(يا أيها الذين آمنوا قوا أنفسكم وأهليكم ناراً وقودها الناس والحجارة) (التحريم: 6)
حضرة المربين المهتمين:
لو تسمعون نداء طفل يخاطبكم، يتوجه إليكم شاكياً، بل يئنّ صامتاً:
أنتم في غفلة معرضون ظناً منكم أني أحيى كالآخرين: طعام، وشراب، ونوم، لعلكم نسيتم أني إنسان أحس، أفكر، أحب وأكره و... وأريد أن أكون رجل امرأة المستقبل البنّاء والمجتمع الصالح المستقيم.
أنا طفل من مئات الأطفال الذين يعانون حرماناً وشقاءً خفيّاً، لا يلتفت إليه أحد.
تحدثتم عن الطفل الذي يعيش في كنف أبوين يرعيانه ويعطيانه ما يحتاجه من رعاية وحنان واهتمام، يرشدانه إلى الصواب، يحميانه إذا تعرّض لأي خطر أو مرض، يتناوب الأب والأم في السهر عليه وتدليله وحضنه وتقبيله و...
فإذا ما ذهب إلى المدرسة فهو مراقَب دائماً والإهتمام يلف خطواته وتصرفاته.
وإذا ما كانت العطلة المدرسية فهو إلى النزهات، أو الزيارات، يرتع، ويتنقل من حضن إلى آخر، يفتخر بأبيه بين زملائه بأنه لاعبه وداعبه ورفّه عنه...
أما في الأعياد والمناسبات، فالثياب الجديدة جاهزة مع البسمة المشرقة، والكلمة الطيبة.
ذكرتم مشاكل كثيرة يعاني منها الأطفال وهي ناتجة عن الحرمان العاطفي بالدرجة الأولى، هذا مع وجود أبوين راعيين؛ فكيف بي وأنا المحروم من النصف الأول والركيزة الأولى في بناء شخصيتي ألا وهو الأب؟!!
هل أستطيع أن أصف مشاعر الحزن والأسى والحرمان بكلمات جافة؟! لكن أسألكم أن تعيشوا مشاعري لتدركوا حقيقة ألمي!!
أنا، الطفل الذي عاش ولم يعرف أباً ولا معنى الأبوة في حياته، منذ ولدت لم أسمع صوتاً جشاً يناديني: بني! حبيبي! وعندما ناديت «بابا»! لم أسمع جواباً ولم أرَ ابتسامة رجل تحيّيني.
عشت أبحث في زوايا المنزل عن رجل يضمني، يلاعبني.. فلم أجد سوى سرابٍ وخيال.
ثم ذهبت إلى المدرسة فرأيت رجلاً، وربما رجالاً، يأمرون ويزمجرون، وأحياناً يضربون فأزدادُ ظمأً إلى الحب والعطف والحنان!
رأيت الأطفال يهرعون إلى أحضان آبائهم عند الإياب إلى المنزل وسمعتهم يذكرونهم باللعب معهم وخروجهم إلى مدينة الملاهي تارة، وإلى القرية أخرى و... وأنا لا أعرف معنى ذلك كله.
ويأتي العيد تلو العيد والمناسبة تلو الأخرى؛ قد ألتقي بأقارب وأصدقاء للعائلة يمسحون على رأسي، لنيل بعضٍ من الأجر، فتكون لمساتهم جافة ككلماتهم خالية من العطف الأبوي لأنهم (يشفقون ولا يحبون).
أما إذا مرضت يوماً فأرى أمي : مرهقة، متعبة، مريضة ربما أكثر مني تحتاج لمن يرعاها فإذا كلماتها ودمعاتها نارٌ تحرقني بدل أن تكون دواء يشفيني.
آه! آه! إلى من ألجأ ومن يمكنه أن يفهمني ويساعدني؟ أأمي التي تحمل ألف هم وغمّ وتحمل أعباء الحياة كلها من أجلي؟
أم أستاذي الذي ينوء بمسؤوليته فأراه عابساً منهمكاً؟
لا أرى شيئاً يحويني غير زاوية مظلمة ألجأ إليها أبكي الحظ الذي جعلني بدون أب يرعاني ويتكفلني!
أنا طفل لي الحق في الحياة كغيري من الأطفال! كأولادكم!
(طفل حائر يبحث عن أب)
أمور عديدة تحدّد هوية غياب الأب وفقده: السفر، الهجر والانفصال، وربما السجن والأسر؟ وقد يكون الموت أو الشهادة.
وكل واحدة من هذه الحالات تستوجب اطلالة خاصة إلا أنه في البداية لا بأس من ذكر بعض المسائل المهمة المتعلقة بجميع الحالات.
1 إن التوكل على اللَّه والثقة به واليقين بأنه خير ناصر وخير حافظ وخير معين، هو النواة الأولى للانطلاق في الحياة.
