رُوْحُ الله المُوسَويّ الخُمَيْنِي
أن تسلّم (فقط) بأن الخُمَينية كانت ختماً ممهوراً على جبين القرن المنصرف فذاك غُبنٌ وحيف بها . فهي ليست نظاماً للمَقْيَسَة الطارئة، أو مماشاة لفهم محيط سياسي وديني وثقافي مُجرّد؛ بقدر ما هي تمكين لنمط مُزاحم لأطروحات التسيير الإنساني والفلسفي والفكري المتراكم .
فالإمام الخميني كفقيه مُطلق قد عَجِزَ عن اللحاق بأفهامه جيوب حوزوية كاملة (فضلاً عن آحاد الفقهاء) في العالم الإسلامي كلّه . وهو كفيلسوف بارع فقد تكوّمت على جوانبه نظريات المتقدمين والمتأخرين دون دَرَك . وهو كسياسي ناهض قد تفجّرت من بين يديه صِيَغٌ جديدة للدولة والحكم والسلطة .
ومن مخياله السياسي انسابت مداركه وتزيّتت لصناعة واقع آخر . فجزء كبير من حركة الإمام كانت تتجه نحو تحطيم التابوات الدينية المتراكمة بفعل شيخوخة العقل الفقهي واستطالته الفاقعة نحو التقليد والاجترار . وأيضاً قدرته على إلقاء نَرْدٍ آخر بين آحاد الناس ومجاميعهم لتلقّي صور جديدة ومغايرة للإدارة السياسية والاقتصادية والاجتماعية القائمة .
تلك كانت المهمّة الأصعب لدى الإمام، الذي كان يُدرك قيمة الدين في تحريك شؤون الحياة، وأيضاً ضرورة تعريته من الكيانات الدخيلة، والأفكار السالبة . فهو مؤمن بأن الإسلام قد اختُطف وتمّ أسره خارج حيّزه الحقيقي، لذا وجب تحريره وكسر قيده .
وإن قرّر الإمام الخميني مع غيره من المفكرين بأن الإسلام قادر على أن يُؤمّن حياة صالحة للناس، فإن الإكتفاء بهذا المقدار من القول لا يُعطي مصداقية له في ظلّ غياب تام للتجربة، بل إن ذلك قد لا يكون سوى من باب الخلاصات الحالمة التي تلعب على أوتار التناقضات بدون ثمن .
لذا فإنني أعتقد بأن الإمام ومن خلال فقهه النادر وفلسفته الجديدة وحسّه السياسي المتوقّد استطاع أن يُصلّب رأيه ذاك، وأن يُفسّر الأشياء بطريقة تُؤمّن له حركة سياسية جيدة، ومن يرجع إلى كتاب البيع (مثلاً) والذي خطّه الإمام في أربعة مجلّدات يُمكن له أن يقف على بعض آرائه السياسية التي صار لها حقّ التقديم في سابقة فقهية فريدة .
لقد أنفذ الإمام آراءه السياسية والفقهية بشكل متلازم، وأصبحت رؤاه تلك بمثابة ثورات متعددة لكنها موجهة، فكانت ثورته الفقهية وثورته الاجتماعية وثورته السياسية وثورته الاقتصادية صِيَغاً أخرى نحو تمكين أطروحاته (راجع رسائل الإمام إلى مجلـس صيانة الدستور خلال عقد الثمانينات) .
كان الإمام يقول " إذا كان لمسألة ما حكم في فترة زمنية مضت، فمن الممكن أن يكون لها حكم جديد ضمن (العلاقات السياسية والاجتماعية والاقتصادية المهيمنة على نظام ما) أي أنه ومن خلال المعرفة الدقيقة بالعلاقات الاقتصادية والاجتماعية يظهر لنا أن الموضوع الأول الذي لم يختلف عن القديم من حيث الظاهر قد أصبح في الواقع موضوعاً جديداً، ولا بدّ أن يكون له حكم جديد " (راجع كتاب مرآة الشمس ص 285) .
