شارك هذا الموضوع

حوار مع سماحة الفقيه والمحقق آية الله الشيخ جعفر السبحاني(دام ظله)

حوار مع سماحة الفقيه والمحقق آية الله الشيخ جعفر السبحاني(دام ظله)

* مع شكرنا الجزيل لسماحتكم على إتاحة فرصة الحوار.. باعتباركم من ابرز تلامذة الإمام وموضع عنايته، وقد كتبتم تقريرات بحثه الأصولي لأول مرة، وطبع بقلمكم قبل انتصار الثورة، ونظرا لمعرفتكم بأحوال علماء الشيعة وأكابرهم فحبذا لو تعطونا صورة عن أبعاد شخصية السيد الإمام (قدس سره) مقارنة مع سائر العلماء؟

* الشيخ السبحاني: إن الحديث عن الدرجات العلمية الرفيعة للأستاذ المعظم سماحة الإمام أعلى اللّه مقامه لشخص غير ملم مثلي بما يتناسب ودرجته العلمية الرفيعة أمر صعب، ولكن سأضع معلوماتي عن شخصيته التي كنت في خدمتها طيلة تتلمذي عليه بين يدي القارئ الكريم.

ينقسم العلماء الى قسمين، قسم يمتلكون العلم والبيان معا في التدريس ونقل المطالب بشكل جيد، ولكنهم لا يتمتعون بقلم جيد ولا يجيدون التصنيف.

وقسم آخر يجيدون فن التصنيف ونقل المطالب بشكل محرر، ولكنهم يقصرون عن البيان والتدريس وتربية الطلاب.

ولكل أمثلة نحجم عن ذكرها خوف الإساءة لأحد.

والإمام يعتبر من طائفة ثالثة فهو من ذوي الرئاستين، رئاسة القلم والبيان معا، فتراه في بيانه يتعرض لأغمض البحوث وأعقدها في المجال الفلسفي أو العرفاني أو الأصولي فيذلل صعبها بالمثال، وقد استخدم القرآن الكريم أسلوب التمثيل فيما يقرب من ستين موضعا لتقريب أعلى الحقائق وأرفعها الى الأذهان، وهكذا الأمر بالنسبة للحقائق العلمية تقرب للمخاطب بالمثال ليسهل فهمها عنده.

لقد كان الإمام (قدس سره) يصب المسائل الفكرية والعلمية والمعنوية في قالب المثال الحسي، ويقرب الفكرة ببيان واضح، وهكذا في الكتابة فقد كان له أسلوبه الخاص الذي يعتمد الجمل القصار، ولكنها في الوقت نفسه تتصف بالإحكام محترزا بذلك عن الجمل الطويلة ومستفيدا من الاستعارات والكنايات والرموز سيما في القضايا العرفانية والأخلاقية حيث يبينها بالأمثلة الرقيقة وبذوقه الرفيع الذي حباه به الباري سبحانه.

* تطرقتم الى الجانب العرفاني والفلسفي، وقد كان للإمام تركيز خاص على العرفان بشقيه النظري والعملي، وذلك من أجل إخراج هذه العلوم من غربتها، كما أنه كان أستاذا للفلسفة سنوات عديدة، حبذا لو تحدثونا عن هذين البعدين وأساتذته فيهما واهتمامه بهما؟

الشيخ السبحاني: تأثر الإمام في القضايا العرفانية بشكل كبير بأستاذه المرحوم الشاه آبادي، وكان الإمام يعشق هذا الأستاذ ويكن له كل الحب والتقدير. أذكر مرة عندما كان يلقي علينا بحوثه قبل (40 سنة) فانتهى البحث الى مسالة الجبر والتفويض نقل مثالاً عن أستاذه في نسبة أفعالنا لله سبحانه ثم قال :«لقد كان أستاذنا الشاه آبادي متقيا، وإني لم أرى طوال عمري إنسانا بهذه اللطافة» هذه نص عبارته، ولك أن تدرك معناها، أي أنه كان يدرك الرقائق والدقائق بشكل لم أرى له مثيلا، وقد درس عليه مدة (5) سنوات شرح الفصوص، وله عليه تعليقات وحواش لاحظت بعضها، وقد طبعت مؤخرا.

