لم يعبأ العديد ممن كتب في بحث الإمامة من علماء مدرسة أهل البيت ببعض الأمور المنهجيّة التي أثّرت على سير بحوثهم ونتائجها. ومن أهمّها عدم الالتفات إلى أثر التراث الكلامي لأتباع الخلفاء في التراث الكلامي لأتباع أئمّة أهل البيت (عليهم السلام). ممّا أدّى بهم إلى أن يؤخّروا مواضيع أساسيّة من حقّها أن تتقدّم، وتأخذ موقعها المناسب من البحث والتحقيق والتدقيق، وبرّزوا بدلاً عنها مواضيع ثانويّة لا تشكّل المحور الأساسي لمثل هذه الأبحاث.
وعلى هذا لابدّ من التعرّض إلى بيان هذه النكتة المنهجيّة، وإلى تحديد المنهج المختار في بحث الإمامة ومحاوره الأساسيّة ولو على نحو الاختصار.
تحرير محلّ النزاع
انطلقت المدرسة السنيّة من نقطة مركزيّة في تكوين نظامها الفكري لفهم نظريّة الإمامة تمثّلت في أنّ الإمام أو الخليفة، يعني القائد والزعيم السياسي المسؤول عن إدارة شؤون الناس على مختلف الأصعدة والمستويات. ثمّ إنّهم عندما أرادوا أن يفهموا شرائط وموانع هذه الإمامة ـ التي هي الخلافة باصطلاح علم الكلام السنّي ـ حاولوا تأسيس ذلك من خلال الواقع الذي أوجده الخلفاء الثلاثة الأوائل، فصارت بصدد إقامة الأدلّة من الطرق المختلفة العقليّة والنقليّة لإثبات صحّة ما انتهت إليه الخلافة بعد رسول الله (صلى الله عليه وآله)، فأرادت أن تعرف الحقّ من خلال معرفة الرجال.
«وحيث لم يتجاوز دور الإمام في النظام الفكري لهذه المدرسة تخوم القيادة والزعامة السياسيّة، فقد كان من المنطقي، بقطع النظر عن دلالات الوحي الإلهي، أن يولّوا وجوههم صوب نظريّة الشورى وانتخاب أهل الحلّ والعقد، وذلك:
أوّلاً: لأنّ هذه النظريّة أقرب إلى الذوق العرفي.
ثانياً: إنّ الحكومة شأن من شؤون الناس وعهد بينهم وبين الإمام القائد، وإذ يكون الأمر كذلك، فلابدّ أن يكون للأمّة دور في إدارة الشؤون والنهوض بها، لأنّ القرآن ينص ﴿وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ﴾(1)، ومن الواضح أنّ الإمامة بمعنى القيادة داخلة في أمر الناس، لهذا اتجهت المجتمعات البشريّة صوب نظريّة الانتخاب لا النص.
وكان مما ترتب على تلك النواة المحوريّة في تأسيس نظريّة الإمامة، أنّهم التزموا بانقطاعها وعدم دوامها، لأنّ المفروض، أنّ هذا المنصب لا يتحقّق لأحد إلاّ بعد الانتخاب والبيعة. ومع عدم تحقّق ذلك لا يحق لأحد أن يتصدّى لهذه المسؤوليّة ويرغم الناس على القبول.
وعندما انتقلوا إلى الشروط التي لابدّ من توافرها، فيمن يتصدّى للنهوض بهذا الدور، لم يجدوا مناصاً من الالتزام، بأنّه لا يشترط أن يكون معصوماً، بل تكفيه من الناحية السلوكيّة العدالة بمعناها المتداول في البحث الفقهي، ومن ناحية التأهيل العلمي تكفيه قدرة علميّة ترفعه إلى مستوى أداء المسؤوليّات التي أنيطت به. وهكذا انتهت عناصر النظام الفكري للمدرسة السنيّة في الإمام إلى المكوّنات التالية بشكل عام:
1 ـ لا تعني الإمامة غير الحكم والقيادة السياسيّة.
2 ـ تتم هذه العمليّة بالانتخاب والشورى.
3 ـ إنّها منقطعة ليست دائمة.
4 ـ لا يشترط فيها غير العدالة والعلم بمعناهما المألوف.