وما يهمّ من الحديث السابق للإمام أنه عنى أكثر من أي شيء آخر بركيزة " العلاقات السياسية والاجتماعية والاقتصادية المهيمنة " وبالتالي فهو يصيّر أحكاماً إلى أخرى طبقاً لظروف مُحددة يكون لها وجاهة ومرجع في تشخيص المصداق .
بل الأكثر من ذلك هو تحويل تلك الأحكام من أحكام ومبادئ شرعية مُجرّدة إلى لوائح تقنين تنضوي تحت عباءة القانون حين يتحول جوهرها العام لصالح قهرية الدولة في التنظيم والتطبيق والفك والضم، خصوصاً إذا أريد لتلك الدولة أن تختط لنفسها حالة من الاستقلال النسبي عن كل المفاعيل المحيطة بها .
لقد كان الإمام الخميني أمام تحديات فلسفية مُترسّخة تَحُول دون أن يختط لنفسه منهجاً آخر . فيوم جاء كانت الليبرالية الإنسانية كنظرية بروتستانتية دنيوية فردانية تحل العقلانية مكان الله ويحل الفرد العقلاني محل الروح البشرية التي تسعى إلى الاتحاد مع الخالق هي الأمضى والأنفذ في العالم الغربي (ولا زالت) بل وفي الكثير من الدول خارج العالم الجديد وأوربا القديمة (بتصرف - راجع حدود الحرية لـ إيزايا برلين) .
ويوم جاء كانت مناشط الآيدلوجية الماركسية لازالت عصيّة على التفكك رغم مرض وعائها وكيانها التجريبي (الاتحاد السوفيتي) ولا زالت أطروحات قانونيتها وانعكاسها للطبقات وارتباط ذلك بالصراع بينها حاضرة، بل الأكثر أن حظّها داخل إيران كان وافراً وقوياً ومترسخاً منذ أن اجتاحها المدّ الاشتراكي من روسيا نهاية القرن التاسع عشر، وانعقاد مؤتمر كمونيست إيران في العام 1920 .
لكن الخاصرة الفلسفية لشكل الحكم والتي نظّر لها الإمام الخميني كانت قد تحولت إلى صورة مكتملة بعد خمسة عشر عاماً من البحث والإشباع، وكانت المناظرات التي كان يبثّها التلفزيون الإيراني بعد الثورة بين كيا نوري وإحسان طبري (وهم من قادة ومفكري الماركسية في إيران) وبين آية الله الشهيد محمد حسين بهشتي إحدى تجليات ذلك الإشباع، وتالياً عبر شكل الدولة القائمة على أنقاض الشاهنشاهية .
لقد اعتمد الإمام في منهجه السياسي والإداري منذ أول يوم لانتصار الثورة الإسلامية في الحادي عشر من شهر فبراير من العام 1979 على توسيط العقل العام (Public Reason) من أجل الأخذ بآخر قطرات الشرعية والمشروعية السياسية، وقيام التشريع على صيغة تعليل واعية، وهو ما تمّ فعلاً من خلال التصويت على شكل النظام السياسي ولاحقاً في عمليات الانتخاب المتتالية .
لقد كانت يوتوبيا قيام دولة دينية في الربع الأخير من القرن العشرين تتمثّل في عدم وجود تلك الدولة في نطاق السردية التاريخية وخبرتها المتراكمة بشكل يُؤمّن قدراً من التعويض والتصحيح لأي مثالب قد نتجت عن تلك التجارب السابقة لصالح تجارب لاحقة، وكانت تلك مشكلة حقيقية لم يكن تجاوزها واقعياً لولا مناعة شخصية وفكر الإمام الخميني وتحوله إلى استثناء ديني وسياسي فريد .
ورغم أن هذه المشكلة كانت تُذِرُّ أمامها عدداً من المشاكل والتعقيدات تتمثل في عدم قدرة هذا النموذج على مسايرة السياق الدولي في صيغته القائمة كالمعاهدات والاتفاقيات والعلاقات الثنائية والمواثيق الأممية، لكن الإمام الخميني لم ينظر إلى ذلك الإشكال من خلال الإخفاق في التفريق بين الدولة والسياسة الدولية؛ لأنه كان يُدرك بأن صيرورة ذلك ستقود بلا شك إلى عدم قدرته على التعاطي مع العالم واستحقاقاته .
