كانت فاطمة (عليها السلام) عزيزة على النبي (صلى الله عليه وآله)، وبلغ حبّه لها أقصى ما يمكن أن يبلغه حبّ إنسان لإنسان، ولم تكن أبوّته لها هي وحدها مصدر هذا الحب العظيم بل كانت هناك عوامل عديدة زادت النبي (صلى الله عليه وآله) تعلقاً بابنته وحباً لها. منها:
- أولاً: إنّها كانت وحيدته بعد أن فقد الأولاد واحداً بعد واحد.
- ثانياً: شخصيتها الفريدة، فمن تتبّع أخبارها تبدو له فاطمة (عليها السلام) ذات شخصية متفوّقة، وذكاء فطري عظيم، وحسن تفهّم للأمور، وتحمّل للشدائد، وإدراك لظروف المجتمع الذي تعيش فيه.
- ثالثاً: وقوفها إلى جنب أبيها في مطلع الدعوة وهي لا تزال صغيرة السن لا وقوف الفتاة اليتيمة التي فقدت أمها فأصبحت عبئاً على أبيها كما يحدث في مثل هذه الحالات. بل وقوف الفتاة التي تدرك ظروف أبيها وتعلم خطر الرسالة التي يدعو إليها، وتعرف ما يحيط به من شدائد وأهوال وعداوات وما يحتاج إليه من مخلصين ومناضلين أكفاء، يشاركونه حمل الأعباء الضّخمة التي بات يحملها.
لهذا تناست فاطمة (عليها السلام) أنها صغيرة السن، يتيمة الأم، محتاجة لمن يرعاها في بيتها ويقوم على شؤونها، وصمّمت على أن تقف إلى جنب أبيها وقوف المرأة الصلبة القوية العزيمة المضحية براحتها ورفاهيتها، لا وقوف البنت المدللة التي تزيد أباها تعباً على تعبه، ولو أن أيّ فتاة أخرى غير فاطمة (عليها السلام) وغير متمتّعة بسجايا فاطمة (عليها السلام) مرّت بها ظروف فاطمة (عليها السلام) لكانت بالفعل في مثل ذلك السنّ عبئاً على أبيها وشاغلاً من مشاغله وهماً من همومه.
ولكن فاطمة (عليها السلام) الطّفلة صارت ربّة بيت أبيها (صلى الله عليه وآله) بعد وفاة أمها (عليها السلام) تكفيه التفكير بمشاغل بيته، ثمّ صارت عضداً له في الشدائد التي أصابته، فحين يبلغها أنّ أباها تعرّض لأذى قريش تركض إليه ركض اللبوة وتقف إلى جانبه مدافعة عنه، ثم تأخذ بيده مزيلة عن جسده ما ألقته قريش عليه، أو تضمّد جراحه بيديها مترفّعة عن ضعف النساء في هذه الحالات، مثبتة لأبيها أنّ إلى جانبه بطلة مكافحة لا طفلة مدلّلة.
ولم يجد محمد (صلى الله عليه وآله) كلمة تعبّر عن تقديره لما لقي من ابنته الصغيرة وما أدّته له في مواقفه من حنان ومشاركة ونضال أفضل من أن يلقّبها (أمّ أبيها) لقد سمّاها بهذا الاسم ليدل على ما كان لها من أثر في حياته وفي تأدية رسالته.
وهكذا نرى فاطمة (عليها السلام) فتاة يتيمة الأم في منزل والدها وفي أداء رسالته ما لا يمكن أن تحمل مثله فتاة في مثل سنّها ومثل ظروفها فمرّت طفولتها وصباها في عناء وتنغيص وبلاء. لقد نغّص المشركون حياتها في صباها بما كانوا يفعلونه بأبيها وما كانوا يؤذونه به، فكيف عاملها المسلمون في شبابها؟! وهل حرص المسلمون على أن تكون تلك الفتاة شريكة محمد (صلى الله عليه وآله) في الكفاح؟! والتي استحقّت أن يقول عنها أنها (أم أبيها)؟! هل حرص المسلمون على أن يعوّضوها في شبابها عمّا فاتها في صباها من راحة وهناء؟! سنرى جواب ذلك فيما بعد.
