بسم الله الرحمن الرحيم
المتأمّل فيما يعرض ويروّج له في الساحة الثقافية من فكر الحداثة والتنوّر والوسطية والاعتدال.. إلى آخره من الأوصاف الدعائية التي هي أحرى بالسلع الاستهلاكية منها بالفكر، إذ أنّ الفكر يثبت نفسه ويروّج لذاته من خلال قوته واستحكامه الذاتي المستند للدليل والبرهان العلمي الرصين، لا الأوصاف الاعتبارية التجميلية. ولكن حيث يُفقَد الدليل والبرهان، وتفقد الجاذبية والجمال العلمي الذاتي، يستعاض عن الأوّل بالاستحسانات والظنون، وعن الثاني بالأساليب الدعائية والأوصاف الظاهرية الفضفاضة.
وكيف كان، فالمشهد الثقافي لا يبشّر بخير، فهو أبعد ما يكون عن المنطق والبرهان، وتعتمد المجادلات الثقافية للحداثيين في أغلب حالاتها على التهوييل والتزويير، ويتوسّلون عادة بالعناويين البرّاقة والمطّاطة – كحقوق المرأة، وحقوق الإنسان، والقانون، والحرية، والاعتدال .. – في تدعيم موقفهم، وتبكيت الطرف المقابل.
كما أضحى الواقع الفكري والثقافي واقعاً هشّاً يحكمه منطق الاستحسان والذوق والجمال والخيال، بدلاً عن منطق الحجّة والبرهان، وحلّت الدعاوى المنمّقة محلّ الحقائق المبرهنة. وصار الفكر كالشعر، والمفكّر لا يحتاج إلى أكثر من الحسّ المرهف، والذوق الرفيع، مع مجموعة من المصطلحات الحديثة. وبهذه البضاعة المزجات يقارع الفقهاء والمجتهدين الذين أفنوا أعمارهم في التحقيق والتدقيق في الأدلّة، وكيفيّة استنباط الوظيقة العملية من المصادر الأساسية للفكر الإسلامي، أعني الكتاب والسنّة.
وإذا أوقفت الواحد منهم على ضعف فكرته، وأنّها مجرد دعوى بلا دليل، تمسّك بمقولة أنّها إثارات فكرية من أجل تحريك المشهد الثقافي، وتشجيع الإبداع. وغفلوا أو تغافلوا عن أنّ تطوّر الفكر، وازدهار الثقافة، إنّما يكون عن طريق تلاقح البراهين والحجج العلمية، لا من خلال الاثارات غير الرصينة.
ثمّ أنّ الحراك الثقافي في أي مجتمع لا يمثّل غاية في نفسه – خصوصاً في المجتمعات المسلمة - وإنّما الغاية هي الكشف عن الحقائق وبيانها، وترسيخ الإيمان بها، من خلال تنويع الاستدلال عليها، ورفع الشبهات التي قد تعترضها.
نعم، هذه هي وظيفة الرسالين، خصوصاً المتلبسين بلباس العلم والدين. فمن المؤسف ما نراه من بعض المتلبسين بلباس العلم والدين، من الاغترار بشعارات الحداثة والعصرنه، والانسياق ضمن مشروعها التغريبي، والغفلة عن وظيفتهم الأساسية، وهي الدفاع عن الدين ومقدساته، وترويج معارفة وحقائقة، وتحصين الأمّة من الانحراف والضلال، من خلال التركيز على المناهج الأصيلة للفكر، والمصادر القويمة للمعرفة. وكذلك القيام بمسؤلية الوعظ والإنذار للناس من مغبّة الغفلة والجهل والاغترار بالدنيا وزخارفها.
وعلى كلّ حال، فقد شخّص أئمة الفكر وقادة الدين عليهم السلام من أوّل الأمر خطورة المناهج الذوقية على سلامة الفكر والدين، ولذلك وقفوا بكلّ قوّة أمام تلك المناهج كالاستحسان والقياس وغيرها من الذوقيات، واعتبروها محقاً للدين وهدماً لأركانه.
وها هي اليوم تعود مرّة أخرى لتشكّل المكون الأساسي للفكر الحداثي، والقاعدة التي ينطلق منها الحداثيون في عمليّة التغيير والتطويير التي يدّعونها، وذلك بعد أن حيّدوا النصوص الدينية – خصوصاً الحديث الشريف - أو أقصوها بالكليّة من الساحة الفكرية.
المجلس الاسلامي العلمائي
التعليقات (0)