وأما في الفلسفة فقد تأثر بصدر المتألهين، وأهم أساتذته فيها آية الله السيد الرفيعي القزويني، درس عليه المنظومة وشطراً من الأسفار، ولكنه إضافة لدراسته كان يتمتع بمؤهلات ذاتية وذوق فلسفي وعرفاني رفيع مكنه من الإبداع والإضافة في هذين المجالين، وإلا فإن صرف الدراسة للمنظومة وشطر من الأسفار لا تجعل الإنسان فيلسوفا يتمتع بمنهج ومبنى خاص لولا وجود الموهبة الإلهية والذوق الرباني بحيث استطاع أن يفهم ويهضم مباحث أستاذيه وأن يتذوقها أيضا، فهناك فهم للمطلب وهناك تذوق له، فقد يوصف غذاء ما للإنسان وقد يتذوقه الإنسان بنفسه، والإمام كان في الفلسفة سيما في الإلهيات مدركا لها الى حد التذوق، أي أنها مازجت وجوده.

وأما إجلاله لأستاذيه فهو في الغاية، وأتذكر أنه دخل يوما في حجرة المرحوم (صاحب الدراية) في المدرسة الفيضية وكان أستاذه السيد الرفيعي القزويني جالسا، فجلس إليه، ولم يتفوه بشيء طوال تلك الجلسة احتراماً لأستاذه .

وفي مجال العرفان إضافة لما استفاده من أساتذته نجد له ابتكارات وإبداعات، ولو أنه قدر له الاستمرار في هذين العلمين لكانت له تجديدات وإبداعات أكثر، ولكن انصرافه الى الفقه والأصول، ومن ثم المسائل السياسية حال دون ذلك، وإلا فإنه كان يعتبر لسنوات مديدة أستاذ الفلسفة والعرفان بلا منازع.

* يعتبر علم الفقه والأصول المقصد الأساس في حركة الحوزة العلمية الأمر الذي جعل الإمام يسير بهذا الاتجاه كما أشرتم حتى انتقل إلى عداد المراجع الكبار، فلو تحدثونا عن أهم أساتذته في هذين المجالين وعن منهجه في الاستنباط.

الشيخ السبحاني: بالرغم من دراسة الإمام في علم الفقه على آية الله الخوانساري وغيره من المشايخ إلا أن البنية العلمية للإمام قد تشكلت لديه على يدي آية الله الشيخ عبد الكريم الحائري مؤسس الحوزة العلمية الحديثة بقم، وقد كان للإمام دفتر يسمى بالفوائد يدون فيه منفردات أستاذه الحائري التي لم ترد في كتابه «درر الأصول»، وقد شاهدت عنده هذا الدفتر.

ومن خصوصيات الإمام عدم الملل والتعب من البحث حتى لو بحث في مسالة ساعة كاملة لا يمل نظير أستاذه الحائري، وكان يود كثيراً أن تناقش مطالبه التي يطرحها، وأتخطر يوماً أنه بحث في مسالة معينة ولم يناقشه أحد من طلابه فقال:

لماذا لا تتكلمون، أنا لا أقرأ مجلس عزاء لكم حتى تسكتوا هكذا، قولوا شيئاً.

وربما كانوا يشتكون إليه أحيانا من طول المناقشات في الدرس- وكانوا يعنونني- لأن ذلك يؤخر الدرس، فأجابهم الإمام: الذي أراه أن الكلام والاعتراض في درسي قليل، والمفروض أن يحصل أكثر من هذا.

بعد قدوم السيد البروجردي الى قم سنة 1364هـ . ق حضر الإمام درسه في الفقه والأصول، وكان للسيد البروجردي منهج خاص وللشيخ الحائري منهج آخر، فمنهج الحائري يعتمد الدقة والتأمل في المسائل، فيما كان السيد البروجردي ميالاً الى التتبع والاستقصاء إضافة للتدقيق والتحقيق، فكانت منهجيته تعتمد نقل أقوال العلماء من الخاصة والعامة معا . وقد أضاف الإمام عندما حضر على السيد البروجردي لما استفاده من أستاذه الحائري أشياء جديدة من درسه.

إن طريقة الإمام هي أن لا يبدأ بالمسالة من دون استعراض السير التاريخي لها، وربما كان يستعرض الجذر التاريخي لها من خلال كتاب «الخلاف» للشيخ الطوسي. هذا أولا.

وثانيا: كان يعتني بالأسانيد كثيراً كما هي منهجية السيد البروجردي.

وثالثا: كانت منهجية السيد البروجردي الاهتمام بالشهرة الفتوائية لدى القدماء، فلا يخالف الفتوى إذا كانت عليها الشهرة بين القدماء إطلاقا، وهكذا الإمام كان لا يخالفها في آرائه. إن هذه الدقائق أخذها من أستاذه الثاني.

