عام 1414هـ أقبل يحمل في أثوابه مفاجأة بلبلت الأذهان في محرم الحرام ... السيد الخامنائي في طهران ... وفي خطابه بمناسبة عاشوراء ندد بالممارسات الغير مقبولة .. وشدّد على التطبير في خطابه ... ابتدأت العقول تتيقظ للأمر وتحمله على محمل الجد ... سابقاً اختلف الفقهاء بين مؤيد ومعارض للمسألة ... بين مُجوّز ومُحرِّم ...
الآن للسيد موقعه الذي لا ينكر في نفوس الفقهاء قبل الناس ... وتحتاج المسألة لإعادة نظر ... لدينا في السنابس تطورت المسألة وأصبح موكب التطبير يُؤدى في يوم العاشر ويوم الأربعين ...قبل خطاب السيد أراد رئيس مجلس الإدارة عباس خميس إلغاء موكب تطبير الأربعين .... كمجلس إدارة أجمع الغالبية على معارضته خوفاً من توتر الوضع لدى الجمهور ....
راحت الألسنة في لغط طويل ... وأخْذ ورد لا ينتهي ... بين من يقول بإيقاف التطبير ... وبين من لا يؤيد مجرّد التفكير في القرار ... هاهنا تكمن المشلكة في ممارسات الموكب ... أسهل عليك أن تزيل الجبال من تغيير ثابت نشأ عليه الكثير ... ويعتبرونه ضرورياً لا يمكن المساس به ...
جاء الشيخ علي سلمان وجلسنا مع رئيس مجلس الإدارة ... قال الشيخ إذا رأيتم بإمكانكم إيقاف التطبير فذلك خير ... وإن لم تتمكنوا وتجدون في ذلك إثارة للفتنة فدعو ذلك ... لا نريد إصلاح الأمر بخراب آخر ...
ثار علينا رئيس مجلس الإدارة لوقوفنا مع قرار الإيقاف وقال...بالأمس تقفون ضدَّ قرار الإيقاف واليوم تعكسون موقفكم ... عجبي لكم ... قلنا اليوم لا يشابه الأمس ... اليوم نقف وموقف السيد يُسندنا ... والأمس يختلف في ملابساته عن اليوم ...
شجّع رئيس مجلس الإدارة بعض أخوته ... قال:إذا أردت المأتم عزيزاً مرفوع الرأس فلا تتوانى عن قرار الإيقاف ... وكان قرار الإيقاف ... للأسف كُنا نرى المعالجة من جهة واحدة ... كان الأفضل اتخاذ نصف القرار ... إيقاف هدر الدماء بالطريقة السابقة ... وإخراج الموكب على ما هو عليه من هيئة ... الحركة العسكرية بالسيوف تبقى ... وتؤجل عملية السخاء بالدماء للنهاية ... حيث يقدم المشاركون دماءهم لبنك الدم متبرعين ...
قد تكون النظرية حالمة ... لكنها تبقي السيف كرمز حاضر يُعزز دور الدمعة في كربلاء ... وتكمن الصعوبة فقط في إيقاف المُتحمسين لقرع هاماتهم بالسيوف ...
تنهال المطالبات عليَّ من القُرى المجاورة للمشاركة لديهم ... لا أجدني مستجيباً معهم ... فأنا أحمل مسؤولية متابعة الموكب هُنا ... وأغطي الفراغات وأملؤها ... المحاولات منهم كانت تعود باليأس وبلا جدوى ...
أخيراً وجدت المحاولات طريقها إلى النجاح ... ليلة العاشر بعد انتهاء موكبنا شاركت في النعيم بوقفة ... يلمقطع بالشريعة ... ولقد سمعت بكاء المعولات من النساء الكبيرات حقاً ... سيما في أداء الوقفة الثانية ... يا عزيزي ...
وفي ذلك العام سمعت البكاء المتفجع في ليلة العاشر في قصيدة ... لموادع بين ... زينب وحسين ... سمعت وكأن الجدران تتقطّع بكاءً ... ولا يغيب عني أصوات المشاركين وهم يُجيبون المستهل ويُرددونه ... رافقتني أصواتهم حتى وسادتي ... وكأنّ أرواحاً غيبية تسعف أهل المصيبة بالجواب ...
