من المقصود بقوله تعالى "عبس وتولى" ؟
بقلم الأستاذ الباحث الكبير سماحة آية الله الشيخ محمد هادي معرفة (قد)
ومما جعله أهل التبشير المسيحی ذريعة للحط من كرامة القرآن ـ بزعم وجود التناقص فيه ـ ما عاتب الله به نبيه (ص) بشأن عبوسه فی وجه ابن أم مكتوم المكفوف، جاء ليتعلم منه ملحاً على مسألته، وهو لا يعلم أنه منشغل بالكلام مع شرفاء قريش. فساء النبی إلحاحه ذلك، فأعرض بوجهه عنه كالحاً متكشراً، الأمر الذی يتنافى وخلقه العظيم الذی وصفه الله به فی وقت مبكر!
جاء قوله تعالى: (وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ) فی سورة القلم، ثانية السور النازلة بمكة. أما سورة عبس فهی الرابعة والعشرون.
جاء فی أسباب النزول: أن رسول الله (ص) كان يناجی عتبة بن ربيعة وأبا جهل بن هشام والعباس بن عبد المطلب وأبياً وأمية ابنی خلف يدعوهم إلى الله ويرجو إسلامهم. وفی هذه الحال جاءه عبد الله ابن أم مكتوم ونادى: يا رسول الله، أقرئنی وعلمنی مما علمك الله، فجعل يناديه ويكرر النداء، ولا يعلم أنه مشغول ومقبل على غيره,حتى ظهرت آثار الكراهة على وجه رسول الله, لقطعه كلامه!
قالوا: وقال فی نفسه: يقول هؤلاء الصناديد: إنما أتباعه العميان والعبيد، فأعرض عنه وأقبل على القوم الذين كان يكلمهم، فنزلت الآيات. وكان رسول الله بعد ذلك يكرمه ويقول إذا رآه: مرحباً بمن عاتبنی فيه ربّی، واستخلفه على المدينة مرتين.
قال الشريف المرتضى: ليس فی ظاهر الآية دلالة على توجهها إلى النبی (ص) بل هو خبر محض لم يصرح بالمخبر عنه, وفيها ما يدل على أن المعنی بها غيره، لأن العبوس ليس من صفات النبی مع الأعداء المنابذين فضلاً عن المؤمنين المسترشدين. ثم الوصف بأنه يتصدى للأغنياء ويتلهى عن الفقراء لا يشبه أخلاقه الكريمة، وقد قال تعالى فی وصفه: (وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ) وقال: (وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ). فالظاهر أن قوله (عَبَسَ وَتَوَلَّى) المراد به غيره.
وهكذا ورد قوله تعالى: (وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ) وقوله: (وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) .
وغيرهما من آيات مكية جاء الدستور فيها بالخفض واللين والرأفة مع المؤمنين، فكيف يا ترى يتغافل النبی (ص) عن خلق كريم هی وظيفته بالذات، ولاسيما مع السابقين الأولين من المؤمنين، وبالأخص مع من ينتمی إلى زوجه الوفية خديجة الكبرى أم المؤمنين.
وقال الشيخ أبو جعفر الطوسی: ما ذكروه سبباً لنزول الآيات إنما هو قول لفيف من المفسرين وأهل الحشو فی الحديث، وهو فاسد، لأن النبی (ص) قد أجل الله قدره عن هذه الصفات، وكيف يصفه بالعبوس والتقطيب وقد وصفه بالخلق العظيم واللين وأنه ليس بفظ غليظ القلب؟! وكيف يعرض النبی (ص) عن مسلم ثابت على إيمانه جاء ليتعلم منه, وقد قال تعالى: (وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ)!؟ ومن عرف النبی وحسن أخلاقه وما خصه الله تعالى به من مكارم الأخلاق وحسن الصحبة حتى قيل: إنه لم يكن يصافح أحداً قط فينزع يده من يده حتى يكون ذلك هو الذی ينزع يده. فمن هذه صفته كيف يقطب وجهه فی وجه أعمى جاء يطلب زيادة الإيمان. على أن الأنبياء (ع) منزهون عن مثل هذه الأخلاق وعما دونها، لما فی ذلك من التنفير عن قبول دعوتهم والإصغاء إلى كلامهم. ولا يجوز مثل هذا على الأنبياء من عرف مقدارهم وتبين نعتهم.