وهنا لابدّ من الإشارة إلى أنّ فاطمة (عليها السلام) لم تشارك في الدعوة الإسلامية بجدها وحده، ولم تضحّ براحتها وحدها، ولم تكن بطلة بأعمالها فقط. إنّ فاطمة (عليها السلام) قدّمت للدعوة الإسلامية فوق هذا ما كانت تحتاجه تلك الدعوة من مال كثير ورثته عن أمها خديجة (عليها السلام). فإنّ خديجة التاجرة الثريّة ذات الأموال الكثيرة قد خلفت ما بقي من تلك الأموال لزوجها ولابنتها، وهكذا كانت فاطمة (عليها السلام) الوارثة لأموال خديجة، فأين ذهب ذاك المال؟! وهل استطاعت فاطمة (عليها السلام) أن تنعم به؟ لقد وضعت ذاك المال كلّه في يد أبيها لينفقه على الدعوة الإسلامية ورجالها، ورضيت حياة الفقر الشديد، وعاشت في الحرمان تطحن القمح بيدها لبيتها.
وعندما انتصرت الدعوة وفاز المسلمون رأى النبي (صلى الله عليه وآله) أن من حقّ ابنته البطلة المكافحة أن تستريح قليلاً، وكانت قد حصلت له مزرعة فرأى أن يهبها لابنته لتعيش بمنتوجها بعد أن أصبحت هي وزوجها ذات أسرة وأطفال. لقد أعطاها مزرعة (فدك)، وهكذا كانت هذه المزرعة مورد الرزق لهذه الأسرة النبوية المؤلّفة من ابنة النبي (صلى الله عليه وآله) وزوجها وأولادهما أسباط النبي (صلى الله عليه وآله).
وفي اليوم الأول بعد وفاة النبي (صلى الله عليه وآله) كان أوّل إجراء اتخذته السلطات الحاكمة هو أن طلبت إلى فاطمة (عليها السلام) أن ترفع يدها عن (فدك). وبالرغم ممّا كانت فيه فاطمة (عليها السلام) من حزن على أبيها (صلى الله عليه وآله) ومن تألم للأسلوب الذي تمّ فيه الاستيلاء على الخلافة فقد هالها أن يبلغ الأمر إلى هذا الحدّ فتحرم بعد وفاة أبيها (صلى الله عليه وآله) حتى من موارد العيش، فكان لابدّ لها من النضال من جديد. وهكذا نرى أن فاطمة (عليها السلام) العزيزة على النبي (صلى الله عليه وآله) ووحيدته تضطرّ لأن تقف على أبواب من أوجدهم أبوها مطالبة بحقّها.
واضطرّت لأن تسأل بأيّ حق يحرمونها من رزقها بعد وفاة أبيها (صلى الله عليه وآله)، وإذا بالأمر يزداد إمعاناً في تعذيبها بأن توقف موقف المدعية بغير حقّها، يُطلب منها شهود على أنّ أباها وهبها (فدكاً)، وقد كان من الطبيعي أن لا يحضر النبي (صلى الله عليه وآله) الشُّهود الغرباء ليشهدهم على تصرّف عائلي بحت يجريه بينه وبين ابنته.
فزاد هذا الطلب في آلام فاطمة (عليها السلام)، إذن فإنّ البطلة المكافحة التي بذلت راحتها وهناءها وجاهدت بكلّ صلابة مع أبيها العظيم، ثمّ ضحّت بكلّ ما تملك من مال غزير لإنجاح الدعوة الإسلامية، إذن هي اليوم متّهمة ممن أوجدهم أبوها بأنّها كاذبة في دعواها، وأنّ عليها أن تفتش عن شهود ليؤيّدوا دعواها.
وقد كان هذا فوق أن تحتمله فاطمة (عليها السلام) العظيمة، ولكنّها عزمت على السير معهم إلى النهاية حفظاً لآخر حقٍ لها وتنبيهاً للأمة، فأفهمتهم أنه لم يكن من شأن النبي (صلى الله عليه وآله) أن يفتّش عمن يشهد له ولابنته على تصرّف عائلي بحت يخصّمها وحدهما. وأنّ وضع يدها على فدك وتصرّفها بها في حياة أبيها ممّا هو معروف ومشهور كاف لتأكيد قولها، ومع ذلك فإنه حين أعلن لها أبوها بأنه وهبها لها كان حاضراً كلٌ من علي بن أبي طالب (عليه السلام)، وأم أيمن، ثمّ ما شأنكم أنتم بذلك؟! إنّ المال مال أبي فلو فرضنا أنّه لم يكن قد وهبه لي في حياته فإنّي وارثته الوحيدة.
