تعتبر التجربة السياسية للإمام الخميني والمتمثلة في إقامة نظام الجمهورية الإسلامية في زمن مشحون بإرهاصات الحرب الباردة ومعادلاتها السياسية المتبدلة، التجربة الدينية الوحيدة التي استطاعت أن تتعايش مع محيطها العالمي من دون أن تفقد الكثير من هويتها وآيدلوجيتها، وهي تبيئة صعبة كان يُمكن أن تُؤثر على الصدقية والعنفوان الثوري والجاذبية والاستقطاب .
كما أن تلك التجربة لا يُمكن معرفة حقيقة أهميتها إلاّ إذا تمّ استحضار حقيقة مرة تتلخص في حجم التراجع الفقهي – السياسي الشيعي الذي وصل مداه قبل انتصار الثورة باختطاط علماء الشيعة موقفاً تقليدياً سلبياً من القضايا السياسية فضلاً عن مشروع الدولة الإسلامية التي اعتبروه خروجاً على الأنماط التاريخية للطائفة، خصوصاً وأن هذا التأصيل قد ارتبط بشكل كبير بالشيخ الأنصاري 1214 هـ - 1218 هـ الذي خالف أستاذه النراقي في مفاهيم ولاية الفقهاء وحدودهم، وهو ذات الفقه النصي المتمحور حول يوتوبيا الإمامة الدينية / المثال والحتمية التاريخية .
الإرث التاريخي لنظرية السلطة
ارتبطت نظرية ولاية الفقيه (والتي تعتبر من أهم نتاجات الفكر السياسي الشيعي) بشكل عضوي مع نظام الجمهورية الإسلامية الإيرانية التي تأسس بشكل متماهي مع استحقاقات النظرية، وتأدلج وفق رؤيتها نهاية عقد السبعينات من القرن الماضي، وعلى الرغم من الإمام الخميني قد قام بعملية تدوير للمفاهيم وتشذيب لخياراتها ومتونها وموائمتها مع ما هو سائد من ثقافة سياسية مهيمنة في عصرنا الحاضر، إلاّ أنها أفضت بشكل سليقي إلى دولة دينية امتزجت فيها براجماتية السياسة وإسقاطات الشريعة من دون الوقوع في شراك الثيوقراطية أو الدكتاتورية الهالكة، وذلك بفضل المرونة التي انتهجها الإمام والتي اعتُبِرَت تمرداً واضحاً على فرائض الحوزات الدينية الجامدة والمتخلفة .
كان مبدأ ولاية الفقيه قد تأسس جنينياً على يد سبط بن الجوزي قبل تسعمائة .. حتى كتب فيه بإسهاب الشيخ شمس الدين محمد بن مكي المعروف بالشهيد الأول وهو من أعاظم فقهاء شيعة جبل عامل في فترة الأيوبيين، حين طرح آراءه السياسية ابتداءاً من العلاقة بين العقل و الشرع و ما تحتله العقلانية في الأحكام الشرعية، وجعلها مدخلاً لضرورة و منشأ الحكومة لتتبلور على أساس مبدأ حكومة النبي و الإمام المعصوم و في عصر الغيبة في الفقيه الجامع للشرائط، وقد حدد لهذه الحكومة صلاحيات واسعة منها عزل الحاكم وضرورة إقالته فيما إذا فقد شرط القبول الجماهيري، و على هذا الأساس يتبين موقع الناس في مجال القوة السياسية والعلاقات المتبادلة بين الفرد و الدولة .
وقد زاولها (أي ولاية الفقيه) بشكل عملي الشيخ علي بن عبد العالي الكركي (ت 940هـ / 1534م) إبان الدولة الصفوية لمدة ست سنيين قبل أن يختلف مع الشاه الصفوي آنذاك على غزو الأخير لأفغانستان وقيامه بحملة تطهير ديني ضد بعض المذاهب الإسلامية هناك، كما عَمِل بها أيضاً المحقق الأردبيلي (993 هـ) في نفس الفترة، ثم نظّرَ لها أكثر الشيخ أحمد النراقي (1249هـ / 1833م) وقد كتب فيها أيضاً آية الله عبد الحسين اللاري عندما دوّن فيها رسالة تحت عنوان (ولاية الفقيه) كتعليقة على كتاب المكاسب للشيخ الأنصاري الملقب بأستاذ الفقهاء حيث كان اللاري يعتقد أن الفقيه بالإضافة إلى ولايته و قدرته على التصرف العام، فإن له مناصب متعددة و هي تنتهي إلى مناصب الأئمة المعصومين (ع) كالتدخل في الأمور الحسبية، والاجتهاد و استنباط الأحكام الشرعية بالنسبة إلى أفعال المكلفين، والقضاء، والرئاسة، والخلافة و الحكومة على الناس .
