الشيخ محمد مهدي الآصفي
لكي نفهم الأبعاد الحقيقية لثورة الحسين عليه السلام لا بد أن نقف وقفة قصيرة عند الظروف السياسية التي أملت على الحسين عليه السلام هذه الحركة التي سجلها التاريخ وخلد ذكرها. لا يعرف التاريخ ثورة غنية في محتواها، عميقة في دلالاتها وأبعادها كالإسلام. فقد كان ظهور هذا الدين على وجه الأرض انقلاباً شاملاً وعميقاً لكل المقاييس والمعايير الاجتماعية ولك القيم والأعراف التي كانت تسود المجتمعات البشرية قبل الإسلام.
ولم تكن هذه الثورة من قبيل الثورات التي تزيح جهازاُ حاكماُ وتضع آخر مكانه، ولا يتسع نطاقها لأكثر من انقلاب في الجهاز الحاكم وشكله. لقد تناول هذا الدين كل شيء في المجتمع وأخضعه لمقاييسه وموازينه التي أنزلها الله سبحانه وتعالى نوراً وهدى في حياة الإنسان. وبتأثير من هذا الانقلاب الشامل تغيرت المراكز والمحاور والمواقع الاجتماعية فنزل الذين كانوا يحتلون القمم الاجتماعية ومراكز القوة في المجتمع إلى الحضيض وتسلق المستضعفون الذين كانوا يخافون أن يتخطفهم الناس إلى القمة. ذلك أن الرسالة الجديدة جاءت إلى الناس لقيم جديدة من لدن رب العباد. واسترجعت هذه الرسالة حق الحاكمية في حياة الإنسان من الطواغيت الذين كانوا يتحكمون في حياة الناس إلى الله سبحانه وتعالى، وسلبت هؤلاء الذين كانوا يشكلون المحاور الأساسية للحياة الجاهلية كل الحقوق والميزات التي اعتبروها لأنفسهم من غير حق.
وعلى نحو الإجمال فقد كانت الثورة التي قادها هذا الدين أعمق ثورة عرفها التاريخ البشري، وكفى أن تضع هذه الثورة أبا لهب الذي يعتبر قمة من قمم الجاهلية في الحضيض، وأن يرفع من أمر بلال وصهيب وسلمان وغيرهم من المستضعفين، فيكون سلمان من أهل بيت رسول الله، وأبو لهب مطروداُ من هذا البيت. وهذا ما يترقبه أصحاب المراكز القوية في المجتمع الجاهلي ويتنبأونه من أمر هذه يوم أعلن صاحبها صلى الله عليه وآله وسلم، دعوته قوية بكلمة لا إله إلا الله. فخشوا على مراكزهم ومصالحهم ومواقعهم الاجتماعية، وتصدوا لهذه الرسالة التي جاءت لتغير القيم وتبدل المراكز والمحاور والمفاهيم، وتريد أن تسلبهم مراكزهم القوية التي تمتعوا بها في المجتمع الجاهلي. ولذلك كانت المواجهة لهذا الدين قوية وعنيفة م نقبل هؤلاء وبلغ عنف هذه المقاومة أن يقول رسول الله "ص": "ما أوذي نبي مثل ما أوذيت".
ولكن مشيئة الله كانت فوق إرادتهم ويد الله فوق أيديهم، وانتصر هذا الدين وخفضت الرؤوس الشامخة، وجرفهم التيار الذي قدر الله له أن يشق الطريق إلى القلوب والعقول. وكان من العبث الصمود بوجه التيار الذي جرف الجزيرة وأخذ ينحدر إلى خارج الجزيرة فرضخوا للأمر الواقع واستسلموا وانجرفوا مع التيار، ونزعهم عن مراكزهم، وحدث تحول كبير، وحدث انقلاب في المراكز والمواقع والقيادات وفي كل شيء من الحياة الاجتماعية، "ونريد أن نمن على الذين استضعفوا في الأرض ونجعلهم أئمة ونجعلهم الوارثين، ونمكن لهم في الأرض، ونري فرعون وهامان وجنودهما منهم ما كانوا يحذرون".
