لا شك في أن كتاب تاريخ التصوف الإسلامي لقاسم غني هو واحد من أهم الكتب التي أغنت المكتبة الإسلامية، وما زال منتصباً كالطود الشامخ وسط آلاف المجلدات في هذا المضمار رغم مرور أكثر من ستة عقود على نشره .
يقع هذا الكتاب في مجلدين كبيرين تحت عنوانين مختلفين، يتناول المجلد الأول تاريخ التصوف الإسلامي وتطوراته وأدواره المختلفة منذ نشأته وحتى عصر الشاعر حافظ، أي حتى القرن الثامن الهجري، أما المجلد الثاني فيتناول تاريخ عصر حافظ نفسه .
ينطلق المؤلف من مقولة مفادها أن المستشرقين غالباً ما يذهبون إلى أن التصوف لا يشكل طريقة ومذهباً خاصاً مـن حيث المعنـى اللغـوي الصحيح والتعـريف الجامـع لاصطلاح " المذهب " أو الطريقة، فالتصوف يفتقد إلى الحدود والأطر الثابتة الموجودة في باقي الفرق والمدارس الإسلامية، كما أن تصنيف المعتقدات الصوفية وفق أصول معينة أمر صعب ومرهق . ولعلّ ما يؤكد ذلك أن المتصوفة أنفسهم كانوا لا يبالون بذلك، فقد قذفوا بالتحزب والتطرف عرض الحائط، ونأوا بأنفسهم عن علوم المدارس ونزاعات الفرق المختلفة والتعصب القشوري الأعمى . أجل، فالتعصب سذاجة وقصور، والطرق إلى الله بعدد أنفس الخلائق، والعلم المكتوب والقيل والقال لا يؤديان إلى المطلوب وسموّ الأحوال .
على أن كل ذلك لم يحل دون محاولة المرحوم الدكتور قاسم غني أن يقدّم بحثاً وافياً عن التصوف الإسلامي في منتهى الدقة والمنهجية والعلمية، ومما يؤسف له هنا هو أن الترجمة العربية التي قام بها صادق نشأت وراجعها كل من أحمد ناجي القيسي ومحمد مصطفى حلمي تحت عنوان " تاريخ التصوف في الإسلام " قد أساءت إلى هذا الكتاب وقصرت عن أداء المعنى والمطلوب، مع احترامنا الشديد للجهد الكبير والمشكور للمترجم، ولسنا هنا بصدد نقد تلك الترجمة بقدر ما ننوه إلى ضرورة تحري الدقة والانتباه عند مطالعة النص العربي .
إن مضامين هذا الكتاب ومحاوره قد تبدو عادية وتكرارية، لكن الجديد هنا هو تلك الدقائق الكثيرة والملاحظات الهامة التي قدمها المؤلف خلال تناوله تلك المسائل، الأمر الذي يوجب تناول هذا الكتاب عن قرب وتناوله بتأن ودقة . ويعرض المؤلف في مطلع كتابه لنشأة التصوف حيث يطرح العديد من الأسئلة التي ستكون لاحقا مدار بحثه ودراسته، من ذلك :
ما المقصود بالتصوف أو العرفان الإسلامي ؟ هل هو عرفان الممالك القديمة الذي ورد إلى البلدان الإسلامية واصطبغ بعقائد المسلمين ؟ أم أن التعاليم الإسلامية ذاتها قد أنجبت نوعاً خاصا من العرفان ؟ أم أن العرفان حالة تتسق والطبيعة البشرية والميول الإنسانية على اختلاف المذاهب والأجناس، وقد ولد بين المسلمين اثر جملة من الظروف والأحوال السياسية والدينية والاجتماعية ؟ على كل حالة ثمة آراء مختلفة حول نشأة التصوف الإسلامي حاول المرحوم الدكتور قاسم غني إجمالها :
ففريق يرى أن التصوف، علاوة على التشيع، ردّ فعل فكري آري إيراني تجاه الإسلام والفتح العربي لبلاد فارس، وآخر يرى انه مولود للفكر الهندي، وذلك تبعا للتشابه بين الكثير من قضايا التصوف الإسلامي والفرق الهندية، وهنالك من يرى أن التصوف الإسلامي ناجم عن الأفكار الفلسفية ولا سيما فلسفة الأفلاطونية الجديدة، والبعض من يرى أن ولادة التصوف أمر تلقائي وذاتي، ولا معنى للتشابه بينه وبين سواه من الفرق والمذاهب لدى الأقوام الأخرى، فكلاهما يعود إلى علّة واحدة . وثمة من يرى أثراًَ للمسيحية والرهبانية وآخر يدعي أن الفكر البوذي منبع كبير للتصوف، على أن المتصوفة أنفسهم لم يكونوا يطيقون هذه الآراء والفرضيات، بل يعتبرونها توهينا لهم، إذ كانوا يرون أن عقائدهم هي لب القرآن وباطنه وعصارة أحاديث النبوة ونتيجة لكشف أولياء الله وشهودهم اثر تزكية نفوسهم وتصفية بواطنهم فاستحقوا المواهب الإلهية ونالوا الخواطر الربانية، لكن ينبغي الإشارة إلى أن هناك فريق من المتصوفة ممن يعتقدون أن كل واحد من تلك المذاهب يجسد جزءا من الحقيقة وليس جميعها، فالحقيقة المطلقة كالشمس الفياضة تشع على كل مكان وتظهر في كل شيء وفق أشكال وألوان مختلفة .