إن دراسة شخصية الإمام الخميني في ذكرى رحيله التاسع عشر بطريقة جادة ومُركّزة لهو ضرورة حوزوية وأكاديمية، لأن ما أعمله الإمام الخميني بإقامة دولته نهاية سبعينيات القرن المنصرف كإحدى تجليات شخصيته يُمثل نقلة غير عادية على صعيد العلاقات الدولية وفي طريقة تقديم الدين وفي أنماط الحكم والسلطة خارج الصِّيَغ القائمة .
التعليقات (3)
المعارض
تاريخ: 2008-06-17 - الوقت: 04:49:45بسم الله الرحمن الرحيم السلام عليكم و رحمة الله و بركاته الأستاذ الكاتب محمد عبد الله تحية طيبة و بعد ،قال تعالى ( من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه فمنهم من قضى نحبه و منهم من ينتظر وما بدّلوا تبديلاً، ليجزي الله الصادقين بصدقهم ) ( الأحزاب : 23-24). لقد طرحت تجربة الخمينية بأسلوب سهل و وجيز ، و إسمح لي بأن أتوقف عند نقاط حساسة يكثر اللغظ فيه ، و أتمنى أني لا أكون ثقيل الظل ، رئينا أن فكرة ولاية أمر المسلمين أخذت الحيز الأكبر في نظام الجمهورية الإسلامية الإيرانية حيث فهمت بأنها السلطة العليا التي تهيم على السبطات الثلاث ، و هي البوصلة الشرعية التي لا تخطئ ، في حين أنها رؤية و إجتهاد فقهي أسسته الدولة الصفوية و إنتقدت عدة مرجعيات صلاحيتها الواسعة الفارضة على المرجعيات الأخرى وكانت حوزة النجف و مازالت لا ترى بضرورة خضوع فتاويها لولي أمر المسلمين حين تخالف رؤيته سواء الفقهية أو السياسية ، و لقد طرحت حتى في إيران نفسها نظريات توازي فكرة ولاية أمر المسلمين لفكرة شورى الفقهاء الذي طرحتها مرجعية السيد الشيرازي. هل هذه السلطة العليا التي ترسم السياسة الإيرانية و خصوصاً الخارجية فسحت المجال للمعارضة الداحلية بأن تشاركها في إبداء الرأي أم هي كمعظم الأنظمة من العالم الثالث التي تفهم الدمقراطية كموظة يجب التزين بها لا أكثر ، نلاحط أن مرجعية منتظري و كذلك السيد الشيرازي و غيرهم و خصوصاً قرار الحرب على العراق التي خرج منها السيد الخميني بعد سبع سنوات بقوله الشهير تجرعت قراري للسلم كتجرعي للسم . أتمنى من الأخوة العاملين في الموقع أن يعرضوا إستفساراتنا و تعليقاتنا في فترة زمنية سريعة حيث أني أكتب أحيانا تعلقاتي و تعرض بعد عدة أسابيع و حينها يكون الموضوع قد تقدم إلى الأرشيف فنفقد حيوية الحوار . و السلام عليكم و رحمة الله و بركاته
محمد عبد الله محمد
تاريخ: 2008-06-17 - الوقت: 14:24:26الأخ الفاضل المعارض .. وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته ،، شكراً على تعليقك الذي أعلّق عليه لا للرد من أجل الرد وإنما من أجل الفائدة للجميع . فحين تقول مستغرباً كيف أن ولاية الفقيه قد أخذت الحيّز الأكبر من نظام الجمهورية الإسلامية، فلأنها تحوّلت إلى قيمة دستورية (راجع المادة الخامسة والمادة السابعة بعد المئة من الدستور الإيراني) وبالتالي فإن الحديث عنها يعني الحديث عن الدستور الذي