شارك هذا الموضوع

تزكية النفس

تزكية النفس
 
أراد الله تعالى للإنسان في أكثر من آية كريمة، أن يبحث عن أسباب الفلاح، ليكون من المفلحين الناجحين في الدنيا والآخرة، ولينال من خلال ذلك القرب من الله، حيث يُدخله تعالى في رضوانه، ويوصله إلى جنّته. وقد أكّد القرآن الكريم، أنَّ من أولى مسؤوليات الإنسان هي الاهتمام بنفسه وتربيتها من الداخل، من خلال ما يفكر ويشعر، ثم تربيتها في حركة الخارج، بأن يربي نفسه على أن تعمل الخير كله، وتقف عند مواقع الحق كله، وتنطلق بالعدل كله للناس جميعاً.
 
عناصر الفلاح

وقد عبّر القرآن الكريم عن هذه العملية التربوية بكلمة التزكية، والتزكية تعطي معنى التطهير للنفس، لأنك عندما تطهّر نفسك من كل الرذائل الروحية والفكرية والشعورية والعاطفية، فإنك تعطي نفسك الانفتاح على كل ما يقرّبك إلى الله تعالى، وبذلك تجعل نفسك تنمو في خط الخير والحق والعدل ورضوان الله، لأن التزكية تعطي مسألة التنمية.
 
وهذا ما ينبغي للإنسان أن يؤكده في كل نشاطاته الروحية والعملية، وقد أراد الله تعالى للإنسان أن يبدأ بنفسه ليؤكد فلاحها بأكثر من وسيلة ووسيلة، فنقرأ قوله تعالى: {قد أفلح من تزكّى* وذكر اسم ربه فصلّى} (الأعلى:14-15)، إن الذي يفلح وينجح في الدنيا والآخرة هو الذي يزكّي نفسه ويتعهّدها، بأن يطهّرها من كل الرذائل الأخلاقية والروحية ليجعلها مزكَّاة، نامية، ومن مظاهر هذه التزكية، أن تنفتح على الله وتذكره، لا ذكر اللسان فحسب، بل ذكر الوعي، بأن تذكر الله عند كل حرام فتتركه، وأن تذكره عند كل واجب فتفعله، وبعد ذلك تصلّي لربك تأكيداً لإثبات إحساسك بالعبودية له، لأن الصلاة هي مظهر العبودية لله، ومظهر الاعتراف بتوحيد الإنسان له، وهي مظهر الشكر له، لأن الإنسان إذا عاش حضور الله في حياته، فإنه يشعر برقابة الله عليه، فيدفعه خوفه من الله ومحبته له تعالى إلى الطاعة، ويمنعه عن المعصية، ويتَّجه بعد ذلك إلى الصلاة التي هي معراج روح المؤمن إلى الله تعالى.
 
إن الله تعالى يريد أن يؤكد للإنسان، أن عليه أن يدرس نفسه من خلال إبداع الله تعالى لهذه النفس في كل الأجهزة التي تنظم لها حياتها، وتخطط لها حركتها، هذه النفس العجائبية التي أعطاها الله تعالى القدرة على القيام بشؤون الحياة، والتي سوّاها وجعلها قادرة على الحركة والإبداع
 
يقول تعالى: {ونفس وما سوّاها* فألهمها فجورها وتقواها} (الشمس:7-8)، فالله تعالى عندما سوّى هذه النفس وحشد فيها كل العناصر في ما أعطاها من قوة التفكير، وفي ما منحها من حركة الشعور، ومن حالة النموّ في الروح والعاطفة، دلّها على طريق الخير وطريق الشر، وقال للإنسان: إن في الحياة طريقين: طريق الفجور الذي يعني أن تبتعد عن طاعة الله، فتترك ما أمرك به، وتفعل ما نهاك عنه، وهذا هو الفجور العملي، وهناك خط التقوى، وهي أن تأتي بما أمرك الله به، وتترك ما نهاك عنه، ولم يحدد لك الله تعالى في إرادتك ما يفرض عليك هذا أو ذاك، بل جعلك حراً في الاختيار، ولكنه حمّلك مسؤولية ما تختار، وقال لك: إذا اخترت الفجور فهناك حساب وعقاب، وإذا اخترت التقوى فهناك الثواب: {فمن يعمل مثقال ذرة خيراً يره* ومن يعمل مثقال ذرة شراً يره} (الزلزلة:7-8).
 