نعم، قال قوم: إن هذه الآيات نزلت فی رجل من بنی أمية كان واقفاً إلى جنب النبی، فلما أقبل ابن أم مكتوم تقذر وجمع نفسه وعبس وتولى، فحكى الله ذلك وأنكره معاتباً له.
قال الطبرسی: وقد روی عن الصادق (ع): أنها نزلت فی رجل من بنی أمية كان عند النبی، فجاء ابن أم مكتوم، فلما رآه تقذر منه وجمع نفسه وعبس وأعرض بوجهه عنه, فحكى الله سبحانه ذلك وأنكره عليه.
قال: ولو صح الخبر الأول لم يكن العبوس ذنباً، إذ العبوس والانبساط مع الأعمى سواء، إذ لا يرى ذلك فلا يشق عليه، فيكون قد عاتب الله سبحانه نبيه بذلك، ليأخذه بأوفر محاسن الأخلاق، وينبهه على عظيم حال المؤمن المسترشد, ويعرفه أن تأليف المؤمن ليقيم على إيمانه أولى من تأليف المشرك طمعاً فی إيمانه.
قال: وقال الجبائی: فی هذا دلالة على أن الفعل إنما يكون معصية فيما بعد لا فی الماضی، فلا يدل على أنه كان معصية قبل النهی عنه، ولم ينهه (ص) إلا فی هذا الوقت.
وقيل: إن ما فعله الأعمى كان نوعاً من سوء الأدب، فحسن تأديبه بالإعراض عنه، إلا أنه كان يجوز أن يتوهم أنه أعرض عنه لفقره, وأقبل عليهم لرياستهم تعظيماً لهم، فعاتبه الله على ذلك.
قال: وروی عن الصادق (ع) أنه قال: كان رسول الله (ص) إذا رأى عبدالله بن أم مكتوم قال: مرحباً مرحباً، لا والله لا يعاتبنی الله فيك أبداً, وكان يصنع به من اللطف حتى كان (ابن أم مكتوم) يكف عن النبی مما يفعل به، أی كان يمسك عن الحضور لديه استحياء منه.
قلت: الأمر كما ذكره هؤلاء الأعلام, من أنها فعلة لا تتناسب ومقام الأنبياء, فكيف بنبی الإسلام المنعوت بالخلق العظيم؟! فضلاً عن أن سياق السورة يأبى إرادة النبی فی توجيه الملامة إليه، ذلك: أن التعابير الواردة فی السورة ثلاثة "عبس","تولى","تلهى". الأولان بصيغة الغياب والأخيرة خطاب.على أن الأولين. (عبس وتولى) فعلان قصديان (يصدران عن قصد وإرادة وعن توجه من النفس)، والأخير (تلهى) فعل غير قصدی (صادر لا عن إرادة ولا عن توجه من النفس)، فإن الإنسان إذا توجه بكُلّيته إلى جانب فإنه ملته عن الجانب الآخر, على ما تقتضيه طبيعة النفس الإنسانية المحدودة، لا يمكنه التوجه إلى جوانب عديدة فی لحظة واحدة! إنما هو الله، لا يشغله شأن عن شأن!
وها الفعل الأخير كان قد توجه الخطاب ـ عتاباً ـ إلى النبی, لانشغاله بالنجوى مع القوم وقد ألهاه ذلك عن الإصغاء لمسألة هذا الوارد, من غير أن يشعر به. فهذا مما يجوز توجيه الملامة إليه (ص): كيف يصرف بكل همه نحو قوم هم ألداء, بحيث يصرفه عمن يأتيه بين حين وآخر, وهو نبی بعث إلى كافة الناس.
وهو عتاب رقيق لطيف يناسب شأن نبی هو (بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ) .
أما الفعلان الأولان فقد صدرا عن قصد وإرادة، كانا قبيحين إلى حد بعيد، الأمر الذی يتناسب مع ذلك الأموی المترفع بأنفه المعتز بثروته وترفه فی الحياة، وكان معروفاً بذلك. وعليه فلا يمكن أن يكون المعنی بالفعل الثالث (غير العمدي) هو المعنى بالفعلين الأولين (العمديين).
التعليقات (0)