ودخل هؤلاء الإسلام مرغمين، وفي قلوبهم حسرة، وفي نواياهم خبث ومكر لهذا الدين ، وانضموا إلى جبهة المنافقين الذين كانوا يضمرون الحقد لهذا الدين, إلا أنهم لم يجدوا بداً من الانضمام إلى صفوف المسلمين، فقد كان التيار أقوى من أن يصده هؤلاء. ولكن فكرة واحدة بعثت في نفوسهم إشراقة الأمل، وجعلتهم يعيشون أمل العودة إلى مراكزهم والقضاء على الدين. فإن كان لا يمكن صد هذا التيار والحيلولة بينه وبين القلوب والعقول فهلا يمكن تحريف مجرى التيار؟ وكان هذا الأمل الذي ساورهم يوم أخذ الشيطان يوسوس في نفوسهم حقيقة أن التيار لا يمكن صده إذا كان قوياً ولكن بشيء من الدهاء والحيلة يمكن تحريف مجراه بسهولة واسترجاع كل الحقوق والميزات التي كانوا يتمتعون بها من قبل باسم الدين، ومصادرة كل مكاسب الثورة ومنجزاتها باسم الثورة نفسها.
فإن كان لا يمكن صد الثورة والقضاء عليها فإنه يمكن احتواؤها والاستيلاء عليها وتحريفها، لتخدم مصالح نفس الطبقة التي كانت تتمتع بالمكانة والقوة فبل ظهور هذا الدين بعد تفريغ هذا الدين من محتواه الإلهي الأصيل، وتحريفه عن مساره الذي أراد الله تعالى له، فباسم الدين يمحى الإسلام، وما لا يمكن القضاء عليه بالقوة يمكن الاستيلاء عليه بالحيلة. وتلك كانت أمنية المنافقين الذين كانوا يتربصون بهذا الدين الدوائر وواجه الإسلام في هذه المرحلة أخطر مؤامرة يمكن أن تهدد وجود هذه الرسالة وسلامتها.
فقد حاول المشركون في حياة صاحب الرسالة "ص" القضاء على هذا الدين، وباءت المحاولة بالفشل. واستعاد المنافقون بعد فشل هذه المحاولة خيوط المحاولة من جديد ليعيدوها بصورة جديدة أخطر من ذي قبل وهي مصادرة مكاسب هذه الثورة ومنجزاتها وتفريغ هذا الدين من محتواه.
تلك كانت على وجه الإجمال والاختصار الظروف السياسية التي أملت على الحسين "ع" موقفه الشجاع والحريص على هذه الرسالة والذي نحيي ذكراه في شهر محرم الحرام. فقد وجد الحسين "ع" في غمرة الظروف السياسية أن أبا سفيان يستعيد مكانته التي انتزعها الإسلام على يد ابنه معاوية وحفيده يزيد. وأن المراكز والمحاور والمواقع التي تغيرت في ظل هذه الرسالة بفعل الانقلاب الكبير الذي أحدثه الإسلام تكاد أن تعود إلى وضعها الأول قبل أن يظهر الإسلام في حياة الناس. وأن القيم التي أنشأتها هذه الرسالة على أنقاض القيم الجاهلية تكاد أن تنزوي وتخرج من حياة الناس، لتحل محلها نفس القيم الجاهلية التي قضى عليها الإسلام. وأن القيادات الأموية الجديدة تعمل على مصادرة كل المكاسب والمنجزات التي حققتها رسالة الله على وجه الأرض في غضون سنوات قليلة بفعل هذا الانقلاب الإلهي المعجز. وأن حفيد أبي سفيان يستتبع من ورائه القيم والمفاهيم الجاهلية التي كانت تسند زعامة جده من قبل وأخطر من هذا وذاك أن هذا كله يتم باسم الإسلام وتحت عنوان إمارة المؤمنين وهذا هو موضع الخطر الحقيقي الذي أحس به ابن علي بن أبي طالب "ع" يومذاك.
