المقاماتُ علمٌ يكادُ يكون مجهولاً في أوساط الرواديد ... إذا لم يكن مختفياً ... هذا العلم يدأبُ على تعلُمِهِ قراء القرآن المصريون ... ويعتنون بإجادته ... فهو يسنح لهم في إيصال الآيات بالغرض المطلوب منها ... ولكل مقام خصائصه ... وهو علم ينفع العامل في مجال الصوت ...
والعلم بالشيء خيرٌ من الجهل به ... وله تأثير في ترسيخ القصائد في النفوس ... حين الاستخدام الصحيح بالطبع ... وبدون هذا العلم يتذبذب العطاء بين القوة والضعف ... أحاول التعرف على مميزات المقامات بقدر الاستطاعة ...
في وفاة فاطمة الزهراء (ع) قدّمت قصيدة لداخل المأتم ... يا حجة الله انهض وعجل ... مقام الصبا أفرغها في جو مليء بالرقة والعاطفة ... وهو مقام يتغلغل في أعماق النفس إذا تمكّن الرادود من توظيف حنجرته في خدمة هذا المقام ...
ويُسميه بعض المهتمين بعلم المقامات (بكاءُ الرجال) ... يتناسب دوره مع دور الرثاء بالتمام ... وبمعرفة المقام يستعين الرادود به في حفظ اللحن ... فالمقام كالدليل والمرشد على موقع اللحن ... كالذاهب للبحث عن منزل في قريةٍ ما ... فبتحديد الجهة ورقم المنزل تسهل المهمة...
مُعضلة هروب الألحان تواجه كثيرا من الرواديد (الشيالين) ... في منطقتنا كان أحدهم يُعاني منها كثيراً... ويتجنب سماع أي لحن غير لحنه قبل إلقاء قصيدته ... لكنه يدخل الموكب بانتظار قصيدته ... ويكون قبل أحد الرواديد ... فما يكون منه حين يأتي بعده إلا أنَّ ينسج قصيدته على لحن من سبقه ونفسه ... ويذهب جهده كاملاً أدراج الرياح ...
قصيدة ... ولتنه القوم يخليصي ولتنه ... لم أوفق لإنجاحها في ليلة العاشر ... قبلها بعام أدى (جعفر سهوان) قصيدة من أجمل ما قدّم ... في ليلة العاشر أيضاً مستهلها.... يقول الله الله الله ... الله أكبر ...ليلة العاشر محرم ... ليلة أوداع ورهيبة ... قصيدة أدمت القرائح بشجوها ... وأفاضت على المناسبة ستار المُصيبة ...
ولم يأتِ العام الثاني إلا وكان (جعفر) قد غيبه السجن عن أعيننا ... ومن جميل ما هو مُتعارف في الموكب لدينا عادة حسنة ... يعتاد القائمون على الموكب وبدعم من المعزين على إيجاد ذكرى للرواديد المعتقلين ... بإعادة إحدى قصائدهم البارزة ...
في هذه السنة في ليلة العاشربدأت الموكب بقصيدة ... ولتنه القوم يخليصي ... حين رأى المنظمون أن نقتسم الطريق ... نِصفٌ لهذه القصيدة ... والنِصفُ الثاني لقصيدة الذكرى (لجعفر) ... ولا يبدو أن المعزين ارتاحوا لهذه المناصفة ...
كانَ إصرارهم على جعل قصيدة الذكرى تستوعب الطريق بأكمله... مما اجهض قصيدتي من أولها ... حيث لم يكن الجمهور في السماع ... وهو غير متهيئ للتفاعل ... وهذا يُعطينا مؤشراً على ضرورة التهيؤ من قبل المتفاعل وإلا بطل التفاعل .
بعد انقضاء نصف الطريق ... حوّلت الميكرفون إلى الرادود (مكي جاسم) ... حينها استطاع أن يُحيي الموكب بقصيدة الذكرى ... حيث التهبت المشاعر تفاعُلاً مع أوّل نأمة صوت من فمه ...
(مكي جاسم) من الرواديد المُخضرمين ... الذين عاصروا موكب المأتمين وباقي مآتم الشباب ... له حنجرة مطواعة وتستجيب له في ألحان الحماسة والفاعلية الشديدة ...
أوّل أيام سماعي لهذا الرادود حين كنت مع بداياتي في مأتم السنابس ... يمر موكب مأتم بن خميس على الطريق المؤدي إلى مأتم السنابس ... ولا بأس إن وقفنا نستعرض الموكب قبل أن ننصرف لتأدية واجبنا في موكب السنابس ...
