فاتجه الحسين (ع) هو وأصحابه إلى الجبل، وعسكر العدو المتشكل من ألف مقاتل يزحف نحوهم بسرعة وبقيادة الحر بن يزيد الرياحي، فراح الحر يضايق الحسين (ع) ويسابقه لاحتلال الموقع الإستراتيجي من الجبل فسبقه الحسين (ع) إلى الموقع وأمر بخيامه فضربت.
كان الوقت ظهراً والحر شديداً وجيش الحر يكتوي بحر الظهيرة وخيوله تلهث من العطش ورجاله تتلوى من الضمأ، نظرالحسين (ع) إليهم بأخلاق النبوة التي عامل بها رسول الله (ص) أهل مكة يوم الفتح والنصر، وبروح العطف التي تربى عليها في بيت الإمامة فحنى على هذا الجيش الذي جاء لمحاصرته بقلبه الكبير وشملهم بشعوره الإنساني النبيل وأمر أصحابه بسقي الخيل والرجال بل وشارك هو بنفسه بتقديم الماء وإرواء بعض العطاشى المتلهفين.
كان وقت صلاة الظهر قد حان وآن للحسين (ع) أن يعرج بصلاته إلى الملكوت الأعلى، ما أن انتهى المؤذن حتى قام الحسين خطيباً بين المعسكرين موضحاً للحر والجند الذين كانوا معه رأيه ومبادئه، ثم طالبهم بالوفاء بالعهود والمواثيق وذكر لهم الكتب والرسل التي أرسلوها إليه فسكت الجميع ولم يردوا على الخطاب.
يئس الحر من الحسين (ع) وتنحى عنه فسار الحسين (ع) حتى انتهى إلى (غذيب الهجانات) ثم استمر حتى وصل إلى موقع (قصر بني مقاتل) فنزل به، وفي ساعة متأخرة من الليل أمر فتيانه بالتزود بالماء والبدء بالرحيل وامتطى الحسين (ع) جواده وقد أخذ السهر والإعياء منه مأخذاً فغشيه النوم لحظة ثم انتبه وهو يقول: (إنا لله وإنا إليه راجعون والحمد لله رب العالمين)، فقال له إبنه علي بن الحسين (ع) مم حمدت الله واسترجعت؟ فقال: يا بني إني خفقت خفقة فعن لي فارس على فرسه وهو يقول: (القوم يسيرون والمنايا تصير اليهم). واخترقت خيوط النور إهاب الليل البهيم وبدأ وجه الصباح الملئ بالأسرار والمفاجآت حتى انتهى إلى موقع يدعى ( نينوى).
فوجئ الحر برسول عبيد الله بن زياد يحمل رسالة شديدة اللهجة موجهة للحر بن يزيد الرياحي يقول فيها: (أما بعد فجعجع بالحسين (ع) فلا تنزله إلا بالعراء في غير حصن وعلى غير ماء، وقد أمرت رسولي أن يلزمك ولا يفارقك حتى يأتيني بانفاذك أمري والسلام).
توجه الحر إلى الحسين (ع) فقرأه عليه وأطلعه على رأي عبيد الله بن زياد فقال له الحسين (ع) إذاً دعنا ننزل (نينوى) أو(الغاضريات) أو (شفية). رفض الحر طلب الحسين (ع) وتذرع بالخوف من عناصر الإستخبارت والرقابة في الجيش، ثم بادر زهير بن القين واقترح النزول في منطقة قريبة تدعى (العقر)، فرفض الحسين (ع) ذلك وأصرعلى مواصلة المسير ليرد أرض الميعاد وليحط رحله حول سرادق الشهادة في أرض كربلاء.
ثم قام الحسين (ع) خطيباً: (إنه قد نزل بنا من الأمر ما قد ترون، وإن الدنيا قد تغيرت وتنكرت وأدبرمعروفها ولم تبقي منها إلا صبابة الأناء وخسيس كالمرعى الوبيل، ألا ترون إلى الحق لا يعمل به وإلى الباطل لا يتناهى عنه، ليرغب المؤمن في لقاء ربه محقاً، فإني لا أرى الموت إلا سعادة والحياة مع الظالمين إلا برما).