ذلك كان التسلسل الذي وجّه العمليّة الفكريّة لبناء نظريّة الإمامة في التصوّر السنّي.
النتائج الخطيرة
عند الانتقال إلى الجانب الآخر من المشهد، نلمس أنّ المنهج الكلامي في المدرسة الشيعيّة، لم يبادر في الأغلب إلى تحرير محلّ النزاع وتحديد الخلاف بين المدرستين، بل دخل إلى تضاعيف البحث مباشرة، فأشهر نظريّة النص بإزاء نظريّة الشورى، وذهب إلى أنّ الإمامة متصلة ومستمرة إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، في مقابل أولئك الذين أنكروا ديمومتها، كما اشترط العصمة المطلقة على مستوى الاعتقاد والأخلاق والسلوك قبل البلوغ وبعده، والعلم الكامل التام من غير كسب.
لكن لمّا كانت انطلاقة الطرفين المتنازعين، تبدو وكأنّها تبدأ من نقطة شروع واحدة، فقد وجد بعضٌ أنّ هناك ضرباً من التهافت وعدم الانسجام بين المسؤوليّة الملقاة على عاتق الإمام، وهي الزعامة والقيادة السياسيّة، وبين الشروط والمواصفات التي ذُكرت له. فالشروط تبدو أضخم وأوسع بكثير من المهمّة التي ينهض بها الإمام.
ربما هذه النقطة والمفارقة التي استتبعتها، هي التي تفسّر لنا التداعيات التي راحت تتهاوى إليها بعض الكتابات المعاصرة حتّى داخل الصف الشيعي ذاته.
فمن هؤلاء من تجاوز تخوم الشكّ إلى حد رفض نظريّة النص في الإمامة، وما يستتبع ذلك من لوازم، ومنهم من احتمل أنّ العصمة تكفي بحد معيّن لا تتجاوزه، لعدم الحاجة إلى ما هو أزيد من ذلك. وفريق رفض العصمة بنحو كلّي، محتجّاً أنّها لو كانت شرطاً أساسيّاً في القائد، فلماذا لم يلتزم أصحاب هذه النظريّة بهذا الشرط إلى آخر الشوط؟ بل تخلّوا عنه واكتفوا بالقول بأنّه يكفي في الإمام ـ أي القائد ـ أن يكون عادلاً لا أكثر في زمن الغيبة.
كما أنّ منهم من ذهب إلى أنّ النزاع في مَنْ هو الأحق بالإمامة بعد رسول الله(صلى الله عليه وآله) نزاع تأريخي عقيم لا طائل من ورائه. ومنهم من راح يتساءل عن الفائدة المترتبة على وجود إمام غائب عن الأنظار ليس بمقدوره أن يواجه مشكلات العصر ويجيب عمّا يثيره من تحدّيات ويتحمّل مسؤوليّته فعلاً، فإنّ وجود مثل هذا الإمام يعد لغواً لا فائدة منه، وهو محال على الحكيم سبحانه.
لقد نشأت هذه التساؤلات والاستفهامات على أرضيّة تلك الانطلاقة التي أسس لها نظام الفكر السنّي في فهم الإمامة، وتبعتها بعض الاتجاهات في الكلام الشيعي»(2).
الإمامة القرآنيّة
إنّ الذي نستوحيه من القرآن الكريم، والسنّة النبويّة الشريفة، والروايات الصحيحة الواردة عن أئمّة أهل البيت (عليهم السلام) الذين هم عدل القرآن العظيم كما هو نص حديث الثقلين المتواتر سنداً ومضموناً، أنّ الإمامة التي تعتقد بها مدرسة أهل البيت (عليهم السلام) تختلف اختلافاً جوهريّاً عن دور الإمامة التي تنحصر في الخلافة والحكم، وذلك لأنّ هذا الاتجاه يرى أنّ للإمامة دوراً فوق دور القيادة والزعامة، وهو الدور الذي بيّنه القرآن الكريم من خلال قوله تعالى: ﴿إِنّي جَاعِلٌ فِى الارْضِ خَلِيفَةً﴾(3)، وأشار إليه بقوله لإبراهيم الخليل (عليه السلام) في قوله تعالى: ﴿إِنّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً﴾(4)، وهي التي عبّر عنها الإمام الرضا عليه السلام: «هل يعرفون قدر الإمامة ومحلّها من الأمّة، فيجوز فيها اختيارهم، إنّ الإمامة أجلّ قدراً، وأعظم شأناً، وأعلى مكاناً، وأمنع جانباً، وأبعد غوراً، من أن يبلغها الناس بعقولهم، أو ينالوها بآرائهم، أو يقيموا إماماً باختيارهم. إنّ الإمامة خصّ الله عزّ وجلّ بها إبراهيم الخليل عليه السلام بعد النبوّة والخلّة مرتبة ثالثة وأشاد بها ذكره، فقال:﴿إِنّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً﴾(5).
