الفطرةُ السليمةُ هي التي تحث الإنسان على محاولة الانقياد ونيل الرضا الإلهي والتسليم لأمره تعالى، فالعبادة نابعةٌ من الذات الإنسانية السلمية والشعائر الإلهية إحدى مصاديق هذا التسليم لله تعالى والمودة التي امرنا الله بها وهي اجر الرسالة (قل لا أسالكم عليه أجراً إلا المودة في القربى) فهي تلتقي مع الشعائر الإلهية لأنها إظهار المحبة المكنونة، فهي المرحلة المتقدمة التي تحتاج إلى مؤنة وحب شديد وشوق مؤكد حتى تظهر بمظاهر الوفاء وهي مرحلة الصدق والعلانية بما يترتب عليها من الانتصار لمن يواليه وهذه المظاهر تتشكل بأشكال حسب مراتب الحب والولاء وهي مقولة قابلة للتشكيك بمراتبها.
وقد عبّر القرآن الكريم عنها بالشعائر وهي جمع شعيرة وهي العلامة وشعائر الله الأعلام التي نصبها الله تعالى، فهي تظهر تارة في السعي بين الصفا والمروة لقوله تعالى (إن الصفا والمروة من شعائر الله) لان السعي والطواف بينهما يؤدي من قبل النفوس الطاهرة (ذلك ومن يعظم شعائر الله فإنها من تقوى القلوب) سورة الحج31.
والحالة الخاصة للإنسان المؤمن التي هي كاشف عن تقوى القلوب وفيها تعظيم للشعائر الإلهية النابعة من التقوى والرضا للأمر الإلهي فإضافة التقوى إلى القلوب للإشارة إلى أن حقيقة التقوى وهي التحرز والتجنب عن سخطه تعالى والتورع عن محارمه، أمرٌ معنوي يرجع إلى القلوب وهي النفوس ولا تقتصر على الأعمال الجسدية فحسب إذ العمل قد يكون اعم من الطاعة والمعصية فيمكن أن يكون رياءً مثلاً ولا هي من العناوين المنتزعة من الأفعال كالإحسان مثلاً بل هي ترجع إلى التسليم بالأمر إلى النفوس وتقوى القلوب آخر مراحل الطاعة المحضة وهي روح العبادة فتعظيم الشعائر في الحقيقة لا يرجع إلى ممارسات الجسد فقط بل التعظيم يرجع إلى تقوى النفوس وتقوى القلوب فما هو بالعرض ينتهي إلى ما هو بالذات.
فالقرآن الكريم عندما جعل اجر الرسالة المودة في القربة وجعل السبيل إلى الله هي المودة فقال تعالى (قل لا أسألكم أجرا إلا من اتخذ إلى ربه سبيلا) فالسبيل إلى الله تعالى هم أهل البيت عليهم أفضل الصلاة والسلام والشعائر الحسينية أوضح مصداق لشعائر أهل البيت (عليهم السلام) فالحسين (عليه السلام) مصباح الهدى وسفينة النجاة وقول النبي الأعظم (حسين مني وأنا من حسين) حيث كان بقاء الشريعة المحمدية بجهاده لذا فقد أقدم سيد الشهداء على محاولة الإبقاء على الشعائر الإلهية بتضحيته بعد ما استباح يزيد شعائر الله تعالى ومن ثم أمعن في هتك الشعائر بهدم الكعبة المشرفة واستباحة المدينة المنورة، ومن هنا حاول الإمام زين العابدين والأئمة من بعده (عليهم السلام) إحياء الدين بواسطة إظهار مظلومية الحسين (عليه السلام) والطلب بثأره فجاءت الروايات المستفيضة بإظهار الجزع والحزن عليه وهي تغطي جميع أشكال الشعائر لأنها مصداق للجزع والحزن.
والمشي إلى مقامه الشريف وزيارته (عليه السلام) وأحياء أمره أحياءً لأمر الدين ومصداقاً لقول الرسول الأعظم حسين مني وأنا من حسين بغض النظر عن إشكال الشعائر حتى التي يحسبها ضعفاء الإيمان والنفوس إنها شعائر قديمة أو غير ملائمة للعصر أو غير حضارية فهل الصفا والمروة من شعائر الله كذلك لقد جعل البّدن. فقال الله تعالى (والبدن جعلناها لكم من شعائر الله) سورة الحج35. والمراد بالبّدن الشاة التي تساق وهو الهدي وتشعر، أي يشق سنامه من الجانب الأيمن ليُعلم إنها هدي على ما في تفسير أئمة أهل البيت (عليه السلام) ويؤيده ظاهر قوله (لكم فيها منافع إلى اجل مسمى ثم محلها إلى البيت العتيق) الحج 32.
ثم ذكر بعد ذلك والبّدن جعلناها إلى أخره كما في تفسير الميزان مجلد 14 صفحة 373 فالله سبحانه وتعالى جعل البّدن شعيرة من شعائر الله في الحج حتى يتعبد الإنسان بأمر الله وهذا التعبد من تقوى القلوب فالشعائر الحسينية إذن بما فيها من جمال في السيرة وإظهار الحزن بأشكال مختلفة كلها أصبحت شعيرة لأنها مصداق لتعظيم شعائر الله ولا يسمع لقول من يدعي الثقافة والعصرية بأنها شعائر قديمة كما دفع الله سبحانه وتعالى الدخل المتوهم عن البّدن أن الله له نفعاً في هذه الضحايا ولحومها ودمائها فأجاب (لن ينال الله لحومها ولا دماؤها ولكن يناله التقوى منكم) إلى آخر الآية، لان الله منزه عما يحتاجه العباد فأجيب بتقرير الكلام وأن الأمر ليس كذلك لكن هذه التضحية والأشعار يتصف سائقها بصفة معنوية ويتقرب بها وهذه الصفة من شأنها أن تنال رضا الله سبحانه فهي تصعد إليه تعالى وتقّرب صاحبها منه تقريبا لا يبقى بينه وبين الله حجاب يحجبه عنه (لن ينال الله لحومها ولا دماءها ولكن يناله التقوى منكم).
كذلك الشعائر الحسينية تقرب إلى الله بالصفة المعنوية بأي شكل كانت وتقرب صاحبها، فهي كلها من مصاديق إظهار الجزع والحزن كما في الرواية الصحيحة سواء كان التمثيل أو ضرب السلاسل فكل نوع يناله التقوى منكم لا تصاف صاحبها بالتعظيم للشعائر، ونستعلم من القرآن الكريم أن مسألة الشعائر ليست جديدة ففي كل امة لها شعائرها الخاصة كما قال الله سبحانه (ولكل أمةٍ جعلنا منسكاً ليذكروا اسم الله .. إلى آخر الآية).
والمنسك مصدر ميمي واسم زمان ومكان فكل يوم عاشوراء وكل ارض كربلاء وأيام عاشوراء وكربلاء للأمة منسكاً وفيها تقريب الناس إلى الدين الحنيف ويذكروا الله فيها ففيها إعلاء لكلمة الله وولاية أهل البيت (عليهم السلام) فعن الإمام الباقر (عليه السلام) ما نودي بمثل ما نودي بالولاية وورد عن أهل البيت أن الدين هو حبهم وهل الدين إلا الحب في الله والبغض في الله والبراءة من أعداء الله واظهر مصاديقها الشعائر الحسينية التي أراد الباري تعالى بقائها ورفعها (في بيوت أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه).
التعليقات (0)