وكانت تلك الأقوال التاريخية لبعض الفقهاء الشيعية قد مهّدت الطريق لأن يبدأ الإمام الخميني إعادة صياغة للنظرية وتطويرها حسب رأيه الفقهي، الذي تكلل بأن يرى أن للفقيه ما للمعصوم من تفويض فيما يخص الصلاحيات الحكومية والإدارية، وليس الصلاحيات الناجمة عن عصمتهم والعصمة شرط فيها، بل إنه أبقى للأمة حقها في الاستيضاح والمساءلة .
ثم زاد على ذلك بتبيين أنه إذا كانت صلاحيات الولي الفقيه تتعلق بالبنية التحتية للنظام الإسلامي، وهيكليته والأهداف الإسلامية الكبرى، فإنها تثبت بالدليل العقلي، أما ما كان فيه طابع (الأحسن) و (الأولى) وتعذر علينا إثباته بالدليل العقلي، إذ ذاك يتم الاستعانة بالدليل النقلي مع التفريق بين دلالة العقل على حدود الصلاحيات ودلالة النقل عليها وبين أصل المسألة ما إذا كانت كلامية أو فقهية، حيث أن المسألة الكلامية هي التي كون موضوعها فعل الله وفيها مداليل الدليل العقلي، فالبحث يدور في علم الكلام حول ما يقول الله سبحانه، هل قام بهذا الفعل أم لا ؟ أو هل يفعله أم لا ؟ فالدليل في هذه المسألة كلامي سواء كان عقلياً أم نقلياً قطعياً .
وكانت آراء الإمام ونظرته لمفاهيم النظم السياسية تنمّ عن إدراك واعٍ بكيفية التعاطي مع الأحداث وغاياتها وضرورة إحداث شبكة علاقات ووصلات حذرة بين التأصيل والتحديث، وهو ما أدى إلى ظهور أطر سياسية وآيدلوجية جديدة لها طابعها الخاص والمستقل في الشأن الحكومي .
إن ما أظهره الإمام الخميني من ممارسات سياسية وإدارية تعتبر ملكَات وصل إليها الفقه الشيعي بعد غربة طويلة عن الممارسة الحقيقية والعملية للسلطة، فلم يكن هناك إرث سياسي – فقهي سابق سوى إرث الخلافة الكلاسيكي، وقصاصات أخبار عن شغل الشريف الرضي (359 – 406هـ / 970 – 1016م) والمرتضى (355 – 436هـ / 966-1045م) وغيرهما مناصب في الدولة العباسية ونصير الدين الطوسي وابن طاووس في دولة هولاكو والمحقق الكركي والأردبيلي في الدولة الصفوية وهو ذات الفقه التسويغي الذي أجاز عبره الفقهاء تفكيك المفهوم الشيعي للنص الديني المتمثل في الأخبار الواردة عن فضل الانتظار ، ثم إن الإمام لم يقتصر فقط على أفهامه الفقهية التجريدية بل استعان بكل ما وصل إليه علم الدولة الحديث من تطور بدون أي استحياء أو سرقة محضية للقوالب الجاهزة فرشح عن نظرته تلك بصمات واضحة على النظام الحقوقي للدولة التي شيّدها :
أوّلاً ـ حق المساواة والتكافؤ : وقد أشارت إليه المواد 19، 20 و21.
ثانياً ـ حق الأمن : وقد أشارت إليه المواد 22، 32 و40.
ثالثاً ـ حق الحريات والمشاركة السياسيّة والاجتماعية : وأشارت إليه المواد 23، 24،25، 26، 27، و32 .
رابعاً ـ حق التظلّم : المواد 34، 35 و36.
خامساً ـ حق التعليم والتربية : المادة 30.
سادساً ـ حق الضمان الاجتماعي : المادة 29.
سابعاً ـ حق العمل : المادة 28.
