خلا الأدب العربي القديم من المسرح، الذي ظل غائباً حتى منتصف القرن التاسع عشر. عندما قام مارون النقاش (1817- 1855) بترجمة بعض المسرحيات الأجنبية وتمثيلها في بيروت. ورغم الإنطلاقة النهضوية، ما زال المسرح العربي يتعثر، وما زال متخلفاً: تأليفاً وتمثيلاً حتى يومنا هذا. أما بذرة المسرح العربي فغرستها مأساة الحسين منذ أن بدأت زينب مع نساء الوحي يروين قصة استشهاد الامام الحسين وأصحابه، مرددين أقوالهم، مشيرين إلى حركاتهم. بيد أن الاضطهاد لكربلاء المنبر، حتى تسلطن البويهيون في القرن الرابع الهجري.
روى الذهبي قال: إن أول مأتم حسيني أقيم في بغداد كان في محرم سنة 352ه/866م. حيث ألزم معز الدولة البويهي، الناس بغلق الأسواق، ومنع الهراسين والطباخين من الطبخ، ونصبوا القباب في الأسواق، وعلقوا عليها المسوح، وأخرجوا نساء منشورات الشعور مضمخات يلطمن في الشوارع ويقمن المأتم على الحسين عليه السلام" وتطورات المأتم والمسيرات إلى مسرح يقام في ساحة بغداد العامة، يعرض قصة الاستشهاد، ويحضره رجال الدولة وعامة الشعب. حتى قيل: أن أول مسرح عربي تمثيلي هو المسرح الحسيني في العهد البويهي، لكن العوائق منعته من الاستمرار والتطور، ويصعب رصدها جميعاً:
أولها: اضطهاد الحكام بعد البويهيين لذكرى الحسين، فذكراه كانت ترجفهم، وتخيفهم ما دام شعارها، الاصلاح في الاسلام والامر بالمعروف، والنهي عن المنكر. لقد خنق الظالمون هذه الظاهرة، فكان المسلمون في العهود العباسية والتركية يقيمون عاشوراء في السراديب، ويأمرون النساء ان يدرن الرحى حتى يغلب ضجيجها على ضجيجهم.
ثانياً: حرم فقهاء الشيعة تمثيل شخصية الحسين، الامام المعصوم، إذ لا يصح أن يتزيا بزيه أحد. أو يلقب دوره مشخص.
ثالثاً: إن المسرح الحسيني أحياه البويهييون الفرس الذين عرفوا المسرح منذ القديم. ولما انقرضت دولتهم، تلاشى المسرح لأن العنصر العربي لم يتحمس لهذا الفن. عاد المسرح الكربلائي إلى الحضور مع الصفويين، واتخذ مع الشاه عباس منحنى جديداً باستخدام السيوف في ضرب الرؤوس والجباه وإسالة الدماء. ومن أصفهان رجع إلى منطلقه الأول إلى كربلاء، مترقياً له خصائصه ومميزاته، رجع مع فارسي أيضاً هو محمد علي التبريزي، الذي تحدى سلطة الحكومة التركية، وإحياء ذكرى عاشوراء في باحة الحرم الحسيني، إحياءً مزج التشخيص بالواقع مدة عشرين سنة.
كتبت جريدة Le Temp الفرنسية سنة 1907 مقالاً عنوانه Le lamentations “ deHusseina Kerbala”
"آلام": ((وعذابات الحسين في كربلاء)) وصفت فيه عرضاً مسرحياً مأساويا مذهلاً، في كربلاء بقيادة التبريزي. ومما قالته: ((ان المناظر يذوب لها الفؤاد حزناً وكآبة، فالشهداء موضوع الاحتفال آلو أن يضحوا بأنفسهم تبركاً وتيمناً بالامام الحسين،مما يحمل بعض الحاضرين على التدخل لمنعهم من تنفيذ وعودهم، وكثيرون منهم يموتون فدى لسيدهم. وأبطال هذا المسرح رجال حلقوا وسط رؤوسهم من الجبهة الى القفا.
ويرتدون أثواباً بيضاء، ويحملون في يوم عاشوراء. وإلى جانب الرجالة يشارك الفرسان بأثوابهم البيضاء الملائكية.
يصطف المستشهدون على هيئة نصف دائرة ووسط الأدعية والاناشيد الدينية، يبدأ ضرب الرؤوس ضرباً مؤلماً حتى تسيل الدماء على الوجوه، ويستمر النزف فتتلون الاثواب البيضاء بالدم القاني. وترتجف الايدي فتقف عن الحركة ريثما تجمع قواها فتكمل جهادها. ويسقط الرجال صرعى وماهم بصرعى، وقد يسقط أحد المستشهدين لكثرة الجروح، وللحال تمتد إليه الأيدي لتنعشه. وقد يتفق أن يموت فتكون وفاته مواساة للحسين. فيرفعه الناس بأوجه باشة، مبتسمة وهم يظنون في أنفسهم أنهم من السعداء، لأنهم شهدوا تقدمة هذا القربان، ولمسوه لمساً لطيفاً للتبرك. وقد تتقدم إحدى النساء وتأخذ قطعة من ثوبه الملطخ بالدم لتغتسل بمائها فيزول عقمها، ببركة هذا الدم الذي سفك حباً بالحسين.
وبعد ان يسقط الرجال تعباً أو تمثيلاًيرقص الفرسان، وبهرجون فرحاً بالنصر ويزحفون الى خيم مضروبة في أقصى المكان.
فيقيمون بعملية السلب والنهب، وحرق الخيم. وتستغرق عملية التمثيل خمس ساعات".
هذا النوع من المسرح انتقل إلى النبطية في جنوب ابنان، ومازال ميداناً تجري وقائعه، لاعلى خشبة المسرح، إنما في ساحة تتسع لضرب الخيام، وجري الخيل، وعمليات الكر والفر. وتظل الحركات المسرحية ثمرة من بستان المنبر الحسيني الذي أنبت أشجار الثقافة في صحراء كربلاء، وظل يرويها بدماء الحسين.
التعليقات (0)