وقد نتج عن هذين المنهجين أو المدرستين منهجا ثالثا يعتمد مزج الدقة والتتبع معا. وهكذا منهج الإمام في الفلسفة أيضا.

وفي قضايا العرفان يمزج المسألة العرفانية بالمسائل البرهانية ثم يحاول أن يستشهد عليها من أدعية الأئمة (عليهم السلام)، أي أنه يمزج بين الذوق العرفاني وبين البرهان الفلسفي، ويأتي بشواهد من القرآن والسنة والأدعية سيما الصحيفة السجادية للإمام زين العابدين (عليه السلام).

* ما هي الكتب الفقهية التي درسها الإمام الراحل في حوزتي قم والنجف ؟

الشيخ السبحاني: درَّس (رحمه اللّه) كتاب الزكاة في منزله لجملة من طلابه فيهم الشهيد المطهري، ثم درَّس كتاب الطهارة، وقد استمر 7 سنوات، وقد كتب بعض بحوثه بقلمه وطبع.

ثم درَّسنا المكاسب واستمر سنتين، ثم درَّس البيع بعده الى بيع الفضولي حيث تم نفيه الى تركيا وحرمنا بذلك من درسه، ثم درَّس كتاب البيع والمكاسب وغيرهما في النجف طوال خمسة عشر عاما. وقد اتسمت بحوثه في البيع والمكاسب بالطابع العقلي بعيدا عن منهجية التتبع متأثرا في ذلك بآية الله الشيخ محمد حسين الأصفهاني.

وأما في سائر كتبه فقد نهج فيها نهج أستاذه البروجردي باعتماد :1- التتبع. 2- السير التاريخي للمسألة. 3- ملاحظة الأسانيد في الروايات. 4- الاهتمام بالشهرة الفتوائية.

* كيف كان درسه في الأصول في الحوزتين النجفية والقمية ؟

الشيخ السبحاني: درَّس الخارج في الأصول أولاً المباحث العقلية (الجزء الثاني من الكفاية)، وسجل نتائج أفكاره بعنوان حاشية على الكفاية باسم «أنوار الهداية في شرح الكفاية»، وقد التحقت بهذه الدورة من مباحث الاستصحاب، ثم شرع دورة جديدة استمرت 7 سنين شاركت فيها، وبدأ دورة ثالثة لم أحضرها من مباحث الألفاظ الى مسائل الاشتغال، وقد اعتقل الإمام في أوائل أو أواسط هذا البحث (الاشتغال).

* بما أنكم من حضَّار درسه الأصولي وقررتم له في ذلك «تهذيب الأصول» في تلك السنوات وأنتم اليوم من المدرسين البارزين للأصول في حوزة قم ومن المطلعين على الآراء الأصولية للإمام وغيره من العلماء . . حبذا لو تذكروا لنا إبداعات الإمام وتجديداته في هذا المجال؟

الشيخ السبحاني: للإمام مبان وآراء اختص بها في الأصول، منها :

1- أبطل الإمام الرأي المعروف في الوضع من مباحث الألفاظ الذي يقول «الوضع الخاص والموضوع له عام محال» و «الوضع العام والموضوع له خاص ممكن» وقال :إما أن يكونا ممكنين معا أو ممتنعين معا، وقد استدل لذلك، وذكرنا استدلاله في «تهذيب الأصول»، وإجماله أنه يقول بتجويز الاثنين معا بنحو والى امتناعهما بنحو آخر فيما لو لاحظناهما مرآة، بحيث لا يكون الخاص مرآة للعام ولا العام مرآة للخاص ،فالخاص لأجل ضيقه لا يعكس المفهوم الواسع، والعام لأجل سعته لا يرى الجزئيات، وإذا كان اللحاظ الانتقال فكلاهما صحيح وجائز.

2- نظرية الخطابات القانونية: ولهذه النظرية تفريعات وثمرات كثيرة، يرى الإمام في هذه النظرية أن خطابات الشارع خطابات عامة وتشريعية، والخطابات التشريعية تمتاز عن الخطابات الخاصة، فقد أخاطبك وأقول لك: صل، صم، ففي هذه الأوامر شروط لا يلزم وجودها في الخطابات العامة التي هي من قبيل «يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام» فهذه خطابات قانونية وعامة، فلا يشترط في هذه الخطابات ما يشترط في الخطابات الخاصة.