وهناك كانت الأقدار قد أعدت لفاطمة المفاجأة المذهلة، لقد أجابوها بأنها لن ترث عن أبيها شيئاً لا فدكاً ولا غير فدك، وأنّ جميع أموال أبيها مصادرة. وقال الخليفة: لقد سمعت النبي (صلى الله عليه وآله) يقول: (نحن معاشر الأنبياء لا نورّث).
قال هذا القول معترفاً بأنّ أحداً من المسلمين غيره لم يسمعه من النبي (صلى الله عليه وآله) وأنه وحده الذي سمعه، ثمّ أضاف بأنه لا يقبل شهادة عليه (عليه السلام) وأم أيمن لأنهما رجل وامرأة وهو يريد رجلين. على أننا قبل أن نعرض مناقشة فاطمة لهم نتساءل: لماذا يريدنا الخليفة على أن نقبل في هذا الأمر قوله وحده، وقد جعل من نفسه شاهداً يشهد لنفسه في دعوى هو فيها المدعّى عليه. وإذا كان يرى أنّ شهادة رجل وامرأة لا تُقبل فكيف تُقبل شهادة رجل وحده؟!
ثمّ كيف يصح أن يجعل من نفسه خصماً، وقاضياً، وشاهداً؟!
إن الطريق السليم في مثل هذا الحال هو الآتي: إن القاعدة الإسلامية هي أن يرث كل وارث مال موّرثه مهما كانت شخصية هذا المورّث. وهنا رجل يدعي أنه سمع من النبي (صلى الله عليه وآله) غير هذا. إذن فإنّ عليه وفقاً لكلّ قانون في العالم أن يعرض هذا القول على المسلمين، ثم يختار المسلمون قاضياً ويتقدّم هو كشاهد فإذا وجد من يؤيد شهادته أخذ القاضي والخصم والشاهد، فذلك أمر لا يقرّه لا عرف ولا قانون.
هذا بصرف النظر عن شخصية صاحبة الدعوى وشخصيّة أبيها وشخصيتي الشاهدين، ومثل هذا القول الذي نقوله، قاله الكثيرون من العلماء المنصفين المتحررين من المسلمين، ونذكر منهم العالم المصري الأزهري الشيخ محمود أبو ريّة... قال في [مجلة الرسالة المصرية] في (العدد: 518 من السنة 11 / ص 475) ما هذا لفظه:
(بقي أمر لابدّ من أن نقول فيه كلمة صريحة هو موقف أبي بكر من فاطمة بنت الرسول (صلى الله عليه وآله)، وما فعل معها في ميراث أبيها لأننا إذا سلمنا بأنّ خبر الآحاد الظني يخصّص الكتاب القطعي، وأنه قد ثبت أن النبي (صلى الله عليه وآله) قد قال أنه لا يورث، وأنه لا تخصيص في عموم هذا الخبر فإن أبا بكر كان يسعه أن يعطي فاطمة بعض تركة أبيها، كأن يخصّها بفدك، وهذا من حقه الذي لا يعارضه فيه أحد إذ يجوز للخليفة أن يخصّ من يشاء بما شاء وقد خصّ هو نفسه الزبير بن العوام ومحمد بن مسلمة وغيرهما ببعض متروكات النبي (صلى الله عليه وآله) على أنّ فدكاً هذه التي منعها أبو بكر من فاطمة لم تلبث أن أقطعها الخليفة عثمان لمروان).
هذا ما ذكره هذا العالم الأزهري. وقد ورد في [معجم البلدان] أنه أدى اجتهاد عمر بن الخطاب لما ولي الخلافة أن يردّ فدكاً إلى ورثة النبي (صلى الله عليه وآله)، فكان علي بن أبي طالب والعباس عمه يتنازعان فيها، ويدعي العباس أنه هو وارث النبي (صلى الله عليه وآله). وهذا الكلام قد انفرد بذكره صاحب [معجم البلدان] وهو كلام لا يصحّ، لأنه إذا كان النبي (صلى الله عليه وآله) (لا يورث) - كما روى أبو بكر - فكيف يدعي العباس أنه وارثه؟! وإذا كان يورّث فوارثه ابنته فاطمة (عليها السلام).
المؤرخ الإسلامي الكبير السيد حسن الأمين
التعليقات (0)