ولم يكن هدف الحسين عليه السلام من حركته الشهيرة وموقفه الكبير في كربلاء القضاء على يزيد بن معاوية واستلام الحكم فقد كان كل شيء في الموقف يدل على أن الجيش الأموي سوف يخرج منتصراُ من المعركة ولم يكن أمر ذلك يخفى على الحسين "ع". وصرح بذلك هو عليه السلام في أكثر من موقع ونعى نفسه فبل أن يخرج من المدينة إلى أصحابه وذويه.
ولكن الحسين عليه السلام كان يريد أ ينتزع شرعية الحكم من الحاكم الأموي الشاب الذي كان يحكم بطيش وجهل. لقد كان موضع الخطر الحقيقي في سلطان يزيد أنه يحكم بالسلام، ويتمتع بشرعية الحكم، وكانت هذه الصفة الشرعية التي اكتسبها في غيبوبة من وعي الأمة تسهل له مصادرة كل مكاسب هذا الدين ومنجزاته وتحريفه وتفريغه من محتواه، وهو الخطر الذي أحس به الحسين "ع" بوضوح. وكان لا بد من مصادرة مكانة يزيد نفسه، وانتزاع شرعية الحكم والسلطان منه، وتفويت هذه الفرصة الذهبية عليه. وإذا تم تجريد الحاكم الأموي من هذه الصفة الشرعية التي حققها لنفسه في غيبوبة من وعي الأمة فلا يشكل يزيد بعد خطراُ على الإسلام، ولن تزيد خطورة يزيد على هذا الدين عن خطورة جده أبي سفيان يوم كان يعمل المستحيل للقضاء على هذا الدين. فإن المواجهة سوف تكون مع هذه الرسالة من أمام، ولن تقع المواجهة مع دين الله من أمام.
وكان لابد من عمل شجاع وجريء وسريع لتجريد يزيد من هذه الصفة الدينية التي أضفاها على نفسه وكان لابد أيضاًً من عمل قوي لإيقاظ الأمة على حقيقة الجهاز الحاكم ونواياه وأبعاده وخطره على الإسلام. ولم يجد الحسين "ع" أفضل من التضحية بنفسه وإخوانه وبنيه والخيرة من أصحابه في مواجهة قوية مع الجيش الأموي وذلك لإنقاذ دين الله من الخطر الذي كان يحدق به.
وأقدم الحسين "ع" وأخوته وبنوه وأصحابه على التضحية الفريدة على ضفاف الفرات بكربلاء، ورغم كل وسائل الإعلام التي استخدمها السلطان الأموي لتغطية حادث الطف فقد انعكست مأساة كربلاء على الأمة بصورة قوية جادة ونبهت الأمة من رقادها الطويل وهزتها من الأعماق ، واستشعرت الأمة أبعاد المأساة في حزن وكآبة –حيناً- وفي انفجارات وثورات ثورية هنا وهناك حيناً آخر. وبهذا كله فقد حقق الحسين "ع" مكان يريد من تفويت الفرصة على جهاز الحكم، فقد بقي يزيد حاكماً بعد استشهاد الحسين "ع" ولكنه حاكم مخلوع في نظر الأمة من القيمة الشرعية، لا تعترف له الأمة بشرعية الحكم وتثور هنا وهناك لتعزله عن الحكم المغضوب، أو تراقب تصرفاته وأعماله في سخط وغضب مكتومين.
ولم يخص مفعول هذه الثورة يزيد فقط بقد امتدت هذه الثورة شعاراً يحمله أي مسلم عبر التاريخ للقضاء على أي طاغية يتحكم في رقاب الناس، ويحكم بغير ما أنزل الله تعالى.
واستمر شعار (يا لثارات الحسين) شعاراً حياً نابضاً بالحياة والحركة بأيدي المجاهدين الذي وقفوا في التاريخ الإسلامي في وجوه الطغاة والجبابرة الذين أباحوا حرمات الله وانتهكوا الحقوق والحدود واستمر هذا الشعار ينتزع قناع الدين والشرع من الوجوه التي تتخذ م هذا القناع وسيلة للوصول إلى مآربها السياسية والشخصية وأداة للاستغلال والاستثمار غير الشرعيين فسلام الله عليك يا أبا عبدالله يوم ولدت ويوم استشهدت ويوم تبعث حيا.
التعليقات (0)