إن القدوة في الحياة ميزان روحي لابد منه.. لكي يعرف كلّ فرد مدى استقامته على الدرب، أو كيف يعود إليه بعد الانحراف.
يبحث الإنسان دائماً على قدوة رشيدة يتبع خطواتها ويقتفي أثرها على درب الحياة الطويل، ويمكن وراء هذا البحث الدائم دوافع نفسية فطر الله البشر عليها، لتستمر رحلة الحضارة الإنسانية إلى الأمام، وتتوارث الأجيال عن بعضها الحكمة والمعرفة، والآداب. وأبرز تلك الدوافع وأهمها ثلاثة:
الأول: هيبة الحياة التي تستبد بكل فرد يدخل، لأن الحياة بالنسبة إليه تجربة جديدة لم يمارسها من قبل، ولمعرفته القاطعة أن الطريق الذي يجب أن يسير عبره ليس مرصوفاً بالأزهار بل مزروعاً بالحفر والمنعطفات.. لذلك يبحث عن قدوة أرتادها، وكشف عن منحنياتها وعقباتها، ورفع عنها قناع الهيبة، وغشاوة الخوف. إن هذا دافع نفسي قدير ببعث كلّ جيل بأتباع السابقين.
الثاني: الشعور بالحاجة إلى المقياس.. ذلك لأنه كمثل الحاجة إلى المرآة التي تنعكس عليها صورة وجهنا الطاهر وتكشف لنا عما بها من جمال يزيدنا ثقة بأنفسنا، واحتراماً وحباً لها، وقد تساعدنا على إزالة بعض السوء الذي لصق به بعد أن حددنا موضعه.. كمثل الحاجة إلى هذه المرآة هي حاجتنا إلى مرآة روحية نكشف بها صورتنا الباطنية، ونتعرف على ما بها من جمال وروعة، وصفات حسنة، فتزيدنا ثقة وإيماناً.. وقد نتعرف بها إلى بعض ما فينا من صفات رديئة، لعلّنا نتخلص منها بعد كشفها بدقة ووضوح. فالقوة إذن.. ميزان روحي لابدّ منه لكي يعرف كل فرد مدى استقامته على الدرب، أو كيف يعود إليه بعد الانحراف.
الثالث: الإحساس بضرورة تجسيد القيم ذلك لأننا ـ كبشر ـ لا نستطيع أن نحب الخير والإصلاح.. والمعروف إلا من خلال تجسيدها في رجال محدودين، كما لا نكره، والفساد والمنكر إلا بعد أن يمثلها فريق معروف من الناس. وبتعبير آخر، الخير والشر، والصلاح والفساد، والمعروف والمنكر.. كلّ تلك أحداث جارية مع الزمن، لا تكشف عن نفسها إلا بعد أن تحققه خارجاً، ولا يحبها ويبغضها الإنسان إلا بعد أن يبصرها مجسمةً أمامه، ويجد نتائجها الواقعية. والقدوات والخيرة الصالحة هي التي تجسد لنا القيم المثلى، وتعرفنا بأهميتها وتستقطب حبنا واحترامنا، وأيضاً أتباعنا لها كما أن أهل الشر والفساد يثيرون فينا الكراهية لهم. إننا قد نتحدث إلى شخص ما ساعة كاملة عن مساوئ الشر فلا يخلق فيه أثراً بقدر ما تخلقه قصة واحدة عن عملية إجرامية حيث تثير فيه التقزز والرفض، وتدعوه إلى الابتعاد كلياً عن مثل تلك العلمية.
من هنا تأتي الحاجة النفسية إلى القدوة ولوجود دوافع نفسية عديدة فيه إلى أتباعها.. لم يكتف الله الحكيم إذ شاء أن يهدي الناس ويصلحهم.. لم نكتف بأن نزل عليهم الكتب المقدسة حتى بعث إليهم الأنبياء ليكونوا قدوات خيرة يحبهم الناس ويحاولون أتباعهم.. لقد اقترح فريق من الجاهلية على الله سبحانه أن يبعث إليهم ملكاً رسولاً. وسفههم القرآن الكريم وقال: (قُلْ لَوْ كانَ فِي الأَرْضِ مَلائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّماءِ مَلَكاً رَسُولاً). إن حكمة الاقتداء تفرض التجانس بين الرسول وبين من أرسل إليهم، ليتم بينهم التفاعل النفسي الشامل. ولقد كان النبي (صلى الله عليه وآله) قدوة كريمة للأمة قال عنه القرآن الكريم: (لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ). ومن هنا أيضا، تأتي حاجتنا إلى الإمام الحسين كأفضل قدوة للإنسانية أبداً.
