شارك هذا الموضوع

التخريب الاجتماعي وغياب دور المثقف

كلما أُذِنَ لهذه الأمة أن تنهض ثقافياً ومعرفياً وتستعيد ما ضاع من عافيتها ظهر ما يعيق ذلك، وكلماً قدّمنا من أكباش الفداء ما يكفي لغسل درائن الجهل والتسويق الأعمى للأفكار والنظريات والآراء جاء من يفسد علينا نشوة الصحو والتنبّه إلى هكذا حال وهي مأساة نعيشها بأكبر مما قد نعيشه من احتراب مع عدوٍ قابع وراء الحدود .


أشياء كثيرة مُخزِيَة بدأت في الظهور وبعضها ولّى ثم عاد إلينا مرة أخرى بِحلّة مُتَّسِخة أكثر بالجهل والرجعية، وبعضها استفحل واستأسد مُستغلاً ظروف السياسة ومآسي الوطن التي سيطرت على عقد التسعينات، وكان ذلك المشهد البائس يخط طريقه وسط حشود من البشر استأنست بحلاوة الصمت واللامبالاة وبعضها (تفلسف قليلاً) وتذرع بالحكمة والاعتدال وعدم شقّ عصا الأمة كل ذلك من أجل عيون المحظيّات من تلك النظريات والرؤى والبدع الكريهة المتماثلة مع عادات الطوائف المُغيَّبة في أدغال أفريقيا السوداء والهند والتي تحوّلت (بالإقرار السلبي) إلى ظواهر ثم إلى سلوك ثم إلى عُرف ديني واجتماعي سيئ جَلَبَ معه من المتاعب ما يفوق متاعب أخرى مُصَدَّرَة من الخارج تراجعت بفضلها الأمة مئات السنين من دون أن يعي القيِّمون على شؤوننا فداحة الخَطب وهول المصاب لما له من تأثير مباشر وغير مباشر على سباق التحضر والتمدّن والمعرفة والإصلاح وهو تأجيل إرادي للحقيقة واليقين سيلعننا التاريخ لا محالة بسببه .


حفنة هي التي باتت تتلاعب بمصائر أمة وشعب أنهكته شواغل السياسة والمناكفة وحروب الاستنزاف بينه وبين الآخرين فراجت أسواقٌ للتطرف والتخوين والتسقيط والنفاق الاجتماعي والسياسي وحتى الديني فانسابت بذلك جموع بشرية حائرة لا تعرف أين ضالتها وفي أحيانٍ أخرى لا تعرف من هي وإلى أين تسير وتلك أسّ المأساة وعينها .


وهنا يثور السؤال المُهم : أين هو المثقف من كل تلك المأساة ؟ وكيف ينظر إلى ذلك وبأي تشخيص ؟ تلك أسئلة حقيقية ومُلِحّة تطرح نفسها بقوة في ضوء ما نعيشه من خراب اجتماعي ومعرفي، ربما لا أتجاوز إذا قلت أن ذلك الدور للمثقف هو غير واضح وبلا معالم، وهو ما أدى إلى انحراف في مسار عمليات البناء الاجتماعي والتأثير في النواة المجتمعية الصلبة وحركة الناس وأشكال التلقي والممارسة، خصوصاً وأن دوره (أي المثقف) هو فرض تُحتّمه المسؤولية الذاتية والاجتماعية فكل خطأ في تفسير دور المثقف يؤدي إلى خطأ في تفسير دور الثقافة .


ثم إن غياب الدور الفاعل للمثقف في حلحلة مفاسد المجتمع يُساعد على تجذير المشكلة ويُحولها من أمر مُدرَك مستجيب للمعاينة والعلاج إلى أمر هلامي ضبابي ذو ملامح سرابية وآليات رملية غير قابلة للتراجع لأنها لا تخضع لأية قواعد أو نظام أفكار، إننا لا نريد حركة إصلاح ديني واجتماعي متطرف كالتي ظهرت في أوربا إبّان القرن السادس عشر وحتى السنوات الأخيرة من القرن الثامن عشر والتي عُرِفَت بالتطهير Puritanism  إلاّ أننا أيضاً لا نريد أن يكون الجهل والخرافة شيطاناً يرقص فوق أشلاء ضحاياه وثوراً هائجاً انطلق داخل حانوت العاديات يُحطّم كل شيئ من دون قيود كما قال فنسنت ليتش .


قلت مرة لأحد المثقفين البارزين ما أخشاه فقال لي " اجلس على حافة النهر وانتظر .. وذات يوم سوف يجيء التيار حاملاً معه جثة عدوك " فعرفت أن مُحدثي ذو وقفة وجلى مترددة، ثم لقيت آخر فصارحته فبادئني بمثلٍ صيني قديم إلاّ أنه مُعبّر حقاً : لن تمنع الطيور من التحليق فوق رأسك ولكن عليك أن تمنعها من أن تعشش في رأسك .


فهل من مجيب وناصر ومغيث لهذه الأمة المنكوبة .. أو اللهم إني بلغت فاشهد عليهم .

التعليقات (0)

شارك بتعليقك حول هذا الموضوع

شارك هذا الموضوع