وهي التي قال عنها الإمام السجّاد (عليه السلام): «نحن الذين بنا يمسك الله السماء أن تقع على الأرض إلاّ بإذنه، وبنا يمسك الأرض أن تميد بأهلها، وبنا ينزّل الغيث، وبنا ينشر الرحمة ويخرج بركات الأرض، ولولا ما في الأرض منّا لساخت بأهلها»(6).
لذا عندما يُسأل الإمام الباقر (عليه السلام) ويُقال له: لأيّ شيء يحتاج إلى النبي والإمام؟
يقول (عليه السلام): «لبقاء العالم على صلاحه. وذلك أنّ الله عزّ وجلّ يرفع العذاب عن أهل الأرض إذا كان فيها نبي أو إمام، قال الله عزّ وجلّ: ﴿وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ﴾(7).
من هنا عبّر الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله) عن هذا الدور لأهل بيته (عليهم السلام) بقوله: «النجوم أمان لأهل السماء، وأهل بيتي أمان لأهل الأرض، فإذا ذهبت النجوم أتى أهل السماء ما يكرهون، وإذا ذهب أهل بيتي أتى أهل الأرض ما يكرهون»(8).
ولعلّ تشبيه انتفاع الناس بالحجّة في زمان غيبته، عندما يُسأل الإمام الصادق(عليه السلام): فكيف ينتفع الناس بالحجّة الغائب المستور؟ قال (عليه السلام): «كما ينتفعون بالشمس إذا سترها السحاب»(9) يشير إلى حقيقتين أساسيّتين:
الأولى: أنّ الانتفاع به لا يختص بعالم التشريع والاعتبار، بل يتجاوز ذلك إلى عالم التكوين.
الثانية: أنّ هذا الأمر غير محسوس ومرئي للناس، بل يرتبط بعالم الغيب لا نشأة الشهادة.
وتأسيساً على ما تقدّم فنحن نعتقد أنّه لا يمكن الوقوف على فلسفة ما اشترطناه في الإمامة من العصمة والنص والديمومة والعلم الخاص، إلاّ إذا أدركنا المهام والمسؤوليّات التي أنيطت بدور الإمامة والخلافة في النظريّة القرآنيّة. وخصوصاً ما نصطلح عليه بـ «الدور الوجودي» للإمام (عليه السلام)، وهو غير «الدور التشريعي» و«القيادة السياسيّة» و«القدوة الصالحة». بل إن صحّ التعبير فإنّ هذه الأدوار إنّما هي ثمرات ذلك الأصل الذي عبّر عنه القرآن الكريم بـ «الشجرة الطيّبة» التي ﴿أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ ٭ تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِين بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللَّهُ الاَْمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُنَ﴾(10).
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) الشورى: 38.
(2) بحث حول الإمامة، نص الحوار مع السيّد كمال الحيدري، حاوره جواد علي كسّار، المقدّمة، ص15.
(3) البقرة: 30.
(4) البقرة: 124.
(5) الأصول من الكافي، ج 1، ص 199، كتاب الحجّة، باب نادر وجامع في فضل الإمام وصفاته.
(6) بحار الأنوار، ج 23، ص 6، ح 10.
(7) الأنفال: 33.
(8) بحار الأنوار، ج 23، ص 19، ح 14.
(9) بحار الأنوار، ج 23، ص 6، ح 10.
(10) إبراهيم: 24 ـ 25.
التعليقات (0)