يمر الإنسان في حياته بمراحل عديدة ولكل مرحلة منها سماتها وحالاتها التي تظهر على الإنسان وتصبغه بصبغتها، بدءاً من كونه جنيناً في بطن أمه، مروراً بالطفولة اللاهية، وتصعد تدريجياً حتى سن الشيخوخة، ولكن أهم مرحلة وأخطرها هي مرحلة الشباب التي يكون فيها الإنسان في أوج طاقته واستعداداته النفسية العالية للتحرك من وحي نشاطه؛ فهو كالأرض البكر التي تنتظر ما يلقى فيها لتحضنه وتنبته فيها.. قال أمير المؤمنين (ع): (إنما قلب الحدث كالأرض الخالية ما ألقي فيها من شيء إلا قبلته).
إن هذه الحقيقة تدعو إلى الخوف من سرعة التقبل ومن أن يزرع فيها ما لا فائدة فيه ويعود بالشر على الأرض والزارع والحاصد جميعاً؛ فمن المحزن ما نراه اليوم من حال شبابنا الذين تتقاذفهم تيارات الأهواء وأمواج الإغواء، وأين ما التفت الشاب تراه تعوزه الحصانة ويفتقر إلى ما يستند عليه، ويدافع به عن نفسه، وهنا سنحاول إلقاء الضوء على أهم الأسباب التي تؤدي إلى انحراف الشباب ووقوعهم في شراك الشيطان وإغوائه.
1- ضعف الحصانة الأسرية:
يعتبر البيت هو الحجر الأساس الذي تبنى عليه شخصية الإنسان؛ لذلك نرى أن الإسلام اهتم بكل صغيرة وكبيرة فيه بدءاً من اختيار الزوجة ومدى أهميتها وتأثيرها على الأولاد؛ حيث قال رسول الله (ص): (انظر أين تضع طفلك فإن العرق دساس) وصولاً إلى كونه (أي الولد) جنيناً في بطن أمه والاهتمام بكون الرحم ينحدر من أصول طيبة ليتحول إلى وعاء ومستودع أمين يغذيه بالأخلاق الحسنة والآداب الجميلة؛ فقد ثبت أن الجنين يتأثر بأخلاق أبويه وبالخصوص أمه، عن طريق سلوكها وغذائها، فإن كانت صادقة مؤمنة سرى إليه صدقها وإيمانها والعكس صحيح، وكذلك الطعام ونوعيته ومصدره من حيث الحلية والحرمة، حتى خروجه إلى الدنيا ورضاعته، والعناية بالمرضعة وأخلاقها؛ لعظم تأثير ذلك على سلوك الولد مستقبلاً، قال رسول الله (ص): (لا تسترضعوا الحمقاء فإن اللبن يعدي)، وصولاً إلى فترة الطفولة في سنواتها الأولى التي فيها يأتي دور الأم والأب ليكونا اللبنة الأولى في حياة الطفل وتوجيهه للأحسن أو الانحدار به للأسوأ؛ فإذا كانت علاقتهما طيبة قائمة على الاحترام والود والبيت هادئ خال من المشاحنات الفارغة، نشأ مستقراً نفسياً وسوياً من الناحية السلوكية.