من تلك القصائد شعرت بقوّة الشعر الدارج ونفوذه إلى النفوس ... فهو لا تحجبه حواجز عن الوصول إلى القلوب ... المعاني بسيطة واضحة واصلة ... لا تحتاج إلى تبيين ...
اللهجة متعارفة مألوفة ... ليس فيها كلمات لا تعرف ... هذا ما يجعل اللهجة العامية في الشعر الحسيني محببة إلى النفوس أكثر من الشعر الفصيح ... ولربما لما يستخدمه شعراء الفصحى من تعمية المعاني ... والإفراط في الألفاظ الغامضة ... ولا يحب المستمع أن يكون كالأطرش في الزفة كما يُقال ... أتى للموكب للمشاركة ... ليستمع ويستوعب ... إمّا إذا كان النص ملغزاً فهذا يجعله تائهاً ... لا يجد للشعر ذائقة يتحسسها به ... أما الشعر الفصيح المعتدل في لغته ... فلا ريب هو المطلوب ... لتحويل الشعر الدارج مع الأيام إلى عربي فصيح ... الوسطية هي المطلوبة في النمطين ... لزرع التقارب بينهما .
في تلك الليلة أيضاً ليلة العاشر قدّمت وقفة ... يا ثار الله فداك ... من الشعر الفصيح ... خطاب الأنصار للإمام الحسين (ع) ليلة عاشوراء ... وتقديم فروض الحب والوله لسيدهم الحسين ... وحقيقة هؤلاء عصبة عديمو النظير ... نفوسهم ملكوتية ... وعشقهم فريد ... أحبوا من لا يوصلهم حبه إلا إلى الموت ... ويُدركون ذلك وهاموا في عشقه هياماً بديعاً.
كذلك في الشعر العامي جمال عندما يبرز التقطيع المُقفّى في أبياته ... كما في أبيات الموشح الذي قدمته في وفاة الإمام الحسن الزكي (ع) في السابع من صفر ... فراقك والله صعب ... تقاطيعه تنغرس في السمع لتصل إلى شغاف القلب وترتكز ومنها ... يغالي الروح ... نويت اتروح ... وأنا مشبوح ... عليك اعيون ...
وهذا النوع من الشعر يكمن جماله في قلّة التكلف عند الشاعر ... إذ يجب أن يشعر السامع بتتابع الكلمات دون إجبارها في المعنى ... فلا يجب أن يشعر بالقافية ... يجب أن يشعر بالمعنى ليجد القافية بعدها في انسجام ...
الرادود جعفر القشعمي أثناء اعتقالنا في عام 1996م كان مولعاً بهذا الموشح ... ولم ينته ولعه به حتى أعاد إلقاءه في الموكب بصوته ... لا سيّما أنَّ في اللحن بحة حزن تُضفي على تقطيعاته وقوافيه ميزة من القوة والجمال .
ولربما ساد اعتقاد لدينا في حالات أن الجمهور لا يُدرك القافية ... وليس له اعتناء واهتمام بالقافية ... هذا الاعتقاد ليس تام الصحة ... ففي حالات كثيرة أثبت الجمهور أنه يُدرك هذا الفن بكثرة الممارسة ...
في ذكرى الأربعين قدّمت قصيدة ... وصّلت أرض المدينة ... يا رسول الله الظعينة ... بعد الدخول إلى الأبيات وفي أحد المقاطع ... بعد النزول إلى المكسر جاء البيت ... وأبو فاضل ذابحينه ... أثناء دخولي على الشطر الثاني تفاجأت باشتراك الجمهور معي في تكملة الشطر ... وكأنه يقرأ معي من نفس الورقة ... الشطر الثاني يقول ... قطعوا اشماله ويمينه .
هنا أدرك الجمهور بمعرفته بالواقعة ... وبحسه الفني وممارسته لسماع الشعر ... وتتالي القافية .... أنّ من الطبيعي بعد عبارة (قطعوا اشماله ) أن تأتي (ويمينه) إتماماً لقافية (ذابحينه) هذا مما يدلل على تنبه الجمهور للنص ... وعلى مباشرة النص للعواطف الشعبية لدى الناس ... وملامسة مواقع الإحساس لديهم ... وعلى الشعر أن يكون هكذا تنفعل به النفوس ... وتتلاطم في بحره العواطف ...
التعليقات (0)