أعتقد شيئاً ما في الموكب ... كثير من ممارساتنا يبتكرها العوام ... ويتعصبون لها أشد العصبية ... ويبرعون في تطبيقها ... وعند الخلاف يلجأ إلى الشرع ... حينما يتنازع يستحضر العلماء في البين للفصل بين طرفين ... التوغُل في هذه الحالة لا ينتج لدينا ممارسات صحيحة مقبولة ... غياب العلماء من ساحة الموكب يتيح الفرصة واسعة أمام الاجتهادات الشخصية ...
بهذا النفس كتبت قصيدة ... شيعتي اذكروني في آلام ... خضت فيها في ضرورة حضور طبقة العلماء في الموكب ... لما فيها من جمال يتزين به الموكب روحياً وواقعياً ... بحضور الفئة الحاملة للفقه والممثلة لأحكام الدين يبتعد الموكب عن الحركات الارتجالية ... ولا تستفحل الأخطاء في تطبيقها ... فبمجرد ملاحظتها يمكن تصحيحها ... ولا يتسنى لأصحاب الأذواق الشاذة تفعيل ما لا يليق من حركات في موكب الوقار فيه حالةٌ مُلحّة ...
وبصدق أقول كان وجود الشيخ منصور حمادة معنا في الموكب لفترةٍ طويلة عامل مُساعد على تلافي الخلل ... ومُطوّر ناقل لحركة الموكب إلى مراتب أفضل ... ولو لم يكن إلا على صعيد التسديدات النحوية ... والنقاشات حول النحو العربي ... فهي تثرينا وتقوينا ...
بطء الإيقاع مُتعب ويستهلك من المُعزي جهداً ... في الأربعين طبيعة الألحان تميل إلى الحزن ... وأكثر ألحان الحزن تتميز بالبطء ... فلا تجد الحزن في لحن سريع الإيقاع ... إلا في القليل النادر...
ليلة الأربعين جئت بقصيدة ... يبو فاضل زينب غريبة اتصيح ... لحن هادئ بطيء ... تتساقط الكلمات في وزنه كلمة كلمة ... تترك للسامع مجالاً واسعاً يلتقط فيها المعاني ... من ألحان الشكوى والعتاب ... ذلك الإيقاع بهدوئه المُفرط أجهد المعزين ... في تلك الليلة أنهوا العزاء وأيديهم على ظهورهم ... من ألم ومن بطء في حركة المسير ...
التأفف كان بادياً على أفواههم ... حتى أني بتّ متيقناً من فشل القصيدة في أرض الواقع ... ولكن ما إن مرت أعوام حتى أصبحت القصيدة مضرباً للأمثال ... في جودة كلماتها ... وغزارة عاطفتها ... وعمق الإحساس في لحنها ... هذه القصيدة علمتني أن لا أتسرع في الحكم على القصيدة عاجلاً ... كم من قصيدة تنكر لها السامعون ... وبعد ما فارقوها بفترةٍ قدّروا قيمتها ... القصائد كالرجال ... بوجودهم لا تعرف مكانتهم ... بغيابهم تشعر بالفراغ ... وتحن إلى قربهم ... وتعرف طول قامتهم ...
القصائد في تقييمها تحتاج أن تترك لفترة ... وليمكن مقارنتها مع مثيلاتها ... ونستطيع أن نجد ما فيها من قوّة وضعف عن بُعد ... أما بالقرب فلا يمكنك تشخيص كامل الملامح فيها ... في هذه القصيدة استعراض لمسيرة عقيلة الطالبيين في الأسر ... وسيرها فوق النياق الهُزّل ...
في مواكبنا دأب المهتمون بإخراج الموكب على تجسيد هذه الواقعة ... مسيرة السبايا ... كما ذكرت في القصيدة قائلاً ... على عجفة طول الدّرُب متقيدة ومحمولة ... يأتون بالنياق وتوضع عليها الهوادج المصنوعة من الحديد ... وتُغطى الهوادج بالقماش ... عادةً تركب الفتيات الصغيرات في الهوادج فوق النياق ... وتراهن والنياق تعبر بهن الطرقات يخرجن مناديلهن من شق الستار... يُلوحن بها مولولات بعبارات التشكي ...
في الفترات القديمة تُصنع محامل من الخشب ... توضع فيها الأطفال ويحملها أربعة رجال من المقابض البارزة في جهاتها الأربع ... أما النياق فيقع الاختيار على وجوه غليظة لسوقها ... إمعاناً في إبراز قسوة الجيش الأموي ...
وتصنع حلقة من الحبل يجمع فيها الصبية والصبيات ... يقادون في الموكب تمثيلاً لواقع أسارى الطف من الأطفال ... وهم يُنادون العطش العطش يا عمّتاه ... وفي أيديهم طاسات الماء الفارغة ...
إذا لم يتمكن المنظمون من تحصيل طفل يقوم بدور الصوت الأول فيهم ... يضعون كبيراً يُردد عبارات التشكي فيتبعه الأطفال ... اشتهر بهذه المهمة الحاج أحمد العصار ... ولا تظنن المهمة سهلة ... فلا تنقضي المهمة حتى يجد صاحبنا صوته قد انقضى ... ولك أن تتصور الألم الحاصل لك من سماع أصوات الأطفال مجتمعة وهم يتأوهون من شدة العطش ... تجد الأطفال في زي واحد أخضر ... مُعصبي الرؤوس بنفس اللون ...