والنقطة الأهم هي معاملة الطفل واختيار الأسلوب الأمثل للتربية فالبعض من الآباء يتصورون أن القسوة والضرب هما اللذان يربيان الطفل التربية الصحيحة، دون أن يعلموا مدى خطورتهما على شخصيته مستقبلاً، والتي يؤدي هذا الأسلوب إلى اضمحلالها، فيصبح بتأثيرها جباناً ويحمل روحاً عدوانية تميل إلى الانتقام والإجرام، وعلى عكسه فإن احترام الأولاد يزرع في نفوسهم الثقة وينمي شخصيتهم؛ قال رسول الله (ص):(أكرموا أولادكم وأحسنوا أدبهم) وأن يكرس الأب والأم جزءاً غير يسير من وقتهما لتربية أبنائهما الأصول الدينية والتربوية، وتغذيتهم بالغذاء الروحي، وتأديبهم بالآداب السامية من صدق الحديث، أداء الأمانة، الصلاة، ذكر الله، حسن السلام ورده، كراهية الكذب، وغيرها من الأمور الحسنة والواجبة شرعاً.. والتي تخلق عندهم أرضية صلبة للآداب والإيمان؛ ليخرجوا إلى معترك الحياة كباراً أقوياء لا يهزهم أي تيار فاسد، ولكن إذا كانت الأم غارقة في أعمال البيت حتى الليل، والأب منشغلاً بعمله خارج البيت حتى وقت متأخر من الليل؛ فحين اجتماعهم يكون التعب قد أنهكهم وأخذ منهم كل مأخذ، فلا يكون همهم إلا الأكل والخلود للنوم والراحة، وإن كان هناك متسع من الوقت للحديث فلا يكون إلا عن العمل، وكم ربح وكم باع وكم اشترى و.. و.. ولا شيء عن الدين ولا كلام يخص الأخلاق ولا وقت للسؤال عن حالة الأولاد وفتح باب الحوار والنقاش والسؤال معهم، والأدهى إذا كان الأبوان لا يعرفان شيئاً عن أبسط أمور دينهم ودنياهم؛ فعلى الأولاد عند ذاك السلام؛ إذ هم سيحملون تبعات تقصير آبائهم؛ من نواحي قلة الوعي والخمول والإهمال، فيخرجون للحياة فاشلين يورثون فشلهم إلى أجيال متعاقبة وهذه هي النقطة الأهم والأساس في معظم حالات الانحراف التي نراها في شبابنا اليوم.
2- عدم تحمل المسؤولية لدى الوالدين:
بعض الآباء والأمهات يميلون إلى كثرة الإنجاب ظناً منهم بأن في ذلك ضماناً للمستقبل، وأن الأولاد الكثيرين سيكونون عوناً لهم في الكبر، وهذا شيء لا بأس به، فقد قال رسول الله (ص): (اكثروا الولد، أكاثر بكم الأمم غداً)، وقال الإمام السجاد (ع): (من سعادة الرجل أن يكون له ولد يستعين بهم)، ولكن للأسف الشديد فإن هناك مع هذه الرغبة المشروعة آباء وأمهات يتهربون من مسؤولياتهم تجاه أولادهم إذا كثر عددهم؛ إذ بزيادتهم تزداد مسؤولياتهم وطلباتهم واحتياجاتهم، ويتزايد أيضاً الوقت المطلوب لرعايتهم وتهذيبهم، فتهربهم هذا يؤدي بهم إلى التقصير في تربيتهم.
فالأب يشكو من كده طوال نهاره في تحصيل لقمة العيش، فيرجع وهو متذمر متكدر من تعبه، فإن كان عمله لا يدر عليه بما يحقق الكفاف أو كان معسراً، رأيته فظ الطباع يدخل للبيت غاضباً ويخرج غاضباً أو مهموماً لا يكاد يطيق نفسه من ضيق ذات اليد وعدم قدرته على الصمود أمام مسئوليته؛ فتراه لا يستطيع أن يسمع الابن أو الابنة كلمة حلوة وفي بعض الأحيان قد ينهال عليهم بالضرب والشتم، ناهيك عن عدم سد احتياجاتهم وحرمانهم من الحنان ومن أبسط حقوقهم، متناسياً أن (الكاد على عياله كالمجاهد في سبيل الله) وله من الأجر ما لا يحصى، ومما يزيد الأمر سوءاً أن تكون الأم غير واعية وغير ملمة بأمور الأسرة ومسؤولياتها؛ كل هذا يؤدي إلى تقصيرهما بحق أولادهما وهو ما يدفعهم إلى العقوق، قال رسول الله (ص):(لعن الله أبوين حملا ولدهما على عقوقهما)، فقلة الاهتمام والرعاية تؤدي بالأولاد