{قد أفلح من زكّاها}، لأن النفس بقدر ما تكون نفساً زكية منفتحة على الله والخير كله، بقدر ما يكون مصيرها مصير الأزكياء في كل مجالات الحركة في الحياة، فالإنسان الذي يأخذ بأسباب الفلاح، هو الذي يزكّي نفسه ويهذبها ويربيها ويجعلها تنمو نمواً طبيعياً، ليغرس فيها غراس الخير، ولتنتصب منها أشجار الخير. {وقد خاب من دسّاها} (الشمس:9-10)، من أهملها وتركها تعيش في داخل زنازين الشهوات والغرائز. وبتعبير آخر، من لا يطلقها في حركة الخير وفي خط الحق، وفي السير من أجل القيام بالمسؤولية في الحياة كلها.
 
مواقع الفلاح
 
وقد فصّل القرآن الكريم في سورة "المؤمنون" مواقع الفلاح، التي تؤدِّي بالإنسان المفلح إلى أن ينال رضى الله ويتحرك بجهده نحو جنّته، يقول تعالى: {قد أفلح المؤمنون}. ما هي مظاهر فلاحهم؟ {الذين هم في صلاتهم خاشعون} هم الذين يجعلهم إيمانهم يخشعون لله عندما يذكرونه {والذين هم عن اللغو معرضون} (المؤمنون:1-3)، لا يتكلمون كلام اللغو الذي لا فائدة منه ولا منفعة، بل يعروضون عنه وعمّن يتكلّم به: {وإذا مروا باللغو مروا كراماً}.
 
أيضاً، من مظاهر فلاحهم {والذين هم للزكاة فاعلون} (المؤمنون:4)، هؤلاء الذين أنقذوا أنفسهم من البخل: {ومن يوقَ شحّ نفسه فأولئك هم المفلحون} (الحشر:9)، لأن البخل يمنع الإنسان من القيام بما فرضه الله عليه، ومن العطاء في معنى مشاركته الإنسان الآخر في حاجاته الإنسانية، {والذين هم لفروجهم حافظون} الذين يعيشون العفة في الجانب الجنسي، فلا يزنون، ولا يمارسون الشذوذ الجنسي المذكّر في اللواط، ولا يمارسون الشذوذ الجنسي المؤنث في السحاق، {إلا على أزواجهم} فالعلاقة الزوجية الشرعية هي العلاقة التي يمكن للإنسان أن يشبع فيها شهوة الجنس عنده، رجلاً كان أو امرأةً {أو ما ملكت أيمانهم} في ما كان يُعرف بملك اليمين في السابق، وقد زال من المجتمع الإسلامي {فإنهم غير ملومين* فمن ابتغى وراء ذلك} في ما حرّمه الله عليه من الزنا والسحاق واللواط {فأولئك هم العادون} (المؤمنون:5-7) هم المعتدون على شريعة الله.
 
{والذين هم لأماناتهم وعهدهم راعون}، فالمؤمنون المفلحون هم الذين إذا ائتمنوا على أمانة حفظوها وأدّوها، سواء كانت أمانة مال أو عرض أو سرّ أو أمانة مسؤولية، وهم الذين يرعون عهودهم، فإذا أعطوا عهداً، سواء كان عهداً تجارياً أو أمنياً أو علاقة زوجية أو أي نوع من أنواع العهد، فإنهم يوفون به {والذين هم على صلواتهم يحافظون} يصلّونها في أوقاتها، فلا يؤخّرونها، ويحافظون عليها، فيأتون بها كاملة غير منقوصة بكل أجزائها وشروطها {أولئك هم الوارثون* الذين يرثون الفردوس هم فيها خالدون} (المؤمنون:8-11)، وتلك هي الجائزة العظيمة.
 