وهكذا قاد القدر المسيرة وأخذ القضاء بزمام الركب حيث الموعد والمثوى، فسار ولم يقطع مسافات طويلة حتى اعترضه الجيش الأموي واضطره للنزول. توقف الحسين (ع) وراح يسأل وكأنه يبحث عن كربلاء (ما إسم هذه الأرض؟ فقيل له (الطف)، فقال هل لها إسم غير هذا؟، قيل إسمها كربلاء، فقال:(اللهم أعوذ بك من الكرب والبلاء انزلوا، ها هنا محط رحالنا ومسفك دمائنا وها هنا محل قبورنا، بهذا حدثني جدي رسول الله (ص). راحت الجيوش تتوالى، وراح عبيد الله بن زياد يبعث بقواته المسلحة بشتى صنوفها، وكان من أبرز الذين انتدبهم لتنفيذ الجريمة ومقاتلة الحسين (ع) هو عمر بن سعد، وقد سُمِعَ يقول ويردد الشعر:
أأتـرك مُـلك الـري والري رغبة أم أرجع مذموماً بقتل حسين
وفي قتله النار التي ليس دونها حجاب ومُلك الري قرة عيني
واتجه نحو الحسين (ع) وهويقود أربعة آلاف مقاتل، فاتخذ من نينوى مقراً لقواته، وحرك عمر بن سعد جيوشه وفرسانه في السابع من محرم لتطويق الحسين (ع) من جانب الفرات والحيلولة بين آل الرسول وبين الماء ليموتوا عطشاً أو يضطروا للتسليم كجزء من خطة الحرب والحصار.
إبتدأ الزحف الآثم عصر يوم الخميس التاسع من شهر محرم الحرام، وراحوا يلوحون بالسيوف والرماح والحسين (ع) جالس أمام فسطاطه ينظر في صحراء الطف ويجول في آفاق الحدث الكبير ويرقب جولة الباطل وحميمة الشيطان، وترتسم أمامه لوحة المشهد وتصور فصول المعركة والشهادة فيراها كوكباً تألّق في سماء التاريخ وحركة لا تهدأ في ضمير الأحرار.
لم يكن الحسين (ع) ملتفتاً إلى جموع جيش عمر بن سعد، وها هي الجيوش تحيط بظعن الحسين (ع) والنساء والصبية من آل الرسول (ص) يرقبون المحنة بقلوب حرى ونفوس واجفة والحسين (ع) يتحرك حول المخيم ويخطط لحماية الأطفال والنساء من غارات الجيش المتحفز بروح الحقد والكراهية للإجهاز على هذه الكوكبة النيرة وإطفاء نورها من أفق الإسلام. وقبيل المغيب وقف الحسين في أصحابه وأهل بيته (ع) خطيباً ليخبرهم أن القوم لا يريدون قتل غيره، وبوسع كل واحد أن ينسحب تحت جنح الظلام وينجو من القتل، فرفض الجميع ذلك وأصروا على القتال والفداء.
جن الليل وأرخى الصمت سدوله وهدأ الطير ونامت جفون الخلائق كلها إلا آل محمد (ص). باتوا ليلتهم بين داعٍ ومصلٍ وتالٍ للقران ومستغفرٍ وبين مودعٍ وموصيٍ بأهله وأبنائه ونسائه، فكان لهم دوي كدوي النحل وحركة واستعداداً للقاء الله سبحانه وتعالى، يصلحون سيوفهم ويهيئون رماحهم، فباتوا تلك الليلة ضيوفاً في أحضان كربلاء وبات التاريخ أرِقاً ينتظر الحدث الكبير، وباتت سيوفهم ورماحهم أقلاماً تتهيأ لتخط في صفحات التاريخ بمداد الدم المقدس أروع فصل كتب في عمر الإنسان. قد أحاطت بهم الخيل والليل والغربة والجيش الذي راح يتكاثر ويجتمع، الألف بعد الأف والمئة بعد المئة حتى أمسى جيشاً عرمرماً. انقطعت ليلة الهدنة وطلع ذلك اليوم ورؤوس الأسنة والرماح والأحقاد وهي مشرعة لتلتهم جسد الحسين (ع) الطاهر.