وقد تركت هذه النظرية تأثيراً كبيراً في مسار البحث الفقهي، فقد ترتب عليها أولاً: عدم إمكانية الأمرين اللذين يكونا في عرض واحد من دون أن يكون بينهما ترتب، فلا يمكن للشارع أن يأمر بإزالة النجاسة عن المسجد ثم يأمر بالصلاة أيضا في نفس الوقت، فالآخرون يقولون هذا أمر بالضدين، فيما يفرق الإمام بين الخطابات الشخصية والخطابات القانونية، ففي الأولى يكون هذان الخطابان قبيحان، بينما لا يقبح ذلك في الخطابات القانونية؛ لأنها ليست خطابا للشخص، بل للعنوان والنوع، فيمكن أن يوجه للإنسان حينئذ خطابين ولا يكون قبيحا، نعم هو معذور في نظر العقل فيفعل أحدهما ويترك الآخر لضيق قدرته عن امتثالهما معا، في حين أن غير الإمام يستشكل في الأمرين الطوليين بنحو الترتب ويستعصي عليه حل ترتب الأمر بالثاني على عصيان الأول، مع أن الإمام لا يكتفي بالقول بجواز ذلك فحسب، بل يزيد عليه الجواز في الأمرين العرضيين من دون حاجة لتقييد الثاني بعصيان الأول.

ويترتب على هذه النظرية ثانيا: عدم خروج الطرف غير الإبتلائي عن منجزية العلم الإجمالي؛ وذلك لكون الخطابات قانونية وكلية، وليست شخصية حتى لا نستطيع أن نخاطب الشخص الذي خرَّج الإناء النجس عن ابتلائه بالاجتناب عنه باعتباره قبيحا كما يقول المشهور، بل هو عنوان كلي، ولا يلزم في العنوان الكلي دخول جميع الأطراف في محل الابتلاء بالنسبة لجميع المكلفين، ولذا فان خروجه لا يثلم منجزية العلم الإجمالي.

3 - ومن آرائه الأصولية ما يذكره في قبال مشهور الأصوليين القائل بعدم لزوم الفحص في الشبهات الموضوعية، حيث يرى (قدس سره) أن الشبهات الموضوعية على نحوين، فقد يحتاج العلم بالموضوع الى التتبع تارة وهنا لا يجب الفحص والتتبع، وقد لا يحتاج الى ذلك لان تحصيله قريب من متناول المكلف فيجب الفحص حينئذ ولا تجري البراءة، فمثلا من لا يعلم أنه مستطيع أو لا فإنه بناء على رأي المشهور لا يجب عليه الفحص، فيما يرى الإمام أنه لو أمكنه الفحص وتحصيل العلم بذلك يجب عليه ولا يجري البراءة، ومثال آخر لو شك في أن ماله كالحنطة قد بلغت النصاب أو لا؟ فبناء على المشهور يجري البراءة، ولا يجب عليه الفحص، وبناء على رأي الإمام يجب؛ لأنه بإمكان المكلف الفحص، وذلك بأن يزنه.

4 - من المباني الأصولية للإمام ما يذكره في باب التعادل والتراجيح، حيث لا يرى وجود أكثر من مرجح واحد فيها، وهو موافقة أو مخالفة فقه الجمهور، وأما سائر المرجحات سيما موافقة الكتاب ومخالفته فهي ليست من المرجحات، بل هي من مميزات الحجة عن غير الحجة، أي أنا بمراجعة الكتاب والسنة نعرف الحجة من غير الحجة، لا أن كلا المتعارضين حجة ونرجح أحدهما، بل إن ما وافق الكتاب حجة وما خالفه ليس بحجة، نعم في مورد واحد ذهب الى حجية كلتا الروايتين المتعارضتين ولكن نرجح أحدهما بمخالفتها الجمهور ونترك الأخرى بموافقها لهم.

* في الختام لو تعطونا فكرة عن رأيه في عدم وقوع التحريف في القرآن.

الشيخ السبحاني:

تطرق لهذا البحث في حجية ظواهر الكتاب في علم الأصول، وأثبت فيه بطلان هذه الشبهة، وأن من ذهب إلى ذلك قد تتبع الشاذ النادر من الروايات وحشاها حشوا، مع أنه كيف يمكن تحريف القرآن الذي حفظته صدور القراء والحفاظ، كما ذكر أن كثيرا من هذه الروايات هي بصدد التأويل للنص القرآني وليست منه، فهي توضح الآية، لا إنها جزء منها، وقد أشرت لذلك في «تهذيب الأصول». وهناك آراء اختص بها الإمام لا مجال لذكرها.

* نشكر سماحتكم إتاحة الفرصة، وجزاكم اللّه خيراً.

الشيخ السبحاني: شكرا لكم.

التعليقات (0)

شارك بتعليقك حول هذا الموضوع

شارك هذا الموضوع