والحق أن المؤلف يميل إلى الرأي الأخير القائل بتعدد مصادر التصوف الإسلامي، فقد أفسح مجالا للبحث في نوعين من العوامل المؤثرة في التصوف، الأولى إسلامية والثانية غير إسلامية، فالإسلامية تجلّت في تأثير الآيات القرآنية والسيرة النبوية وحياة الصحابة والأولياء والصالحين، أما غير الإسلامية، فقد عالجها المؤلف على مدى مئة صفحة تناول خلالها مؤثرات الديانة المسيحية والفلسفة اليونانية والعقائد البوذية والهندية والمانوية . إلا أن تلك المؤثرات والعناصر غير الإسلامية قد انصهرت في بوتقة واحدة ومرّت في " مصفاة " إسلامية أضفت عليها روحا جديدة وخصائص تتسق وجوهر الفكر الإسلامي .
يعمد المرحوم قاسم غني في كتابه هذا إلى تقسيم التصوف إلى مراحل تاريخية متعددة ذات خصائص فكرية متميزة، وقبل أن نعرض لتلك الأدوار وسماتها ينبغي الإشارة إلى أن المؤلف يؤكد على أن اعتماد هذا الأسلوب التاريخي أمر تقريبي إذ إن البحث والتحقيق في الخصائص الصوفية لكل قرن ليس أمراً مطلقاً أو دقيقاً، ولا يمكن أن يصدق على جميع عارفي التصوف في أنحاء البلاد الإسلامية أو أن يكون سمة جامعة لذلك القرن، فالممالك الإسلامية التي ينتشر فيها التصوف الإسلامي واسعة جدا، وتحوي الكثير من الأمم والطوائف المتنوعة عرقيا واجتماعيا وتاريخيا، الأمر الذي يضفي على التصوف لونا يتسق وطبيعة تلك الأقوام وعاداتها وآدابها والعوامل السياسية والاقتصادية والاجتماعية والفكرية التي تحكم تلك الأقوام .
ويكفي هنا أن ندلّل على مدى التنوع والتعدد الذي كان يهيمن على الدولة الإسلامية في عصر كانت تمتد فيه من الأندلس حتى الصين مروراً ببلاد المغرب وشمال افريقية ومصر والشام والعراق والجزيرة العربية وإيران والهند وما وراء النهر .
ولعلّ التصوف جزء من تلك الحالة فهو رغم مصطلحاته ومفاهيمه وقضاياه إلاّ انه كان يتسم بالتعدد والتنوع تبعاً للعوامل السالفة، علاوة على أن القضايا الفكرية والإنسانية، وكل ماله ارتباط بالعقيدة والعواطف أصعب من أن تفصل أو تجزأ رياضياً أو هندسياً أو زمانياً، على أن المؤلف رغم إقراره بعدم صحة هذا التقسيم إلاّ انه يعتمده في كتابه هذا بهدف تسهيل البحث والدراسة . فما هي تلك المراحل وما خصائصها ؟
مصطفى البكور- سورية
التعليقات (1)
مصطفي البكور/سوريه
تاريخ: 2007-04-14 - الوقت: 11:39:22نلفت نظر الساده اصحاب هذا الموقع الي ان المقال لم ينته بعد و هو مكون من ثلاثه اجزاء اضافيه مع الشكر الجزيل