عبأ عمر بن سعد رجاله وفرسانه فوضع على ميمنة الجيش عمر بن الحجاج وعلى ميسرته شمر بن ذي الجوشن وعلى الخيل عروة بن قيس وعلى الرجالة شبث بن ربعي وأعطى الراية دريداً مولاه. نظر الحسين (ع) إلى الجيش الزاحف وتأمل به طويلاً، ولم يزل الحسين (ع) كالطود الشامخ قد اطمأنت نفسه وهانت دنيا الباطل في عينه وتصاغر الجيش أمامه فكان وأصحابه كما قال الشاعر فيهم:-
لبسوا القلوب على الدروع وأقبلوا يتهافتون على ذهاب الأنفس فلم ترهبه كثرة الجيوش ولم توهن عزيمته كثافة الصفاح والأسنة، بل استشرق من عليائه الروحي المتعال ورفع يدي الضراعة والإبتهال إلى الله سبحانه وراح يناجي:- (اللهم أنت ثقتي في كل كرب، وأنت رجائي في كل شدة، وأنت لي في كل أمر، نزل بي ثقة وعدة، كم من هم يضعف فيه الفؤاد وتقل فيه الحيلة ويخذل فيه الصديق ويشمت فيه العدو، أنزلته بك وشكوته إليك عمن سواك ففرجته عني وكشفته فأنت ولي كل نعمة وصاحب كل حسنة ومنتهى كل رغبة). وهكذا استغرق الحسين (ع) في لحظة مناجاة وموقف روحي أخاذ والجيوش تقترب والجند تجول الميدان والحسين (ع) قد حصن مخيمه وأحاط ظهره بخندق أوقد فيه النار ليمنع المباغتة والإلتفاف من الخلف وليحمي النساء والأطفال من العدوان المحقق.
طلب الحسين (ع) من جيش يزيد بن معاوية أن ينصتوا لكي يكلمهم إلا أنهم أبو ذلك وعلا ضجيجهم ولغطهم، إلا أنهم في النهاية سكتوا فخطب فيهم الحسين (ع) معاتباً لهم على دعوتهم له وتخاذلهم، كما حدثهم بما سيقع لهم بعد قتله على أيدي الظالمين من ولاة بني أمية، عهدٌ إليه من جده (ص) وأبيه (ع)، وهو ما تحقق فعلاً، وخص قائد الجيش عمر بن سعد الذي كان الطاغية يزيد يُمنـِّيه بجعله والياً على بلاد الري وجرجان بأن حلمه ذاك لن يتحقق وأنه سوف يقتل ويرفع رأسه على الرمح.
ثم قال عليه السلام:- تباً لكم أيتها الجماعة وترحاً، أفحين استصرختمونا ولهين متحيرين فأصرخناكم مؤدين مستعدين، سللتم علينا سيفاً لنا في إيمانكم وحششتم علينا ناراً اقتدحناها على عدوكم وعدونا فأصبحتم إلباً على أوليائكم ويداً عليهم لأعدائكم بغير عدل أفشوه فيكم ولا أمل أصبح لكم فيهم إلا الحرام من الدنيا أنالوكم، وخسيس عيش طمعتم فيه من غير حدث كان منا ولا رأي تفيل فهلا لكم الويلات إذ كرهتموها تركتمونا فتجهزتموها والسيف لم يشهر والجأش طامن والرأي لم يستحصف ولكن أسرعتم علينا كطيرة الدبا إلى آخر خطبته... ألا لعنة الله على القوم الناكثين الذين ينقضون الإيمان بعد توكيدها وقد جعلتم الله عليكم كفيلاً، فأنتم والله هم، إلا أن الدعي ابن الدعي قد ركزه بين اثنتين بين السلة والذلة وهيهات منا الذلة يأبى الله لنا ذلك ورسوله والمؤمنون وحجور طابت وطهرت وأنوف حمية ونفوس أبية من أن توثر طاعة اللئام.
ثم أنشد أبيات فروة بن مسيك:
فأن نهزم فهزامون قدماً
وأن نهـزم فـغير مهزمينا
وما أن طبنا جبن ولكن
منايـانـا ودولــة آخــرينا
فـقل للشامتين بنا أفيقوا
سيلقى الشامتون كما لقينا
اذا ما الموت رفـع عـن
أناس بكلكله أناخ بآخرينا
التعليقات (0)