سأل الممكن المستحيل : أين تقيم ؟ فأجابه في أحلام العاجز
أجازت بُنية الدستور الإيراني المختلط ما بين أوتقراطية اختيارية وديمقراطية واجبة أن يُحدد المسارات التي لا تُعفيه من أصالة مرجعيته القانونية من جهة ولا تُطلقه خارج النطاقات المُحدّدة ضمن الهوية الثورية الجديدة من جهة أخرى .. ولأن البحث مازال مُتركّزاً على إيجاد تصور واضح لمصادر المشروعية للنظام السياسي ما بعد الثورة الإسلامية فإن الحديث عن عنصر الاستقلال ومفهومه وإعادة إنتاجه هو أحد المصادر المهمّة لديمومة الوظائف السياسية الشرعية لمسيرة النظام .
وإذا ما اعتبرنا أن الفترة التي انتصرت فيها الثورة هي فترة مفصلية من تاريخ الصراع الإقليمي والدولي، أو اعتبارها مرحلة ما قبل انتهاء الحرب الباردة يتبيّن مدى تماس مفهوم الاستقلال بالقضايا الحسّاسة، في عالم تتضخّم فيه تيارات العدمية والقيم الأحادية، ومدى قدرة القادة الجدد من المشايخ على التعامل معه وفق منظومة المصالح والأهداف .
المُشكل الرئيسي الذي واجهه موضوع الاستقلال بالنسبة إلى إيران هو كيفية توصيف اللازم والملزوم في المسلك السياسي وعلاقة ذلك بإسلامية النظام وما أفرزه من قيم دينية كانت مُنزوية إلى الظل طيلة سنين سحيقة، وقد ذكر شايكان في توصيفه لبعض قضايا السياسة " إن رسالة إيران الجمهورية الإسلامية هي رسالة ألمانيا في الغرب نفسها بدفاعهم عن الفكر اليوناني، فهي (أي إيران) دافعت عن مشعل الأمانة الآسيوية في الإسلام " والأكثر من ذلك وبحسب القياس اللاريجاني فإن امتداد تأثيرات الثورة إلى طنجة وجاكرتا كحواضن جغرافية ضمن حزام الدول الإسلامية قد فرض عليها مسئوليات أكثر مقابل استحصالها المزيد من النفوذ والاضطلاع بأدوار مختلفة .
بعد الثورة أُجمِلت المبادئ العامة للدولة كمدخل لتحقيق الاستقلال في " الإسلام والتشيّع والثورية والثقافة الوطنية والمكانة الإقليمية والدولية وأخيراً الحاجات الطبيعية لإيران كجزء من المجتمع الدولي، وهي المبادئ التي لا يُمكن تحقيقها إلاّ بتوفير الأمن وتحقيق التنمية والرفاه الاقتصاديين وكسب الاحترام الدولي على صعيد العلاقات الدولية ونشر القيم والثقافة الوطنية، لذلك فقد صُنّفت أولويات السياسة الخارجية ضمن أربعة أنواع بحسب محدداتها وهي: المكانة في النظام الإقليمي والعالمي، ثم تحديد الدور الذي يُمكن أن تلعبه إيران وما إذا كان دوراً إقليمياً أم عالمياً أم محدوداً بالعلاقات الثنائية، يليه تحديد القضايا والمسائل الإقليمية والدولية المرتبطة بنحو ما بالسياسة الخارجية لإيران، والتي حدّدها الخبراء الاستراتيجيون بخمسين قضية قُسّمت على أسس مُختلفة كالقرب والبعد من أهداف السياسة الخارجية الأربعة سالفة الذكر، وأخيراً تحديد القضايا وتصنيفها ضمن مسائل لها أولوية قصيرة المدى كحل مشكلة الجزر الثلاث وكيفية التعاطي مع الموقف الدولي من قضية التسوية العربية الصهيونية أو متوسطة المدى كحل مسألة الديون وتنظيم العلاقات الاقتصادية وتنسيق السياسات النفطية، أو بعيدة المدى كنشر الثقافة الإسلامية وحل كليّات المشكلات مع الغرب (العلاقات العربية الإيرانية الاتجاهات الراهنة وآفاق المستقبل) " .
