منذُ ثلاثة عشر قرنا والطف تتجدد في النفوس ... لا ينطفئ أوراها ...تدكُّ جماجم المتغطرسين ... وتقتلع قوائم العروش الجبابرة ... لولا الإعجاز الإلهي لما وصلنا منها شيء أبداً ...
كثير من الوقائع جرت وأسدل عليها ستار النسيان وكأنها لم تكن ... لم يذكرُها ذاكر ... ولم يروها لسان ... أما عاشوراء فتلك ذكرى تعهّد الإله بإحيائها ... يحي المسببات والأسباب لها ...
وتجد للعاطفة الجياشة المتوقدة أثرا بالغا في عاشوراء ... هذه العاطفة شطحت بالكثير منا لتصديق ما يُروى عن الطف ما دام في إطار إذكاء العاطفة ... هذا أمرٌ مشكل لكنه كان واقعاً ولربما لازال كذلك عندَ بعضهم ... بينما المنهج العلمي يُلزمنا بأخذ الحقائق من أصحابها ... ومن الثقات ... ومن المصادر المُعتبرة .
رواية تزويج القاسم لا يعتبرها الرُواة أمراً واقعاً ... ويطعنون في صحتها... أقصى ما يُقال فيها ... قد يكون الإمام الحسين (ع) عقد للقاسم على ابنته المُسمّاة له ... أمّا العرس بمراسيمه المجراة لدينا في زفة القاسم فتلك إضافات من عندياتنا ...
وللأسف أنَّ مثل هذه الروايات ولكونها تشب الأحاسيس العاطفية يؤسس عليها ويضاف لها ... ولا يرتدع المُضيفون عن ذاك ...في العقود السالفة كانت هناك هوسات ورثناها عن الآباء تدعم هذا التوجه ... هوسة تقول ... عرّيس يا جاسم ... دار العِرس وينه ... خوفه الشباب ايموت ... ويرمل اسكينه ...
وهذه الهوسة من النوع المقسوم نصفين ... بين الرادود والمُعزي ... الرادود يلقي الشطر الأول (عرّيس يا جاسم) والمعزي يجيبه بالشطر الثاني(دار العِرس وينه) ويكمل أيضاً بالثالث ... ويتابعهُ المعزي بالرابع ...
وتلحظ في النص تأسيساً وتأكيداً على الأسماء والزواج والترمُل ... العاطفة الشعبية تميل لكون العرس قبل القتل يلبي حلم الأم في ولدها ... وترى أيضاً أن القتل بعد الزواج يُضفي على الفاجعة مأساوية أكثر ...
أعتقد ببساطة أنَّ أغلب الناقلين لهذه الأخبار لا يفرقون بين نص روائي ونص شعري ... الشاعر يجوز له أن يسرح بخياله ويبتكر صوراً من غير الواقع ... ولا يمكننا أن نحسها على الواقع ...
فحين يتصور الشاعر أمنيات الأم رملة بزواج ابنها لا يكون النص الشعري مكان الرواية ونعتبره واقعاً ...وحين يرسم الشاعر لوحة بقلمه يجسد لنا تصوره بقدوم الإمام علي (ع) ليلة الحادي عشر ليحرس بناته ... فهذا لا يعني تسليمنا بحقيقة ما رسمه ...
أعتقد أنه لهذه المواقف قيل يجوز للشاعر ما لا يجوز لغيره ... الشاعر يجوز له التصوروالتحليق بخياله ... بينما الراوي لا ينبغي له أن يُعطينا إلا الواقع بحذافيره ...
قصائدنا تلك السنوات تغطيها مساحة كبيرة لذكرى الزفاف ... يوم العاشر من المحرّم 1404هـ ظهراً سرقني التعب ورحت في غفوة طويلة .... لم أستعد منها حواسي إلا والخطيب قد انتهى من خطابته ... علي إنشاد قصيدتي داخل المأتم ...
مُسرعاً نهضت وقصدت المأتم ... قدمت القصيدة بصوتي سميك رخيم في أقسى درجات الرخامة ... الصوت يحتاج لأن يكون واضحاً ولا يبدو عليه أثر الإجهاد كما يذكر بعض المهتمين بقضايا الصوت ... على كل حال قدمت القصيدة .
في ذلك العام (1404هـ) أقدم (سيد عدنان الفلّة) على تصوير الموكب بالكاميرا المتحركة ... صوّر لقطات كثيرة بالفيديو ... خلسة صور كل هذا ... من أعلى المأتم .... ومن أعلى سطح منزلهم ... بالخفاء أخذ مشاهد للموكب ... ولإعداد وجبة يوم العاشر من المحرّم ...
لم يكن مسموحاً لأي كان بالتعرض لهذه الأحداث بكاميرا أبداً ... ولم تكن الأذهان تتقبّل وجود أحد يرصد كل ما يجري ... لعلّ هذا الخطأ في رفض توثيق تلك الشعائر أدّى إلى ضياع فترة طويلة من تاريخ تلك الوقائع...
لكنه أعني (السيد عدنان الفلّة) بتلك المحاولة فتح باباً واسعاً لكسر الطوق المفروض على تلك المحاولات ... بعدها طورت تلك المحاولات ... صوّر الإخوة بالخفاء أيضاً من مئذنة مسجد الجوادين ... وتارة صوروا من نوافذ أحد المنازل ... من خلف الستارة طبعاً ... حيث لا تظهر الكاميرا لأحد أبداً ...
حتى تجرأوا شيئاً فشيئاً وباتَ الأمرُ طبيعياً ... إلى أن وصل أمر التصوير إلى كونه تكليفاً بإذن الإدارة ... وسبحان مغيّر الأحوال من حال ٍ إلى حال
التعليقات (0)