المسرح هذا المؤثر المجهول ... مُغيبٌ عن الموكب وعن طقوسنا ... قلّما نستخدمه في أيامنا تلك ... ولكثرة دعواتي لتفعيل دور المسرح ... كانَ لا بُدَّ لي من عمل شيءٍ يصبُ في هذا الإتجاه ... أنشأت مسرحية شعرية من فصلين بعنوان ... يومان في أرض القرابين ... بأوزان مختلفة من أوزان الفصحى وهي أيضاً بالفصحى ... أعددنا أحدعشر شخصاً يُنفذون المسرحية ...
وبدوري قمت بتلحين النص كاملاً .... وسجلتهُ على شريط كاسيت ... ولكن للأسف ظروف الأزمة بين المأتمين والرواديد لم تتح لنا فرصة تقديمها ... ومن هذه الأزمة إلى عام 1421هـ بعد تدخل كثير من الوساطات لحل أزمتنا المستعصية على الحل ... وبعد سجالات لا يمكن اختزالها في حديث سريع فك مأتم بن خميس الوحدة المعقودة ... وما توافق عليه مع مأتم السنابس برفقة الوسطاء ... وأصبح الموكب موكبين ...
ولم تنته العشرة المحرمية إلا ومأتم السنابس قد رضخ للضغوط بإخراج موكب في الوفيات ... حاولنا جاهدين في ثنيهم عن نيتهم للخروج بموكب الوفيات دون جدوى ... وأصبحت المنطقة بين موكبين في كل المناسبات ... ونحن حائرون بين الطرفين ...
أنصار الطرف الجنوبي يروننا متخاذلين عن اتخاذ موقف صارم... وأنصار الطرف الشمالي يروننا خصما لهم لكوننا من حرك الجرح عليهم ... ونحن كالأبناء التائهين بين والدين متنازعين ... نبحث عن المنطقة الوسطى.. ولا بد لك في النهاية من أن تغضب أحدهما... كان علينا اتخاذ المواقف المبدأئية دون النظر لمن يغضب ويرضى..
قدّمت في تلك الفترة ثنائيات مختلفة ... أحدها مع فوزي الدرازي في قصيدة ... يا جناح البين وديني ... وثنائي آخر مع جعفر الدارزي في قصيدة كتبها عيسى العصفور ...أيها القيد تحطم ... في موكب بن سلوم ... وأخرى مع فلاح أحمد في مأتم السنابس ...كتبت القصيدة ... أيام الألم ثلاثة صعبة تنَّسى ...
من هذه القصيدة حين قدّمناها في الفناء الخارجي لمأتم السنابس ... بدأنا بذرة المسرح ... وضعنا أطفالاً أمامنا يُصوّرون للمعزي والمستمع شيئاً من النص ... كما أني في فترةٍ لاحقة قدمتُ قصيدة داخل المأتم ... برفقة إبراهيم الموت ... قدمنا القصيدة وسط الجمهور ... واقفين أمام نعشٍ مُغطى ... كُنا نُحاكي النعش ... وهكذا وجدت الصورة طريقها إلى المسرح ...
قُبيل شهر رمضان التقيت شيخ حسين الأكرف واقترحت عليه ثُنائيا يُساوق ذاك الذي قدمناه قبل سنوات ... دمُ عاشوراء ... واتفقنا على هذا ... بعد أيام جاءني باللحن ... وتركنا القصيدة لقلم السيد ناصر ... وقبل أيام من المناسبة غيّر شيخ حسين في اللحن حركاتٍ بسيطة ...
وهكذا أقول ليس من السهولة حفظ اللحن في فترةٍ وجيزة ... إثنان وجدتُ في ألحانهما عناءا في الحفظ ... وتحتاج إلى دِقةٍ وتركيز ... شيخ حسين ويوسف الرومي ... مع أن مدرستيهما مختلفتان ... إلا أنهما يشتركان في المحسنات الصوتية في اللحن ...
تفطرنا في البيت وأدينا بروفات عدة بوجود سيد ناصر ... التداخل في الفقرة الواحدة ينقل القصيدة من قوةٍ إلى أخرى ...حين يتنافس الرادودان في إظهار الكفاءة في الأداء ... اتفقنا على كل الشفرات للدخول والخروج ... وإعطاء الفرصة للآخر ... فلا بد من شفرة يستلمها منك الرادود الآخر ليتمكن من الدخول لتأدية الدور بعدك ...
