتملقون أن يوصي وألا يهمل أمة محمد (صلى الله عليه وآله)، حينما طلبوا منه ذلك عبر عن هذا البديل بكل صراحة فأسند الأمر إلى ستة أيضاً كان فيه نوع من التحفظ لأنه لم يعين واحداً وحيداً لا شريك له وإنما عين ستة كأنه يريد أن يقول: بأني أعطيت درجة من المشاركة للامة عن طريق إني أسندت الأمر إلى ستة هم يعينون فيما بينهم واحداً منهم.
انظروا كيف كانت المؤامرة على الأمة تنفذ بالتدريج.
كانت المؤامرة على وجودها على كيانها على إرادتها كأمة.. تحمل اشرف رسالات السماء.
طبعاً عبد الرحمن بن عوف الذي كان قطب الرحى في هؤلاء الستة أيضاً لم يستطع في تلك المرحلة أن يطفئ دور الأمة لم يحل المشكلة عن طريق التفاوض فيما بين هؤلاء الستة، في اجتماع مغلق وإنما ذهب يستشير الأمة ويسأل المسلمين من الذي ترشحونه من هؤلاء الستة؟ إلى هنا كانت الأمة لا تزال تحتفظ بدرجة كبيرة من وجودها بحيث إن عمر بن الخطاب لم يستطع أن يغفل وجود الأمة يسأل هذا ويسأل ذاك من تريدون من هؤلاء الستة؟ يقول ما سألت عربياً إلا وقال: علي بن أبي طالب (عليه السلام) وما سألت قرشياً إلا وقال عثمان بن عفان يعني جماهير المسلمين كانت تقول علي بن إبي طالب (عليه السلام) وعشيرة واحدة معينة كانت تريد أن تنهب الحكم من الأمة كانت تقول عثمان لان عثمان بن عفان كان تكريساً لعملية النهب بينما علي بن أبي طالب (عليه السلام) كان تعبيراً وتأكيداً لوجود الأمة في الميدان، ولهذا أرادته الأمة، وأرادت العشيرة عثمان.
ثم بعد هذا جاء عثمان بن عفان وفي دور عثمان بن عفان تكشفت المؤامرة أكثر فأكثر وامتدت أكثر فأكثر.
أصبحت العشيرة تحكم وتقول بكل صراحة بان المال مالنا والخراج خراجنا والأرض أرضنا إن شئنا أعطينا للآخرين وان شئنا حرمناهم.
لكن هذا كلام يقال خارج نطاق الدستور، أما في نطاق الدستور كانت لا تزال الصيغة الإسلامية وهي أن المال مال الله والناس سواسية المسلمون كلهم عبيد الله لا فرق بين قرشيهم وعربيهم وبين عربيهم واعجميهم بين أي مسلم وأي مسلم آخر، هذه كانت الصيغة الدستورية حتى في عهد عثمان لكن هذا الوالي الأموي المتغطرس أو ذاك الأموي المتعجرف أو هذا الأموي المستعجل والمتهور كان ينطق بواقع آخر لا يعبر عن الدستور حيث ينظر إلى الأمة على إنها قطيع يتحكم فيه كيف يشاء، وعلى إن ارض الإسلام مزرعة ينتفع بخيراتها من يشاء هو ويحرم من خيراتها من شاء ولكن منطق الدستور الإسلامي كان هو المتحذر في نفوس أبناء الأمة هذا المنطق هو إن ارض السواد ملك الأمة وان الأمة هي صاحبة الرأي فهي القائدة وهي سيدة الموقف وهذا يعني إن المؤامرة لا تزال غير ناجحة بالرغم من الجذور بالرغم من المقدمات بالرغم من الإرهاصات النظرية والعملية بالرغم من كل ذلك المؤامرة لم تكن ناجحة الأمة كانت هي الأمة، الأمة كانت تأتي إلى عثمان وتقول: لا نريد هذا الوالي لان هذا الوالي منحرف، منحرف لا يطبق كتاب الله وسنة نبيه (صلى الله عليه وآله) ولم يكن يستطيع عثمان بن عفان أن يجيب بصراحة ويقول ليس لك إرادة، هذا الوالي يمثلني أنا، وأنا الحاكم، أنا الحاكم المطلق لم يكن يستطيع عثمان بن عفان أن يقول هذا وإنما كان يعتذر ويقيل ويرجع وهكذا كان يناور مع الأمة يشتغل بمناورات من هذا القبيل مع هذه الأمة التي بدأت تحس بالخطر على وجودها فعبرت الأمة تعبيراً ثورياً عن وجودها وعن كرامتها فقتلت هذا الخليفة وبعدها اتجهت طبيعياً إلى الإمام (عليه السلام) لكي يعبر من جديد عن وجودها لكي يحبط المؤامرة لكي يعيد إلى هذه الأمة كل كرامتها خارج نطاق الدستور وداخل نطاق الدستور لكي يقضي على كل انحراف خرج به الحكام عن الدستور عن الصيغة الإسلامية للحياة.
