عند مفترق الطرق ما يُدريك أنك تختار طريقاً ناجعاً ... كثيرون مالوا إلى درب الورود طلباً لشذاها ... فلم يُعطرهم حين سرقه منهم آخرون ... بينما انقبضت أنفسهم من درب الأدغال والممرات المجهولة ... وفيها كان الكنز المُخبأ للجادين المثابرين ...
جرى في العرف لدينا تسمية المنشد الحسيني رادودا... والرادود كلمة جاءت بصيغة مبالغة على وزن فاعول ... صيغة توحي بكثرة أداء الفعل ... وإن لم يكن الفعل من أفعال المبالغة إلا أننا نشم من الكلمة هذا ... بحكم قربها من اللهجة الدارجة ... والكلمة على ما يبدو لا يوجد لها أصلٌ يدل على هذا السياق في اللغة العربية ... إنما هي من مبتكرات الحالة العامة ... لكثرة ترديد المستهل طلباً لحفظه ... أو لكثرة ترديده النصوص الحسينية ... لأنه يُردد ترديداً فهو رادود ...
وفي حكم اللهجة الدارجة المنخفضة يُسمى أيضاً (شيّال) ... لأنه يشيل القصائد أي يحملها ويؤديها والكلمة عربية فصيحة ... ومن غريب المرادفات في الكلمات أن العُرف يُسمي النعش المعد لحمل الأموات (شيّال) ... فللرادود ثلاث تسميات ...
في العربية الصحيحة يُسمى منشداً ... وفي اللهجة العامة يُطلق عليه اسم الرادود ... أما في اللهجة المنخفضة فهو شيّال ... حتى من يُمارس أداء الهوسات يُسمى شيّال ... الهوسات نوعٌ لا يؤديه كل الرواديد ... ولكن يجمل بالرادود الخوض في كل التجارب ... ما دامت في سياق وظيفته ... ليتمكن من تنمية قدراته على كل الأصعدة الموكبية ...
فتجدني منذ ما يُقارب هذه الفترة رحت أزاول الهوسات وأتردد فيها ... كتبت كثيراً من الهوسات ... بما لا يزيد عن الشطرين أو الثلاثة ... كتبت الكثير منها لعبد النبي الكداد ... بحكمه محباً لهذا النوع ومتمكناً منه ... هو بدوره لا ينفك يكتب بمقدرته المتواضعة ... ويعرض ما كتب علي ... أصلح الخلل إن كان فيها خلل ما ... من وزن وقافية ومعنى ...
وليت الكثيرين من المشاركين في الموكب لدينا يكونوا كهذا ... يُجيد دوره ... ويعلم ماذا يريد ... التوجه للغرض المطلوب بمعرفة القدرة يعطيك النتائج المرجوة ... أمّا الطامحون إلى درجات لا يملكون أرجلاً للوصول إليها فتلك طموحٌ كسيحة للأسف ...
عام 1413هـ ... هذا العام وليلة العاشر مُقبلة علينا تقذف في النفوس هيبة وجلالاً ... أعددت وقفتين ... وجئت أعرضهما على مجموعةٍ من الأخوة ... ومن عادتنا الجلوس في الغرفة العلْوية في الطابق الثاني في المأتم ... قبل الموكب هذه عادتنا ... نتداول ما لدينا من قصائد وألحان ...
عرضت الوقفتين برجاء تنويري ... بطبيعة خبرتي أجيد اختيار اللحن المناسب لليلة العاشر ... وما خاب من استشار ... عرضت لهم وقفة ... يا عزيزي يا عزيزي ... زينب ودّعوها ... ثمّ أعقبتها بالثانية ... في كربله مفجوعين ... قرَّ قرار الأكثرية على رجحان الثانية على الأولى ... لما فيها من توقد وتلهب وحماس ... سيما في كسرتها ... يابوعلي ... ويّه هلي ...
بهذا التقدير رأيت أن أقدم الأولى لأرى مستوى نجاحها ... وتبقى الثانية للاستعداد ... أول ما توقف الموكب بدأت بوقفة .. يا عزيزي ... واسترسلت في تأدية المستهل وأعقبته بالفقرة ... كانت المفاجأة تعقد اللسان عن الجواب ... التفاعل معها منقطع النظير بما لم أره من قبل ...
الرقة تقطر من كلماتها ... والمعزي يكاد يذوب شجناً من وتيرة لحنها المنبري ... وكلما أعدتها في المواقع التالية تجدد نجاحها ... وصارت تُثير إحساساً يبعث المنافسة ... أدخلت الوقفة الثانية على الخط ... ولكن للأسف لم تنل نجاح الأولى ... لقد استحوذت الأولى على الألباب ... ولم تبق للأخرى شيئاً من الإعجاب ...
هذه التجربة تشير إلى أن بعض النجاح قد يخفي نجاحاً آخر ... الوقفة الثانية ليست أقل كفاءة من الأولى في تقديري ... ولكن لتقديم الأولى في الموقعية ... ولتميز ما في لحنها ... أعطاها كل هذا مرتبة التقدم والتفوق ... وتخيب التقديرات في أحيان ... كما كان في هذه المرة ... وضعنا معايير للنجاح ... وكان الواقع يرسم معايير أخرى ... كل المعايير صحيحة ... ولكن لوجود بعض الفوارق في النسب تختلف النتيجة .
في هذا العام أيضاً انتقل موكب ليلة الحادي عشر من موكب مكون من حلقتين تتجاوبان إلى موكب بهيئة المسيرة ... يُسيّره رادود بقصيدةٍ متكاملة ... في السابق كان الموكب بصيغة الحلقتين تتناوبان الرد على بعضهما ...
منذ هذه السنة أصبح الموكب مختلفاً ... ألقيت في هذه الليلة قصيدة ذات نسق شجي ... يبويه خلوني ... بالغربة عافوني ... ولا يخفى على ذي لب ما في هذه الليلة من الشدة والألم على أهل البيت ... فهم في ليلة تذكرهم بماضيهم الزاهر والعامر بظل الأشاوس من بني علي ... أما الليلة فالخيام فارغة إلا من النساء والأطفال ... والأرض حولهم مغطاة بدماء أحبتهم ... والجيش محدق بهم ... مُسَلَّبين منكوبين ينتظرون فجراً يُشابه فجرهم الفائت .
في هذه الفترة تم التأسيس الواضح لبحرنة الألفاظ في القصيدة الحسينية ... تم تحويل حرف (چ) إلى حرف (ش) في الكلمات ... مثلاً في الوقفة السالفة ... ايعز عالقلب والله أخليش ... ولو كنا في الفترات السالفة لكان مكان حرف الشين حرف (چ) ... وبدأت العبارات البحرانية تشق طريقها إلى القصيدة الحسينية ... وبدأ عهد التحرر من القصيدة العراقية نوعاً ما ..
التعليقات (0)