أما بعد فإن شهر الله المحرم يذكرنا بالفيض الرباني الذي جرى في وادي الحياة البشرية بهجرة محمد خير البرية، الى مدينة (يثرب) التى صارت مهبط الوحي ومنبع الخير الذي عم المشرق والمغرب، كما يذكرنا بعقوب فئة من أولاد آدم وجحودهم فضل الرسوم، إذا دفعهم حبهم الدنيا الى قتل الحسين بن فاطمة البتول. فهذا الشهر الحرام يعيد الى ذاكرتنا خيراً فوق كل خير والفضل فيه لله واهب الحياة، وشراً أعظم من كل شر والذنب فيه على من خدع في دينه كما خدع في دنياه.
إن الله يعلم أن الأمام الحسين ما كان ثائراً ولا موقظاً فتنه نائمة ولكنه رأي خلافة جمحت بمن تولاها عن طريق الحق والعدل والاحسان، التى بعث بها جده ونزل القرآن. وأبصر ملكاً عضوضاً يسعد فيه طلاب الدنيا ويشقي طلاب الآخرة، والمؤمن القوي الإيمان غيور على دينه أكثر من غيرته على العرض فيجهر من أجله بالحق الذي ملأ قلبه ولو ذاق في سبيل هذا الجهر والهوان والعذاب. لذلك أعلن الحسين وأعلنت معه فئئة مؤمنة من اهل المدينة إنكارهم على ما يسام به انصار الحق والصدق من الخسف والعسف وعرفوا الناس أن الراعي يجب أن يكون المثل الأعلي للرعية فيما يرضي الخالق ويصلح المخلوق.
وقد جاءته رسائل العراقيين بالرحيل اليهم ليلم شعث المسلمين في هذه الأطراق، وينصر دين الله حتى تكون كلمة الله هي العليا بلا ظلم ولا اجحاف، فأرسل ابن عمه عقيل ليري ما عليه القوم الداعون، وهل هم جادون أو هازلون، وقد حسب الحسين عليه رضوان الله ان التقاعدعن إجابة الدعوة تقصير في جنب الله الذي يحتمل في سبيلة كل مضض، ويستعذب العذاب والرمض والحرض فرحل الى العراق هو ومن لا تطيب له الحياة إلا معه من أسرة اهل البيت الكريمة، سار وهو يرجو ان يعالج الداء، قبل أن يستعصى ويعز الدواء، لكنه رأي اقواماً قلوبهم معه وسيوفهم مع غيره وشهد فيهم شقاقاً ونفاقاً ورياء، ولقي فئة اشتري يزيد بالمال قلوبهم وعقلوهم ورصدهم لخدمة الملك العضوض، فكانت تلك الخدمة في رأيهم كالشيء المفروض، اعوذ بالله من هوى النفوس الذين يزين الباطل ، ويفسد منطق العاقل.
ولما علم خدام يزيد او سمهم خدام الدنيا وما كان من رحيله الى قطرهم تلقوة محاربين ومحاصرين، لا ناصحين ولا مسالمين ثم منعوا عنه ومن معه الماء وحاربوه محاربة الانذال اللؤماء ، ثم انقضوا عليه من كل جانب، ولم يقبلوا إقالته من هذه الحرب التى دخل فيها وهو عنا راغب، ثم قتلوه وحزوا رأسه وفعلوا به كما يفعل بأعداء المللة. وليس لهم عند الله عذر مقبول ولا علة هذا مجمل ما فعلته طائفة مسلمة وهى تعلم أن الحسين بن علي كان لرسول الله حبيباً، وانه يكون سيد شباب أهل الجنة، وانه اقدم على رحيله الى العراق بلا جيش، ومن كان كذلك لا يكون في الواقع خصما عنيدا ولا عدوا حريباولو كان الحسين من طلاب الملك وعبادة لمالأ وخادع واشترى ذمم كل عدو، وتربص حتى يصفو الجو وكان يجد له مساغا بهذه المخادعة التي يرجع بها الحق الى نصابه، ويخلص من عذابه كما قيل:
قولوا لمن لام لاتلمني كل امرىء عالم بشأنه
لا ذنب فبما فعلت اني رقصت للقرد في زمانه
لكن الحسين رضي الله عنه ما كان ليشغب نفسه بملك يعلم ان جده لم يكن من طلابه، وما كان ممن يخدع ويمالىء حتى تفسد بطانة الملك على حسابه. وقد هون عليه شأن الحياة علمه بأن نعيم الدنيا لايساوي عند الله جناح بعوضة ولاظلف شاة وان البغي مصرع مبتغيه وخيم، ومما يحزن المصلحين وأصحاب التجاريب ان الذين قتلوا ابن بنت رسول الله (ص) أو كان لهم يد في قتله عملوا مالهم من قوة وحيلة حتى ينسوا الناس فعلتهم الشنعاء فتقولوا على رسول الله (ص) احاديث فيها فضل كبير لمن يكتحل ويغتسل ويتطيب ويخضب بالحناء ويكثر من الطعام والشراب في اليوم الذي قتل فيه الحسين وهو يوم عاشوراء فكان ذلك كالسم الذي يدس في الدسم لم يحسن الظن دائما فيقع في فخ من ظلم.
ولست ادري كيف تستسيغ العقول، اتخاذ يوم قتل الحسين فيهعيدا ينتظمه الفرح والمرح والابتهاج، والأكل والشرب كما يفعل في يوم البناء والزواج. او تتفق هذه الدعاية مع ماجاءت به الاحاديث الصحيحة من استحباب صوم ذلك اليوم وجعله يوم عبادة وزهد في الطعام والشراب لكن ماذا نصنع وقد نشأ المسلم غرا، كأنه لم يجرب من امور الدنيا حلوا ولا مرا ؟
لقد عرفت امم الفرنجة هذا الخلق في اهل الاسلام فخدعوهم بالمواعيد العرقوبية. وتظاهروا بالحب والمودة ولبسوا ثوب الناصح الأمين الذي يخدم الانسانية. وبذلك ركنوا اليهم وطمأنوا فأذاقوهم ذل الاستعمار ولم يستمعوا لبكائهم ولا لأنينهم حين انوا، وعملوهم معاملة السادة للعبيد. وكذلك اخذ ربك اذ اخذ القرى وهي ظالمة ان اخذه اليم شديد.
وما انا ممن يعذر المسلمين في هذا الضعف الخلقي او العقلي، فقد قال شاعرهم منذ مئات السنين محذرا :
لا اسعد الله اياما عززت بها دهرا وفي طي ذاك العز اذلال
ألا بعدا لدنيا ولاوفاء فيها لبنيها، ولامثوبة بالخير لبانيها, وسحقا لمن افنوا في تحصيلها الاعمار ولم يعبأوا بما يصيب قومهم من ذل وعار واستعمار ورحم الله الرندي فقد اجاد الرثاء، واحسن العزاء. فقال:
فجائع الدهر انواع منوعة وللزمان مسرات واحزان
وللحوادث سلوان يسهلها زمان مسرات واحزان
وللحوادث سلوان يسهلها وما لما حل بالاسلام سلوان
التعليقات (0)