فمن هنا كانت القضية لا تزال في بدايتها لا تزال الأمة هي الأمة لا تزال بحسب مظهرها على اقل تقدير هي تلك الأمة التي قتلت الحاكم في سبيل الحفاظ على وجودها وعلي (عليه السلام) صاحب الطاقات الكبيرة هو الشخص الوحيد الذي يؤمل فيه أن يصفي عملية الانحراف.
فالظروف والملابسات لم تكن تؤدي إلى يأس... كانت تؤدي إلى أمل وما وقع خارجاً خلال هذه الأربع سنوات كان يؤكد هذا الأمل فان علياً (عليه السلام) لولا معاكسات جانبية لم تكن تنبع من حقيقة المشاكل الكبرى في المجتمع، لاستطاع أن يسيطر على الموقف.
لولا مسألة التحكيم مثلاً، لولا أن شعاراً معيناً طرح من قبل معاوية هذا الشعار الذي انعكس بفهم خاطئ عند جماعة معينة في جيش الإمام (عليه السلام) لولا هذا لكان بينه وبين قتل معاوية وتصفيته بضعة أمتار.
إذن كان الأمل في أن علياً (عليه السلام) يمكنه أن يحقق الهدف ويعيد للامة وجودها من دون حاجة إلى المساومات وأنصاف الحلول كان هذا الأمل أملاً معقولاً وكبيراً ولهذا لم يكن هناك مجوز لارتكاب أنصاف الحلول والمساومات.
ولكن هذا الأمل قد خاب كما قلنا. انتهى آخر أمل حقيقي في هذه التصفية حينما خر هذا الإمام (عليه السلام) العظيم صريعاً في مسجده صلوات الله عليه وانتهى آخر أمل في هذه التصفية وقدر للمؤامرة على وجود الأمة أن تنجح وان تؤتي مفعولها كاملاً.
غير إن الإمام (عليه السلام) حينما فتح عينيه في تلك اللحظة العصيبة ورأى الحسن (عليه السلام) وهو يبكي ويشعر ويحس ويدرك بان وفاة أبيه هي وفاة لكل هذه الآمال أراد أن ينبهه إلى إن الخط لا يزال باقياً والى أن التكليف لا يزال مستمراً وان نجاح المؤامرة لا يعني أن نلقي السلاح.
نعم المؤامرة يا ولدي نجحت ولهذا سوف تشردون وسوف تقتلون ولكن هذا لا يعني أن المعركة انتهت يجب أن تقاوم حتى تقتل مسموماً، ويجب أن يقاوم أخوك حتى يقتل بالسيف شهيداً ولا بد أن يستمر الخط حتى بعد أن سرق من الأمة وجودها لان محاولة استرجاع الوجود إذا بقيت في الأمة فسوف يبقى هناك نفس في الأمة سوف يبقى هناك ما يحصن الأمة ضد التميع والذوبان.
الأمة حينما تتنازل عن هذه الإرادة والشخصية لجبار من الجبابرة حينئذ تكون عرضة للذوبان والتميع في أتون أي فرعون من الفراعنة.
لكن إذا بقي لدى الأمة محاولة استرجاع هذا الوجود باستمرار هذه المحاولة التي يحاولها خط علي (عليه السلام) ومدرسة علي (عليه السلام) والشهداء والصديقون من أبناء علي (عليه السلام) وشيعته إذا بقيت هذه المحاولة فسوف يبقى مع هذه المحاولة أمل في أن تسترجع الأمة وجودها وعلى اقل تقدير سوف تحقق هذه المحاولة كسباً آنياً باستمرار وهو تحصين الأمة ضد التميع والذوبان المطلق في إرادة ذلك الحاكم وفي إطار ذلك الحاكم.
وهذا ما وقع.
أسأل اللّه سبحانه أن يجعلنا من أنصاره وشيعته والسائرين في خطه والمساهمين في هذه المحاولات.
الشهيد السيد محمد باقر الصدر
التعليقات (0)