لمحرّم الحرام طقوسه الخاصة التي لا تجدها في الذكريات الأخرى ... في الوفيات التالية لا ترى سوى النعش والموكب ... الموكب بأعداده التي بدأت تتزايد ... ويشكل حضورها لفتة عند وزارة الداخلية ... ورصداً مستمراً لما نقول ... في ذكرى استشهاد الكاظم (ع) ألقيت قصيدة ... وصيتي للشعوب ...
القصيدة تآزر اللحن مع الكلمات على إنجاحها ... اللحن يبرز تغريدة في نهاية أبياته ... التغريدة من النوع الباكي المتشكي ... التميز في اللحن استطاع إيصال الكلمات إلى مستقرها الحقيقي ... مرت الكلمات على حال البشرية في الكرة الأرضية ... والفساد المستشري في مجلس الأمن بنظام الفيتو الظالم وفيها ... مجلس الأمن مع الأقوى وجنب الدول العظمى ...
ولا بد أن أقر بما في القصيدة من خلل في الوزن ...هذا الوزن المُمتد بتفعيلاته ... يحمل تفعيلات هي... فاعلاتن فاعلاتن فعلن فعل ... أصبحت أتوهم في طوله وفي تفعيلاته ... فتارةً أطيلها وتارة تقصر ... بالنسبة للحن لم يختلف شيء فيه ... إنما الخلل وقع في التفعيلات ... ولم يتمكن البُسَطاء من وضع يدهم على الخلل ... أما المُتخصصون يستطيعون إدراك ذلك ببساطة .
وللثنائيات دورها تلك الأيام ... أكثرنا منها ... لتعضيد وتقوية الرواديد الناشئة ... بعض الرواديد قضوا ردحاً من الزمن لم ينهضوا من مستوى إلى أرفع منه ... يخوضون التجارب متتابعة لا ينجزون تفوقاً ولا تبديلا ... الثنائي من بعض أهدافه دفع هذه المستويات إلى الارتقاء ... ساهمت بعمل ثنائي مع الرادود علي العويناتي ...كتبت النص واقفاً حيال مظلومية فقه أهل البيت ... وثنائي آخر مع الرادود حسن ولد أبو أحمد ... أبديت في القصيدة ما يُعانيه البقيع من هدم وهتك ...
في ذات هذه الوفاة ... وفاة الإمام الباقر (ع) في السابع من ذي الحجة ... ليلة ثُنائي في الليل ... تناولت فيه ما سبق ... الثُنائي الآخر في موكب العصر ... مع جعفر سهوان لأول مرة ... بلا هوادة استعرضت ما تُعانيه الطُفولة من قسوةٍ وشظف عيش ...صوت التوحيد كبّر ... ضد الشيطان الأكبر ...
لحن القصيدة ضرباته سريعة ... عندما سمعه مهدي سهوان أثناء ممارسة جعفر التمرن عليه قال ... سوف تكسرون الموكب بهذ اللحن ... لما في اللحن من ضرباتٍ متسارعة ترهق المعزي ... حيث أنَّ أفضل السرعات الوسطى لدى عامة المعزين ... بينما الواقع اثبت غير هذا ...
استهللت الموكب بالفقرة الأولى بوتيرة معتدلة ... في الدور الثاني قدم جعفر أداء أضفى عليه دفقة مضاعفة ... وصرنا نتناوب الأدوار ونتبادلها بإضافة جرعات جديدة على اللحن والقصيدة ... كل هذا أشعل الحماسة في الجمهور ... وجعل اللطم يتدفق بقوةٍ منقطعة النظير ...
هذا ما يجعلنا نعتقد أن الظروف لها دخل في تغيير المعادلات ... ولتحويل أضعف قصيدة إلى أقواها ... وإلى عكس المعادلات ... وهذا من فوائد الثنائي المتوازن ... جعل رادودين من المستوى الأول مع بعضهما في قصيدة ... يضيف كل منهما نجاحه إلى الآخر ... ويستفيد الموكب من قدرتين ومن طاقتين متنافستين في تقديم الأفضل ... ولي اعتقاد في الثنائيات ... أنني أكثر من زاول الثنائيات مع أكثر عدد من الرواديد ... هذا بحسب اعتقادي وللمتابعين أن يعدوا ويحصوها إن شاؤوا .... لنا عودة
التعليقات (1)
في الصميم
تاريخ: 2008-04-17 - الوقت: 08:23:44أشكر المأتم على إتاحة الفرصة للأخ عبدالشهيد والذي أنه سيستعرض هذا الكم الهائل من موضوع عبدالشهيد ، فإن دل على شيء إنما يدل على الروح المعنوية العالية من قبل إدارة المأتم. الأخ عبدالشهيد ، كان طرحك اليوم في موضوعك رقم 41 وهو حث العلماء على الحضور في الموكب وذكرت إيجابيات ذلك ، لكن ألا ترى العلماء قد تم تهميش دور من أدوارهم الواقعية وهو التصدي للخلافات بين المآتم ؟!! ألا تعتقد أن اللجوء للعالم لحل الخلاف هو يمثل الإحترام الصحيح وهو التواجد الذي ينبغي أن يكون !! أما تواجد العالم في الموكب ويكون حاله حال الآخرين وكل ما يميزه عن بقية الحضور عمامته وبشته ؟! هل هذا ما تريدون ؟ والسلام