طلب شيخ حسين أن تكون له فقرةٌ بمفرده ... ولي فقرةٌ بمفردي ... لكثرة تجربتي في نتائج الثُنائي أبديت اعتراضي ... هذه الطريقة تُقلل من كمية الدفق الحماسي ... فالفقرة حينما يتداخل في أدائها إثنان يملآن أبياتها بتعاطي التنافس في الأداء ... أما الفقرة المفردة فهي خالية من كل هذا ... في النهاية توافقنا على قُبول هذا الرأي متوافقين لا مقتنعين ... وكانت نتيجة الواقع كما تكهنت لها ... الفقرتان اللتان أديناهما بمفردنا كانتا أقل من قوة الأخريات ...
قُم وأذن يا قتيل ... سيُصلي جبرئيل ... خيرنا سيد ناصر العلوي بين عدة مستهلات ... وقع اختيارنا على هذا في نهاية المطاف ... أثناء انتظارنا لبداية الموكب اقترحت اسمين للقصيدة أختار منهما شيخ حسين اسم ... تكبيرة العرش ...
كتلة من الحماس كان الجمهور يتدفق حولنا ... النص بكلماته الراقية استطاع أن يُحاكي اللحن بجمال معانيه ... وليس كل القصائد تتساوى قوة النص فيها مع قوة اللحن والأداء ... هذه القصيدة اجتمع لها من عوامل النجاح ما لم يجتمع لغيرها ... في الختام استطاعت القصيدة أن تقترب من نجاح أختها السابقة الكبرى ... دم عاشوراء .
في هذه الفترة بدأت الأشرطة الفردية تكتسح الأسواق ... أصبح ذوق الناس لا يقبل حتى بالأشرطة المنسوخة ... وعمت التسجيلات الأشرطة المُسجلة في الإستوديوهات ... هذا ما كان يدعونا كثيراً لمخاطبة القائمين على الموكب لتحسين وضع الصوتيات في المواكب ...
حين يكون الموكب بالحضور المُلفت والأعداد هائلة ... ثم يكون وضع الصوتيات رديء ... ستكون العملية منفِّرة وغير محتملة سيما مع وجود أشرطة تُقدم تسجيلاً نقياً كأبدع ما يكون ... وهذه من سلبيات الجانب الإعلامي لدينا ... الإعلام دوره ضعيف جداً ... لهذا تكون فعالياتنا خجولة ونائية ...
في عام 1423هـ وفي ليلة العاشر ... كتب سيد ناصرالعلوي قصيدة ... إذا رأيتم جسماً صريعا ... على اللحن الذي اخترناه مع بعض ... جعفر سهوان وهو وأنا ... وأعدَّ نصاً لفقرةٍ مُمسرحة ... كتب القصيدة بحوارٍ بين السيدة زينب التي أمثل دورها في النص ... والإمام الحسين الذي يُمثل دوره جعفر سهوان في القصيدة ... سار الموكب على سكينةٍ ووقار ... تترقرق الدموع على الخدود ... والقلوبُ مكلومة بمصابٍ جلل في ليلة عاشوراء ... وانتهينا إلى موقع التمثيل بمحاذاة مدرسة البنين .
وقفنا على جانب من المسرح نؤدي دورنا ... الطفل والحصان واقفان على منصة المسرح ...كأنّ الحصان قد عاد إلى المخيمات خالياً من راكبه ... استقبله الطفل سائلاً عن والده ... نحن في الأسفل بين حشود الحاضرين نؤدي دورنا قراءة من الورق ... الطفل يؤدي دوره بتلقائيةٍ وكفاءة ... بدت من الحصان حركات كادت تودي بالعمل إلى الفشل ... الطفل بنباهته استخدم الصمت أثناء اضطراب الحصان ... هدأ الحصان بعدها وأكملنا المشهد ... وقمنا نواصل الموكب لطماً حيث بقية أحداث عاشوراء الأليمة من قتل وسفك دماء وقطع رؤس ...
التعليقات (0)