يُشكّل الهوية الكُنهية والقانونية للدولة هذا أولاً . ثانياً أن تقول أن الدولة الصفوية هي التي أسّست ولاية الفقيه فهو أمر غير صحيح وأتمنى أن تُصحح معلوماتك بهذا الخصوص . فقد ذكر الشيخ المفيد (413 هجري) وهو من طليعة فقهاء عصر الغيبة " فأما إقامة الحدود، فهو إلى سلطان الإسلام المنصوب من قبل الله تعالى، وهم أئمة الهدى من آل محمد عليهم السلام، ومَنْ نصبوه لذلك من الأمراء والحكام، وقد فوّضوا النظر فيه إلى فقهاء شيعتهم مع الإمكان " وقد ذكر بشأنها أيضاً فقهاء آخرون كعلم الهدى المرتضى (436 هـ) والشيخ أبو الصلاح الحلبي (449 هـ) ومحمد بن إدريس الحلي (598 هـ) . رغم أنني مقتنع تمام الاقتناع أن سماحة آية الله العظمي الإمام الخميني (قد) هو صاحب الفضل فيها لأنه صاحب الفعل والمشروع . ثالثاً : أن تُطرح نظريات حكم أخرى في الوسط الشيعي والسني فهذا ليس إشكالاً، وكل من وُفّق في ابتكار نظرية وقُيّض له أن تأتيه السلطة فنعم وخير، لكن الملاحظ أن النظريات الموجودة والتي تشير إليها هي فعلاً نظريات في بطون الكتب لا أكثر ولا أقل، في حين إمام الأمة الكبير روح الله الخميني (قد) قد يسّر الله له فحكم وساد وطبّق ما يراه من فقه ورؤى وهو إنجاز عظيم . رابعاً : حديثك عن المشاركة في الرأي في إدارة الدولة فهذا من أسس النظام في الجمهورية الإسلامية، ويُمكنك الرجوع إلى أصل تشكيل مجمع تشخيص مصلحة النظام لكي تعرف طبيعة المشاركة، ثم لتلتفت إلى أدق التفاصيل داخل المشهد الإيراني (الذي أدّعى متابعته) وخصوصاً مداولات المجلس السادس لكي تُدرك ما أقول . خامساً : فإن قرار الحرب مع العراق لم يُصدره الإمام الخميني (قد) وإنما الطاغية صدام حسين هو ما قام بالعدوان على أراضي الجمهورية الإسلامية في 22 سبتمبر 1980 وقد اعترفت بذلك (لاحقاً) الأمم المتحدة ومن ساندوه في جرمه وغدره، أما إيقاف الحرب، فإن سماحة الإمام الكبير دائماً ما يأخذ بمشورة مستشاريه العسكريين الذي شخّصوا له الموقف وعلى إثره اتخذ قراره الشهير في 20 يوليو 1988 وقال حينها " إن الآراء التي اتفق عليها الخبراء السياسيون والعسكريون من ذوي المقامات الرفيعة في البلاد ممن أثق بتدينهم وإخلاصهم وصدقهم، دفعتني إلى القبول بالقرار الدولي، والموافقة على وقف إطلاق النار " . ودمت سالماً ،، محمد عبد الله محمد
خادم أهل البيت عليهم السلام
تاريخ: 2008-06-18 - الوقت: 02:33:10أشكر الأخ محمد عبدالله على مواضيعه التي تزيد الموقع أكثر نورا. الأخ المعارض، أتمنى أن تنصف كتاب الموقع الأجلاء بعدم التعليق على ما يكتبون إلا ما كنت على دراية به حتى لا تضعف إطروحات الكتاب الأجلاء بالتعليقات الإرتجالية التي غالبا لا يستفيد منها أحد !! طبعا الباب مفتوح لك ولجميع القراء لمن يود التعليق أو المرور بمواضيع الموقع لكن فليكن إنصاف كتاب الموقع حتى لا يتيه القراء. خادم أهل البيت عليهم السلام