قد يشعر الناس بالتعب عندما يأخذون بأسباب الفلاح هذه، فيحرم الإنسان نفسه من بعض ماله وشهواته وعلاقاته، ولكن "ما شرّ بشر ـ قالها رسول الله(ص) ـ بعده الجنة، وما خير بخير بعده النار"، ما قيمة أن تجلب لنفسك بعض الخير الذي تحسبه خيراً للدنيا، ثم ترمى في نار وقودها الناس والحجارة، وعندها سوف تنسى كل لذاتك وشهواتك؟! ما قيمة شهوة ولذة عابرتين أمام ما يلاقيه الإنسان من مصير في الآخرة؟!.
 
وهكذا، عندما يحدّثنا الله تعالى عن صلاة الجمعة، هذه الصلاة التي يتركها الكثيرون من الناس لأنهم مشغولون بتجارتهم، يقول تعالى: {يا أيها الذين آمنوا إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله وذروا البيع ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون* فإذا قضيت الصلاة فانتشروا في الأرض وابتغوا من فضل الله واذكروا الله كثيراً لعلكم تفلحون} (الجمعة:9-10)، عندما تعيشون الصلاة ثم يرجع كل واحد منكم إلى عمله وهو يذكر الله، فإنه سبحانه يعطيكم أجر ذلك الفلاح في الدّنيا والآخرة. ولكن الله تعالى يتحدث عن الناس في زمن النبي(ص) وفي زماننا أيضاً، {وإذا رأوا تجارة أو لهواً انفضوا إليها وتركوك قائماً قل ما عند الله خير من اللهو ومن التجارة والله خير الرازقين} (الجمعة:11)
 
تربيـة النفس
 
وفي ضوء ما تقدم، ينبغي على الإنسان أن يربي نفسه على الأخلاق الفردية والاجتماعية، فيدرّب نفسه على التصدّق على الفقراء والمساكين، والصدقة تدفع البلاء، وتكون بيد الله قبل أن تكون بيد الفقير، والصدقة هي للفقراء الذين {يحسبهم الجاهل أغنياء من التعفّف} . ومن الأخلاق التي يركّز عليها رسول الله(ص) في خطبته، هي توقير الكبار، بمعنى أن على الجيل الجديد أن يوقّر الجيل القديم، والتوقير هو مظهر احترام، أن تحترم سنّه وسبقه لك إلى الإيمان، والكبير يسبقك في التجربة، لهذا على الصغار أن يوقّروا الكبار، وعلى الكبار أن يرحموا الصغار، فيرحموا قلة التجربة عندهم، فلا يعنفوا عليهم، بل يرحموا ظروفهم وأخطاءهم. وعلى الإنسان أن يصل رحمه، لأنّ صلة الرحم تؤدي إلى طول العمر، أما قطيعة الرحم، فإنها تؤدي إلى قصر العمر وإلى نتائج سيئة.
 
ومن الأخلاق التي ينبغي أن نربّي أنفسنا عليها أيضاً، أن نغضّ أبصارنا عما حرّم الله النظر إليه، وأن نغضّ أسماعنا عما حرّم الله الاستماع إليه، وأن نتحنّن على الأيتام الذين هم أمانة الله في المجتمع، فعلينا أن نتكفّل الأيتام، سواء في بيوتهم أو في المبرات التي تؤويهم، ومن تكفّل يتيماً كان مع رسول الله(ص) في الجنة بحسب الحديث المروي عن رسول الله(ص)، ولاسيما أن هناك العديد من مشاريع تكفّل الأيتام، سواء في بيوتهم التي يقوم بها مكتب الخدمات التابع لمؤسستنا، أو في جمعية المبرات الخيرية، أو في مؤسسة الشهيد، فالمجتمع عندما يتعاون تزدهر مؤسساته، وإذا توزَّع هذا الجهد، فإن المسؤولية عند ذلك تتوزع، ونستطيع بذلك أن نحفظ أيتامنا.

التعليقات (0)

شارك بتعليقك حول هذا الموضوع

شارك هذا الموضوع