الدرهم المُدَّخَر مَكسُوبٌ مرتين
قد لا يبدو المشهد اللبناني اليوم بالديناميكية ذاتها التي كان عليها قبل ثلاثة أشهر عندما كانت إسرائيل تقوم بممارسة (زيرها) العدواني عليه بشكل نزق، إلاّ أن هذا المشهد يبقى المُحدد العملي لمستقبل لبنان إذا ما قرّرنا بأن الحروب تُشن لتحقيق أهداف سياسية.
وإذا كان من بين تلك الأهداف الأساسية للعدوان على بلاد الأرز هو (تحجيم الدور الإيراني) فيه خصوصا، وفي المنطقة عموماً، مثلما صرّح بذلك أحد مُرافقي وزيرة الخارجية الأميركية كوندوليزا رايس عندما زارت الشرق الأوسط في أتون ذلك العدوان، فإن الأمر يُصبح أكثر أهمية بالنسبة للمراقبين لمعرفة ما إذا كان الأميركيون قد نجحوا في مسعاهم أم لا ؟ وإذا كان هدف إزاحة النفوذ الإيراني من لبنان هو جزء من سياسة أكبر تشمل المنطقة برمتها وخصوصا في الأجزاء المضطربة من الهلال الخصيب فإن الحديث قد يكون أشمل أيضاً عند قراءة المشهد عن بُعد .
منذ احتلال الكويت في أغسطس/ آب 1990 من قِبل نظام صدام حسين المخلوع والحوادث تتشكّل لصالح طهران التي كانت محصورة بين متاريس عداء مُستحكم من عراق بعثي شوفيني وآخر إسلامي جامد مُجَيَّر لصالح احترابـات طائفية عمياء . ومع اهتراء تلك الموانع وزوالها أصبحت طهران أكثر قدرة على التحرك والانتقال من موقع الدفاع إلى الهجوم، وبالتالي فقد استطاعت أن تقيم سياجاً لأمنها القومي من خلال خلق عوامل إعاقة للمشروعات الأميركية في المنطقة والقضاء على أي حلم أميركي بتغيير نظامها السياسي، وهي المعادلة ذاتها التي يُقرّرها بابي بوزان الذي يعتقد بأن البُنية الأمنية الإقليمية للشرق الأوسط تقوم على نحو يجعل إضعاف أو حذف منافس يُؤدي إلى تقوية وتدعيم المنافس الآخر، وهو ما ينطبق على الحالة الإيرانية بشكل كبير .
في المرحلة التي تلت الحوار النقدي بين أوروبا والجمهورية الإسلامية الإيرانية في العام 1993 وتصدّع نظرية مارتن إنديك في الاحتواء المُزدوج، أصبحت الأخيرة تمتلك القدرة على مخاطبة ملفات أكثر اتساعاً من ذي قبل، والدخول في مساومات ومفاوضات أجّلت الكثير من التدابير والإجراءات التي قد تُتخذ ضدها، كما أنها أبدت اهتماماً بسياسة (المجال القريب) كمدخل للتحكم والسيطرة على أوراق المنطقة الأكثر ربحاً والتي قد توفّر لها مُتسعاً أكبر للمناورات السياسية، فاقتربت أكثر من آسيا الوسطى ومن جنوب العراق وأفغانستان والهند . أضف إلى ذلك فإن الهدوء الأمني والعسكري على الحدود المشتركة بينها وبين جوارها قد أفضى لأن يكون دولاب الحركة بالنسبة لها هو موقعها الجيوسياسي كمُكوّن استقرار في منطقة مضطربة، وأرضاً ضامنة لمشاريع اقتصادية سواء من ناحية توطين تلك المشروعات أو لعب دور الوسيط أو الرابط فيها بين أطراف أخرى تُباعدها الجغرافيا، وبالتالي فهي (أي إيران) غير معنية دائماً بطرح مبادرات إقليمية ودولية بقدر ما يهمها اتباع سياسة التوازن المطلوب بين تقاطيع المعادلة القائمة، وهو ما يُمكن ملاحظته في الملف العراقي بين الوقوف إلى جانب الحكومة العراقية والقدرة على مناكفة المُحتل بالتحالف مع قوى سنية وشيعية لها موقف مغاير من الوجود الأميركي، وفي لبنان الوقوف إلى جانب حزب الله مع إمكانية إعطاء وجهة نظر بشأن القضية بُرمّتها والحفاظ على مسطرة المصالح القائمة مع جامعة الدول العربية ومنظمة المؤتمر الإسلامي .