كان يوم التاسع من المحرم ... أقبل الموكب وصوت (مكي) يرعد في الآذان ... ويأسر الواقفين... قصيدته من طراز الحماس الراقي ... أنتَ من ماتَ شهيداً ... ظامئاً في كربلاء ... ومع انصباب كلمات المستهل في جوف أذني أخذتني رعدة من هيبة الموكب المقبل في صورته العسكرية ... لا شيء من الصورة يوحي على النظام العسكري ... إلا أنَّ أسلوب اللحن والطريقة الباسلة في تأديته تُرغم القشعريرة على الانتفاض في أعضاء الإحساس .
حين لم تنتج القصيدة نجاحاً في ليلة العاشر بالنسبة لي ... أعدت استخدام اللحن للمرة الثانية ليلة الثالث عشر من المحرم ... ليلة الثالث عشر لم تكن تُحيى بهذه الطريقة ... في السنوات التي سبقت هذه السنة اعتاد مأتم بن خميس على إجراء مسرحية الدفن في الساحة المواجهة لمتجر (موسى جعفر بن خميس) ... وآخر السنوات تمّ تحويلها إلى الساحة الخلفية لدكاكين المأتم الكائنة بقرب مسجد السيف ...
في الساحة يحفرون نهراً ... ويضعون إناء كبيرا (صفرية)... يسكبون فيه الماء تعبيراً عن ماء النهر ... يصفّون الأجساد التي يستخدمها المأتم طوال العشرة من محرّم ... أجساد مُكوّنه من قماش وقطن ... مُقطّعةٌ أطرافها ... الدماء تصبغ الأعضاء المبتورة منها ...السهام نابتةٌ في أعضاءٍ منها ...
لم يكن الإتقان بادياً في صناعة تلك التشابيه ... كان يصنعها المرحوم (حسين بن خميس) (أبو علي) بخبرته البسيطة ... ملامح أوجهها رمزية... أبعاد الأعضاء غير مُتكافئة... إلا أنّها تقضي غرضاً في إدرار الدمعة لدى من يتطلب التفجُع ... ولا يعتني القائمون عليها بمن يجعلها محطة للسخرية ...
يقبل الموكب آتيا من المأتم ... في حلقتين متتابعتين تتناولان الرد على بعضهمها... الأولى تردد... عزوا يشيعه فاطمه وحيدر ...جسم الشهيد حسين داسته الخياله... فتجيبها الحلقة الثانية قائلة ... موكب سنابس يانسل حيدر ... ليك اعتنى يحسين بدموع هماله... هذه النصوص نقلتها حسب السماع والحفظ في الذاكرة...ويصل الموكب لساحة التمثيل...
بتلكَ الأجساد تُفرش الساحة ... ويتم تمثيل واقعة دفن الأجساد ... حين تُمثل مجموعة عشيرة بني أسد ويمثل الخطيب (سيد جاسم الطويرجاوي) دور الإمام السجّاد ... أثناء وجوده للخطابة في مأتم بن خميس طبعاً ... إلى أن يتم دفن الأجساد ... في آخر عام تمّ تأدية تلك الواقعة فحَدث ما عكّر جو العمل ... أثناء ما كان الناس مندمجين في متابعة أحداث الواقعة انطلقت من بعض الجهات فلاشات كاميرا تصوير ... مما أوحى بوجود من يُصور ...
لا يُمكن أن تُحسن النية في من يُحاول تصوير تلك المشاهد في تلك الآونة ... انطلق الكثيرون راكضين خلف من صدر التصوير من جهته ... إلا أنه فرَّ هارباً ... ولا أعلم إن ظفرت أيديهم به أم لا ...
لهذا السبب ظاهراً ولأسباب أخرى أكيداً ... جرى تحويل مشاهد التمثيل إلى مسيرة عزائية ... تنطلق من مأتم بن خميس وتمر على ساحة التمثيل وتنعطف لغرب السنابس وتواصل الطريق إلى المأتم ...
المسيرة تختلف عن الموكب المعتاد ... لا يخلع المعزون ملابسهم في المسيرة ... ولا توجد وقفات ولا هوسات ... فقط قصائد مسير حزينة ... وتتقدم المسيرة أجساد الواقعة .
أوّل عام برزت مسيرة ليلة الثالث عشر في 1403هـ ... الحضور المشارك في المسيرة كان حاشداً ... وفي تلك المسيرة ألقيت قصيدة ... جاسم ضحّى بدمه ... ومنذ ذلك اليوم وليلة الثالث عشر فارقت العمل المسرحي إلى أجلٍ مسمى ... نتمنى إعادة المسرح فيها بصورة حديثة تُعيد إليها ألق الماضي ويُجدد الأحفاد تراث أجدادهم ... ويحيوا فيها ما مات بما يُناسب الزمان ....
التعليقات (0)