أخيراً وبعد ملاحقة استمرت أسابيع وأياماً حسوماً استطاع فيلم ( بقايا طعام ) أن يصطادني اصطياد عزيز مقتدر وعن سابق إصرار وترصد ، فقد بقيتُ طوال هذه الفترة أتلقى الدعوة إثر الدعوة لمشاهدته في محفل هنا أو تجمعٍ هناك أو أمسية هنالك ، ولعل أكثر هذه الدعوات إلحاحاً هي دعوة النادي الأدبي بالمنطقة الشرقية ..
ولكني لا أكتمكم سراً أني ربما حكمتُ على الفيلم حكماً سلبياً قبل أن أراه ولستُ أدري سر ذلك أهو الفكرة المسبقة عن المستوى الضعيف للأفلام التي دأب نادي الشرقية على عرضها ، أم الهالة الهائلة التي تسبق كل عمل نقدمه مدحاً وإطراء حتى قبل أن نراه فنحن عادة معجبون حد الثمالة بمنتجنا الذاتي أو لتلك الأسباب مجتمعة .. الله أعلم ، المهم أن هذه الأسباب كانت سبباً في عدم تلبيتي لكل الدعوات لمشاهدة هذا الفيلم .
غير أني وفي حفل العوامية البهيج بمناسبة ذكرى مولد الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله وقد كنتُ مدعوا هناك ضمن مجموعة من الشعراء ليلة الأربعاء الماضية شاهدته وجهاً لوجه حيث كان عرضه إحدى فقرات الحفل الرئيسة أي ليس هناك مهرب سأراه ( غصب طيب ) ورأيته فعشقته من أول نظرة .. فبمجرد أن دخل الفيلم في تيتراته الأولى حتى وجدتني مأخوذا إليه مشدودا نحوه فاغرا فمي باتساع الأفق مُسبلاً عينيَّ إسبال مغفل معتوه أحكُ خدي وأرنبة أنفي حك قلِق مشدوه ، ليس ذاك إلا إعجاباً بما أرى ونفض غبار عن فكرة مسبقة تيقنت الآن أنها كانت خاطئة وبجدارة ..
لا أريد أن أسبر غور الفيلم أو أدخل دهاليزه ولججه لأخرج ما فيه من درر مكنونة ولكني سأسجل انطباعاً بسيطاً حوله .. فالفيلم به زخم إنساني كبير ومشاعر متدفقة تحمل في طياتِها عبق الإنسانية بوجعها المستفيض وبخلجاتها المتناقضة والتي ربما نسيناها عبر سيرنا اللاهث في هذه الحياة وإن وقفنا وتلفتنا وراءنا قليلاً زممنا شفاهنا مما نراه من بؤسها ثم انطلقنا لمشاغلنا لا نـلوي على أحد ..
الفيلم الذي تجاوز العشر دقائق بقليل ومنذ لحظاته الأولى حرك سكوننا بفجائية مضطربة جعلتنا نقفز من مكاننا من هول الصدمة .. الصدمة بمعناها الساذج : حادث سيارة يلتهم شاباً في مقتبل عمره أمام ناظري ابنه والذي انتهى لتوه من رغبة جامحة نقلها لأبيه ( ابويه امبا ايسكريم ) قالها الابن بلهجة قطيفية محببة ولكن رغبته هذي سُحقت تحت عجلات سيارة مجنونة التهمت أباه معها .. والصدمة الأخرى بمعناها البعدوي العميق هي نقلة لحظية خاطفة من حالة العيش الهنيء في كنف أبٍ حنون إلى حالة من الفقر المدقع والضياع المقيت الذي دفعة لحاجة مفرطة ..
المشهد التالي لرجل غمره الإيمان حتى سد عليه المنافذ كلها إلا أبواباً مشرعةً إلى الله جلت قدرته تفضي به إلى إشراقةٍ إيمانية عالية المرمى والهدف ، ولم يكن شكره للنعمة بوضعها على بابه ليأخذها من يوجهها وجهتها الصحيحة لم يكن ذلك استثناءً من هذه الإشراقة الإيمانية ، في يومٍ لم يجد جامع وحافظ هذه النعمة تلك الخبيزات في مكانها كالعادة ، ولم يجد صاحب البيت جواباً لاستغرابه عندما سأله عن الخبز الذي نشز وأعرض عن مكانه .. ولكننا وجدنا في لقطة الفيلم الأخيرة ذلك الطفل الذي قضى والده دهساً تحت عجلات السيارة أمام ناظريه جاء ككل ليلة حتى يقتات على هذا الخبز ليرجع المشاهد بطريقة ( فلاش باك ) إلى اللقطة الأولى التي ألقت بهذا الطفل وألصقته بهذا المصير .. تلكم قصة الفيلم المختصرة باختصار ..
الفيلم بقراءة انطباعية محضة يحمل هماً إنسانياً عالياً كما قلت ويتحرك حركة همسية تدغدغ المشاعر والعواطف نحو هدفه بلا صخب عالٍ أو ضجة متشنجة بل بقي على هدوء حالته الانفعالية طيلة مدة عرضه .. كذا المخرج والذي أتصور أنه عمل بكاميرا واحدة أضفى على الفيلم نظرته الفلسفية المتشكلة بين غضون متموجة .. وهذا التكثيف المركز للصورة ولحركة الممثلين المتدفقة جعلت منه لوحة فنية عالية ذات بعد أدبي راقٍ .. وعلى ذكر هؤلاء الممثلين دُهشتُ كثيرا من أدائهم فللوهلة الأولى تلحظهم في سن متقدمة لم تمنحهم خبرة كافية في فن التمثيل وبتصوري القاصر أنهم لم يؤدوا أدوارا من قبل ولكنهم خرجوا علينا بأداء ولا عتاة هوليود ..
ربما كانت لي عودة أخرى لهذا الفيلم في قابل الأيام ، بيد أني أحببتُ تسطير انطباع وأداء حقٍ لمجموعة أخذت على عاتقها النهوض بهذا الهم الإنساني المشرق ، أعتذر للكل ولهم خصوصاً على هروبي السابق من الفيلم .. يعلم الله أني لا أعرف أحداً من القائمين عليه مخرجا ومؤلفا وسيناريست وممثلين وفنيين ولذا لستُ مهموما بمجاملتهم أو نفاقهم ولكنها كلمة شكر وأداء حق جئتُ أزجيه .
تحية ملء القلب ( لقطيف فريندز ) لهذا العمل المميز ..
التعليقات (0)