2 ومن النواة الأولى تنمو الأغصان وتنبت الأوراق والثمار الشخصية المرتكزة على أساس الثقة بالنفس، والشعور بالقوة (بقوة اللَّه فينا) فهي الدافع لنا للتغلب على الصعاب مهما بلغت.
3 إن فقد الأب يفرض على الطفل مسؤولية، وهذا كفيل بصقل شخصيته، ربما أكثر من وجود الأب إلى جانبه.
4 إن وجود البعض من الآباء قد يشكّل عبئاً على الأبناء بل انحرافاً لهم لأنهم ليسوا أهلاً للأبوة الحقة.
5 عندما يحرم اللَّه تعالى الطفل نعمة الأبوة، فإنه يتكفل له بما يغنيه عنها.
مشكلة الأب المسافر (الغائب مطولاً عن المنزل)
قد يرى بعض الأهل أن سفر الأب لتأمين المستلزمات المادية أمرٌ طبيعيٌ لا يُحدث خللاً في نمو الطفل النفسي وحاجاته العاطفية. لذا تراهم يحاولون إغداقه بالماديات وذلك بشراء كل ما يطلبه وإعطائه الأموال بدون حساب وقد لا يلاحظ بعضهم أنهم يُغرقون الطفل في مأساته أكثر وربما إدخاله في مآسٍ أخرى أكبر وأخطر.
فعندما يشعر الطفل بحاجة لحضن والده، أو قبلة منه أو حتى زجرة ونبرة حادة في بعض الأحيان، فلا ريب بأنه لا يمكن اشباعها بقطعة حلوى كبيرة أو مرطب مميز، ولا حتى بثياب جديدة يفتخر بها.
وأما إذا اشبعها هذا الإشباع الكاذب والوهمي فهو سيغرق في الوهم الذي قد يؤدي إلى ضياعه وإغراقه في الماديات التي تتحول إلى إدمان أشد خطراً.
وهذه بعض التنبيهات يمكن للأم والأب الأخذ بها لتعويض ولدهم من هذا الحرمان، مع الإشارة إلى أن الزيارات المتكررة خلال السنة بين الأب والأسرة تسد شيئاً من هذه الحاجة:
1 ربط الطفل بوالده المسافر دائماً، بالحديث عنه وأنه مهتم به ويحبه ويعمل لأجله و... وأنه سيأتي يوماً ويضمّك ويقبّلك و...
2 ربط الوالد بالطفل بإعلامه بتصرفاته (حركاته وأقواله منذ حركته الأولى...) وما يصدر عنه من أشياء محببة أو غيرها وإرفاق ذلك بالصور من وقت لآخر. (صور وهو يحبو، وهو يبكي وهو يضحك) حسنها وسيئها، ليكون على اطلاع كامل بأحوال طفله.
3 التكلم معه من وقت لآخر (هاتفياً) حتى قبل أن يبدأ الطفل الكلام لأن ذلك يشعره بوجود الأب وعطفه واهتمامه وبعد أن يفهم ويعي ليوجهه ويشعره بمسؤوليته عنه ومحبته له.
4 من الطبيعي أن دور الأم هنا يصبح مضاعفاً برعاية الطفل والاهتمام به فيمكن أن تقوم بدور الأب في إخراج الطفل من وحدته وذلك بالاهتمام بالزيارات والنزهات عند اللزوم بالإضافة إلى الرعاية المتواصلة المتابعة والتوجيه له في خطواته دون أن تثقل عليه من تحميله أعباء أكبر من حجمه.
5 أن تدخله في علاقات مع رجال آخرين من أقارب وأصدقاء ليعرف معنى الرجولة وشكلها وبعض ميزاتها (جدّه، عمه خاله أستاذه) وذلك بأن يرافقهم أو يلعب معهم من وقت لآخر.
6 إدخاله في بعض النشاطات كالنادي والكشاف وما إلى هنالك من النشاطات التي تساعد الطفل في بناء شخصيته.
7 الرابط الروحي مع الأب والأم من أشد أنواع الروابط التي يمكن أن تجذب الطفل وتبني شخصيته لذا يأتي دور الأم هنا والأب أيضاً في قدرتهما على جعل الطفل ينسجم مع ما يحبه كل من الأب والأم من مطالعة مثلاً، واهتمام بالعلم والثقافة حتى في الجانب الترفيهي البعيد عن الإغراق في اللذات الدنيئة والتافهة.
ملاحظة: إن هذه الأمور تجري مع من يغيب عن منزله أوقاتاً طويلة دون أن يستطيع متابعة أسرته وأطفاله بشكل دائم ومتواصل. حتى مع وجوده داخل الوطن الواحد.
التعليقات (0)