ثامناً ـ حق السكن والإقامة : المادتان 31 و33.
تاسعاً ـ حق الملكية : المادّتان 46 و47.
ثم قرر أن تكون للأمة حق المراقبة المباشرة والاستصوابية للسلطة والأجهزة التنفيذية والتشريعية والشوروية وغيرها منذ اليوم الأول :
1.الاستفتاء العام على النظام الذي جرى بعد 47 يوماً فقط على انتصار الثورة الإسلامية (30 - 31 آذار / مارس 1979) وشارك فيه أكثر من عشرين مليون شخص، حيث صوّت 98.2 بالمائة منهم على نظام الجمهورية الإسلامية .
2.انتخاب مجلس خبراء الدستور (أو الجمعية التأسيسيّة بالمعنى القانوني المتعارف عليه) انتخاباً مباشراً في 3 آب / اغسطس 1979.
3.الاستفتاء العام على الدستور وقد جرى في 2 و3 كانون الأوّل / ديسمبر 1979، أي بعد إقرار الدستور من قبل مجلس الخبراء وقد صوّت 99.5 بالمائة من المقترعين لصالح دستور الجمهورية الإسلامية مع ملاحظة أن نصّ مسودة الدستور سبق أن نشر في الصحف ووسائل الإعلام، وجرت مناقشته مناقشة مستفيضة من قبل جميع التيّارات والتنظيمات السياسيّة والاجتماعية والمهنية، بل حتى في الشوارع والبيوت من قبل عامّة الناس .
4.كما جرى استفتاء شعبي مباشر آخر على الدستور قُبيل وفاة الإمام الخميني أجري في 28 تموز/ يوليو 1989، بعد التعديل الذي أجراه خبراء الدستور على بعض موادّه .
5.انتخاب رئيس الجمهورية انتخاباً مباشراً، وقد جرت الانتخابات الرئاسية في الجمهورية الإسلامية حتى الآن ثمان مرّات ابتدأ من عام 1980 وحتى 2001 انتخب فيه خمسة رؤساء، إذ أعيد انتخاب ثلاثة منهم لدورتين متواليتين .
6.انتخاب أعضاء مجلس النواب (السلطة التشريعيّة)، انتخاباً مباشراً وقد جرت الانتخابات البرلمانية حتى الآن سبع مرّات، ابتداءً من عام 1980وحتى 2004 .
7.انتخاب أعضاء مجلس خبراء القيادة، انتخاباً مباشراً وقد أجريت عملية انتخاب الخبراء حتى الآن أربع مرّات، ابتداءً من عام 1982، وكان آخرها الانتخابات التي جرت في عام 1998.
8.انتخاب القائد (الولي الفقيه) انتخاباً غير مباشر، أي من خلال مجلس الخبراء، أو عزله من خلال المجلس نفسه. والتعبير الدقيق عن عملية الانتخاب هو (الكشف) وليس (الانتخاب)، لأنّ مجلس الخبراء يكشف عن الفقيه الذي يختاره للقيادة من بين مجموعة من الفقهاء الحائزين على شرائط القيادة، وقد قام مجلس الخبراء ـ بالفعل ـ بانتخاب الإمام الخامنئي في عام 1989 لمنصب الولي الفقيه وهذا هو أحد نوعي الكشف، أما النوع الأوّل فهو انصياع الأمّة للفقيه المتصدِّي للقيادة، ومعاهدتها له على الانقياد من خلال مختلف الممارسات، كالرسائل والتظاهرات والبيعة المباشرة، وهو ما حدث مع الإمام الخميني.
9.انتخاب أعضاء مجالس شورى المحافظات والأقضية والنواحي والقري، ومنها يتكوّن مجلس الشورى الأعلى للمحافظات .
10.انتخاب مجالس الشورى المهنية (العمال والفلاحين والمعلمين وغيرهم) .
11.انتخاب أعضاء الحكومة (الوزارة)، انتخاباً غير مباشر، من خلال تعيين رئيس الجمهورية لأعضائها، ثمّ تصويت المجلس النيابي عليهم .
لذا فإن التراث الفقهي والسياسي الذي خلَّفه الإمام الخميني يعتبر بحق مادة خصبة للدارسة والبحث في عصر ذابت فيه كل معالم لمشروع ديني يُظهر فاعلية ما للإسلام .
التعليقات (0)