لقد كانت سيرته النقية مدرسة رسالية تعلمنا كلّ معاني الخير والمعروف، وتجعلنا نعتنق الدين الذي جاء بالحق، وأمر بالعدل واستقام بالإيمان، ولم يخلف التاريخ تلك القصص الحق من سيرته المباركة، إلا ليستقطب حبنا لتلك الحياة الإيمانية الصادقة التي تجلّت فيها، وفي الوقت ذاته يستشير رفضنا للمادية المتطرفة التي اتسم بها أعداؤه. كان الإمام الحسين (عليه السلام) يحيي الليل كلّه بالعبادة عبر جميع مراحل حياته، حتى إنه استمهل عدوه ليلة عاشوراء لكي يعبد ربّه، وقال إن الله يعلم إني لأحبّ الصلاة.. وفعلاً قضى تلك الليلة الرهيبة بين ركوع وسجود.. ودعاء واستغفار.
وكان من بين تلك العبادة الليلية أن يحمل كتفه الشريف السويق والتمر ويوزعها على الفقراء، حتى وجد على ظهره بعد استشهاده أثراً منه رغم كثرة جروحه الدامية. ولقد مشى إلى الحج حافياً عدة مرّات وهو يسوق أمامه الرواحل الجاهزة للحجيج، فسئل عنه، فأجاب: إنما أفعل ذلك تواضعاً لربّي. لقد كان يفتح بعض أدعيته بهذه الجمل الخاشعة: (اللهم اجعلني أخشاك كأني أراك، وأسعدني بتقواك، ولا تشقني بمعصيتك... وبارك لي في قدرتك).
وحينما وقعت الأمة في شراك المخطط الأموي، وتقاعس الآخرون عن القيام بمسؤوليتهم التغييرية لم يجعل تقاعسهم مبدءاً للسكوت، بل دافعاً للثورة والتضحية. ولقد سجل الإمام الحسين (عليه السلام) في مسيرته المقدسة أروع مواقف الإخلاص والتضحية والاتجاه إلى الله سبحانه دون سواه. لقد استشهد أصحابه وسبح في الدم ابنه الشاب (علي الأكبر)، وصرع أخوه البطل المقدام (العباس) وسائر أهل بيته، ولم يبق له سوى نجله الرضيع، فأخذه إلى معسكر العدو يطلب منهم شربة ماء فرموه بسهم محدد فتفجر الدم من عنقه الرقيق، في مثل هذا الموقف نظر الإمام إلى السماء هنيئة، ثمّ قال: (هون ما نزل بي أنّه بعين الله) لقد استهان بجميع تلك المصائب العظيمة، بيقينه الصادق بأن الله سميع عليم بصير، وإنه نصير الحق والعدل له عاقبة الأمور. وفي آخر لحظة حينما انهارت قواه.. وتفجر الدم من جوانبه.. من جبهته المفضوخة بالحجارة.. من قلبه النابت فيه السهم المحدّد.. من مواقع السهم التي كانت كمواقع النجوم لا تحصى عدداً، هناك هوى على الأرض.. يناجي ربه: (رضا بقضاك ولا معبود سواك) من هذا الإيمان العنيف والصمود القوي كتب الحسين (عليه السلام) فصول الثورة المقدسة، وضحى في سبيل مبادئه وأهدافه السامية.
لقد بدأ الإمام الحسين (عليه السلام) مسيرة الإصلاح والتغيير والثورة من أجل الله والمبدأ، وعلى الأمة أن تواصل مسيرته المقدسة وتترسم خطاه الخالدة.
التعليقات (0)