وعلى رغم أن الأزمة اللبنانية الأخيرة لا يُمكن فصلها أبداً عن الجزء الرئيس من الصورة، وهي أن الرابط بين حزب الله وعلاقاته مع الإيرانيين قد أعاد إنتاج الموقف العربي من الجمهورية الإسلامية بشكل أكثر إيجابية، وخَلَطَ الأوراق من جديد فيما يتعلق بالنظرة العربية (الشعبية) الناقدة لطهران فيما يتعلق بالملف العراقي والادعاء بتدخلها الفاضح فيه، فإن القيمة العملية الأكثر وضوحاً وجلاءً هي تعثّر المساعي الأميركية والصهيونية في المنطقة بعد فشل القضاء على حزب الله عسكرياً وسياسياً، وبالتالي بقاء النفوذ الإيراني حاضراً بقوة وبطريقة مُحسّنة تتلائم والمرحلة. وبات لبنان اليوم مهيئاً أكثر لأن يكون منبراً لتطوير الدبلوماسية الإيرانية المتعدّدة الأطراف وظهورها كقوة إقليمية محورية لا يُمكن القفز عليها، كما أصبح الانقضاء للاتجاهات الحالية في السياسة الإيرانية تجاه المشاريع الأميركية أكثر قابلية وجدّية للعمل في إطار اللاتماثل في الأفهام بين الدولتين.
لقد استوت السياسة الخارجية الإيرانية في المرحلة التي أعقبت الحوار النقدي مع أوروبا على محورين متلازمين، الأول يُعنَى بالتضامنيات السياسية في المنطقة ومجالها القريب، والثاني بإقامة تحالفات واتحادات تُقوّيها قدرات عسكرية متقدمة وبرنامج نووي ناجز قد يُوفّر لها أمناً أكبر وفق المدرسة الواقعية، الأمر الذي أعاد ترسيخ القناعة بأن أي نظام أمني في المنطقة يتطلب إشراك إيران فيه لأن وجودها استراتيجي وليس آنياً.
إن فشل حلفاء الولايات المتحدة في فلسطين المُحتلّة والمهالك التي تجنيها في العراق وعدم القدرة على القضاء على حزب الله في لبنان عبر الآلة الصهيونية والدبلوماسية الأميركية القذرة والتراجع في خطوات صوغ المنطقة بشرق أوسط جديد هي ليست شعارات فضفاضة، بل لا يُمكن القبول اليوم إلاّ بالإذعان إلى أن المنتصر الأكبر في كل ذلك هو حليف الفائزين في الانتخابات الفلسطينية وحليف المنتصرين في لبنان والمستفيد الأول من تعثّر مشروع الاحتلال الأميركي للعراق، وهو ما يعني العودة مرة أخرى إلى المربع الأول والقبول بالجمهورية الإسلامية كمُكوّن مهم في المنطقة .
التعليقات (2)
رياض المرهون - فلوريدا
تاريخ: 2006-11-14 - الوقت: 15:44:17مقال رائع .. تحليل موضوعي ..ولغة رصينة , كما هو حال مقالاتك السابقة.. دمت سالماً .. ودمت موفقاً..
محمد عبد الله محمد
تاريخ: 2006-11-15 - الوقت: 10:38:06الأخ العزيز .. رياض مرهون كم أنا سعيد وأن أقرأ تعليقكم الجميل، أتمنى لك مزيداً من الموفقية في مشوارك الأكاديمي وأن تعود سالماً . تحياتي ،، محمد عبد الله محمد