على المستوى الداخلي بدأت التنشئة الجديدة للاستقلال بعد بيان الإمام الخميني في إبريل/ نيسان من العام 1980 والذي قضي بتشكيل مجلس الثورة الثقافية الذي أنيطت به مهمّة تغيير بُنية البلد التعليمية والفكرية وصوغها حسب المفاهيم الجديدة للثورة، فعلى المستوى العقائدي رُسّخت المبادئ الإسلامية على حساب القيم العلمانية، وفي الاقتصاد ثُبّتت عناوين الاكتفاء الذاتي والاعتماد على الداخل وحرمة التعاملات الربوية، وفي العلوم الاجتماعية عبر نقد الأيدولوجيا الغربية وتفسير سلوك الإنسان من خلال دوافع عقيدية، وفي التاريخ على شطب السياسات الشاهنشاهية التي كانت تُركّز على القومية الفارسية، ووصف الفتح الإسلامي لبلاد فارس بالغزو البربري والوحشي، وعلى المستوى السياسي وُضِعت الأشكال والأنماط التي تسيّر الحياة السياسية وفقاً لمبدأ إطلاقية السلطة لله على العباد، بعدما كان العلم السياسي في زمن الشاه يُواجه تعارضاً وتناقضاً ذاتياً، وهو بالمناسبة آخر التخصصات العلمية التي أعيد العمل بها في الجامعات الإيرانية بعد توقف الدراسات العليا فيها مطلع يونيو/ حزيران من العام 1980 «إيران اليوم - منظمة الإعلام الإسلامي» بل إن علم السياسة في إيران قد بدأ في إعداد إجابات منسجمة مع المنطق النظري والميكانيزمات العملية له، ومدى تأثير ماهية وفاعلية الهيكلية السياسية في إيران، وأزمة التزام التقاليد أو الحداثة في المجتمع، مع ضرورة " تفسير الظواهر السياسية بالتلازم مع التوضيح المُنظّم والاستقراء المسقبلي لها، نظراً إلى ارتباطه بسلوك وتصرفات جميع أفراد المجتمع الإنساني وعدم اقتصاره على تشريع الحكومة وتوزيع القدرة والسلطة " (د. علي رضا أزغدي) .
على المستوى الخارجي، بدأت إيران في صوغ علاقات مبنية على المصالح والأهداف المتعددة كأصغر وحدة مشتركة من دون ضرورة الرجوع إلى الأحكام العينية بقدر ما يتم الرجوع في ذلك إلى القدرة على تحجيم المشكلات والنجاح والإخفاق، وهو ما يُحيلنا إلى جدلية الضابط والمعيار ما بين النظرة الواقعية والمثالية في تقييم النجاح، وخصوصاً مع طبيعة الحوادث الكبيرة التي كانت تواجهها طهران والتي أهمها الحرب العراقية الإيرانية (1980 - 1988) .
خلال العقد الأول من الثورة كان ترسيخ مفهوم الاستقلال يبدو هلامياً وغير معروف الملامح وذلك بسبب عدم القدرة على تفسير الوقائع طبقاً للظروف الموضوعية القائمة آنذاك لتتم برزخة الشعار من الشعور وكيفية المواءمة بينهما، لذلك فقد كانت سياسة البلد الخارجية تنشط بمتغير واحد في بعض القضايا، على عكس ما هو قائم الآن من سياسة هي حصيلة مجموعة من المتغيرات الوطنية والإقليمية والدولية، بل حتى تعريف الهوية لم يكن يخضع بشكل مُركّز على علاقات الدولة الاجتماعية أو على أساس المواءمات الداخلية والخارجية، وكانت إيران خلال ذلك العقد أشبه ما تكون بالمشاع الديني الذي يُقدّم قراءة محايثة للوقائع وهو ما تمّ تداركه بعد حين .
ولمن يتابع الحدث الإيراني ما بعد الثورة وإلى الآن، يلحظ جلياً حجم التمرد والممانعة التي تبديها إيران حيال الكثير من الملفات، بل إن بقاء العلاقات الإيرانية الأميركية على حالها منذ ثمانية وعشرين عاماً يُكرس مفهوم التضاد بين النموذجين، فواشنطن لا ترغب في اللعب مع الآخرين من منطلق المحاصصة المُسبقة بقدر رغبتها في توزيع القوة والنفوذ بحسب ظروفها ومصالحها المباشرة وغير المباشرة، في حين أن طهران لا تريد أن تتطاوع مع خطاب القوة المجازية وسياسة الإجبار، وهو ما يجعل خيط التواصل بينهما معلقاً، إلاّ عبر وسيط .
التعليقات (0)