إلى الانحلال والانحراف.. فذات مرة سألت شاباً تربطنا به صلة قرابة عن سبب عدم التزامه بأبسط أنواع الحشمة والأدب والأصول وقواعد السلوك المنضبط، فبدأ بالسب والشتم واللعن لأبويه، لأنهما قصرا في حقه وحق أخوته الأحد عشر، فأبواه أنجبا الكثيرين لكنهما لم يستطيعا إرضاء رغباتهم من الأكل واللبس؛ ذلك لأن الأب عاش متكلاً على أبيه في التربية والإنفاق؛ فهو لا يدري بالدنيا إن غربت أو شرقت، فهو مشغول بنفسه وترفيهها بعيداً عن ثقل المسؤولية، والأم مسكينة مستضعفة لا تدرك أبسط أمور الحياة، فعندما مات الجد، أصبح الأب واقفاً باهتاً أمام عظم المسؤولية التي ألقيت عليه فجأة، وأثقلت كاهله، وهو الذي لم يتعوّد تحمل المسؤولية وأعبائها، والأولاد مازالوا صغاراً فعجزه عن أداء مسؤوليته تجاه العائلة، أدت بهم أن يعيشوا محرومين، والأدهى أنهم محرومون من التربية والتعليم؛ فنشأوا وهم يفتقرون إلى أدنى ما يطمحون إليه من الاهتمام والرعاية والتربية فكبر وهو يحمل في داخله كرهاً شديداً لأبويه، وروحاً عدوانية لا تريد الخير للآخرين ونفساً جشعة لا تقنع بشيء وأنانية، وأرضية خالية من أبسط مبادئ الدين؛ لأن الأبوين لم يرهقا نفسهما إلا بتوفير اللقمة، وأهملوا الجانب الأهم وهو الغذاء الروحي والتربية الدينية العاصمة للإنسان من الانحراف.
روي أن النبي (ص) نظر إلى بعض الأطفال فقال: (ويل لأولاد آخر الزمان من آبائهم، فقيل: يا رسول الله (ص) من آبائهم المشركين، فقال: لا من آبائهم المؤمنين، لا يعلمونهم شيئاً من الفرائض وإذا تعلم أولادهم منعوهم ورضوا عنهم بعرض يسير من الدنيا فأنا منهم بريء وهم مني براء).
3- وسائل الإعلام:
كما قلنا فإن للشباب طاقة هائلة إن استغلت إلى خير فخير، وإلا ارتدت على المجتمع بالشر، وعلى صاحبها بالهلاك، وعلى العقيدة بالاضمحلال، فنرى الشباب اليوم في حالة من الصراع المرير؛ فوسائل الإعلام اليوم تشهر على شبابنا سلاحاً فتاكاً أشد وأفظع من سلاح الحروب،عبر أجهزتها المختلفة ووسائلها المتعددة، فالتلفزيون يقدم له ما يندى له الجبين خجلاً من أفلام تجره إلى الرذيلة جراً، ناهيك عن المسلسلات الإجرامية التي تنمي فيه روح القسوة والإجرام، والراديو الذي يفح في أذنه فحيح الأفعى من الأغاني التافهة التي همها الوحيد الحديث عن الحب ومآسيه ووصفه بكلام بعيد عن الحشمة والدين، أما المجلات المنحلة فهي لا هم لها إلا إنزال الشباب إلى الدرك الأسفل بأفكارها المسمومة، إذن من هنا لابد أن يكون الشباب على قدر كاف من الوعي والحصانة الإيمانية التي تجعله يصمد في مواجهة كل أشكال الانحراف؛ فيراقب نفسه مراقبة دائمة من خلال اعتقاده بأنه مراقب من قبل الله تعالى، وأن أعماله تحصى عليه، وأقواله محسوبة (ما يلفظ من قول والشيء الأهم هو التثقف بالثقافة الدينية التي تجعله في أمان إلا لديه رقيب عتيد من شراك الشيطان وحبائله المتمثلة بوسائل الإعلام؛ قال الإمام الصادق (ع): (لست أحب أن أرى الشاب منكم إلا غادياً في حالين: إما عالماً أو متعلماً فإن لم يفعل فرط، فإن فرط ضيع فإن ضيع أثم، وإن أثم سكن النار)
إذن فخير سلاح بإزاء إغراء الشيطان، وأهواء النفس، هو الائتمار بأوامر الله والابتعاد عن نواهيه؛ فمعاناتنا اليوم هي معاناة أخلاقية، تسعى لتدمير شبابنا، فإن لم نسع للتصدي لها وعقد العزم على مواجهتها، وقعنا في أسرها مما يورثنا غضب الله ويعرضنا لسخطه.
4- رفض فكرة الزواج المبكر:
من المبادئ التي حثّ عليها الإسلام هو الزواج المبكر للفتى أو الفتاة؛ فهو يوفر الحصانة والحماية ويشبع غريزة أوجدت داخل كل إنسان، من حيث ما حلل الله، ويؤدي بالتالي إلى استقرار نفسي وعاطفي لدى الإنسان؛ قال رسول الله (ص): (ما بني في الإسلام شيء أحب إلى الله عز وجل وأعز من التزويج)، ولكن ما يؤسف له ما نراه في يومنا هذا من رفض فكرة الزواج المبكر أو عرقلة أمر التزويج عبر فرض شروط تعجيزية من قبل أهل الفتاة، تثقل كاهل المقبل على الزواج كالمهر العالي، وكأن الزواج مسألة بيع وشراء أو أن المهر يعبر عن قيمة الفتاة، متناسين ما يدعو إليه الإسلام عبر سنة نبيه الأكرم (ص) الذي صدع بقوله الشريف: (إذا خطبكم من ترضونه دينه وخلقه فزوجوه إن لا تفعلوا تكن فتنة في الأرض وفساد كبير).
لكن للأسف فإن أول سؤال هو عن جنسيته ومن أي دولة اكتسبها، وهذا ما حصل فعلاً مع مؤمن أراد أن يحفظ نصف دينه، فكلما خطب فتاة اشترطت أن يكون حاملاً لجنسية من دولة أجنبية وهو لا يملكها؛ فأي دين يشترط هذا الشرط على رجل رأس ماله دينه وخلقه؟! وللأسف الشديد هذا هو السائد في المجتمع اليوم، أو إن البنت مهما تكبر فهي عند أمها تلك الفتاة الصغيرة المدللة، أو إنها تريد إكمال دراستها، أو أن لها شروطاً لا حصر لها لفارس الأحلام، ناهيك عن الشباب وشروطهم التي تتعلق بالجمال والمال والجاه وغيرها من الأمور الكمالية؛ فلا نكاد نسمع عن أحد يريد الزواج، وهو يسأل عن امرأة ذات دين، وفي أحسن الأحوال يأتي هذا الشرط المهم في آخر القائمة التي تتصدرها شروط من قبيل الجمال، ولون العينين، وغيرها من الأمور التي لا تعتبر مقياساً للحياة الزوجية ودوامها وسعادتها؛ قال رسول الله (ص):(من تزوج امرأة لمالها وكله الله إليه، ومن تزوجها لجمالها رأى فيها ما يكره، ومن تزوجها لدينها جمع الله له كل ذلك).
ولهذه الأسباب وغيرها، دبّ الفساد، وشاعت الرذيلة، واضمحلت القيم والمقاييس الأخلاقية، فلو تيسر الناس في أمورهم وتذكروا قول الله عز وجل: (إن مع العسر يسرا إن مع العسر يسرا) ولم يضيقوا على أنفسهم بأنفسهم، ولو أنهم رجعوا لمبادئ دينهم، لرأوا كم هي رحمة الله واسعة، وكم تسهل التعاليم السماوية من الأمور، ولردمت الهوة، وحفظ الإسلام وأوقفت البدع ولأضحت حياة الإنسان سهلة يسيرة في ظل تعاليم هذا الدين القويم.
بقلم: منى الموسوي
التعليقات (0)