شارك هذا الموضوع

أزمة المفاهيم

من أكبر المصائب التي تُعاني منها البشرية في هذا الأوان هي تراجيدية أزمة المفاهيم، بعد أن لعبت بعذريتها عبثية الإنسان فتحول أصل وجودها من موضوعةٍ لمتطلبات التواصل الإنساني واللغوي والتثاقف من أجل بلورة نظام أفكار يتسق مع هذا الفتح الإنساني المتواصل التي ترفده عقول بنو البشر هنا وهناك، إلى متاهة مأزومة ملأت الأجواء وحجبت الرؤية لفهم تلك المصطلحات المشحونة بالمعاني والألوان والصور والسياقات، لأنها لم تعد خاضعة (أي المفاهيم) لمقاييس الفهم والسياق الطبيعي وذوق السليقة بل وُظفت وأُقحِمَت في غياهب سياسات الدول وتطلعاتها الخارجية وخصوصاً في الدولة الرأسمالية الجشعة، فحصل ما يُمكن أن يُوصف بالخلل في التواصل التعبيري بين الأفراد، وانسحب ذلك على أس الحياة وهو الإنسان ثم على آلة الحركة المدنية والاجتماعية وهي الحضارة والثقافة Civilization & Culture وهي غاية الأزمة ومنتهاها .


والغريب أن في العالم الأنغلوساكسوني المتشاطئ مع بعضه في الجغرافيا والتاريخ والمصير نجد أن تلك الأزمة التي ساهم هو في تأصيلها وشياعها بفضل السياسات الرأسمالية الليبرالية التي اعتمدها طيلة عمر الدولة الحديثة قد أصابته هو أيضاً بدائها وخير مثال على ذلك ما جرى بعد أحداث سبتمبر 2001 حين تباينت ثمان دول أوربية مع الولايات المتحدة الأمريكية في نظرتها لمفهوم الإرهاب، رغم أنها قضية مُدَوَّلَة وتحظى باهتمام سياسي واقتصادي وأمني وشعبي كبير بين شعوب وأنظمة تلك الدول، فلم تحل النظرة الأمريكية أو تفسيراتها لأزمة الإرهاب من أن تستمر بريطانيا وألمانيا وفرنسا في تجسير علاقاتها الخارجية والاقتصادية مع دول مارقة (بحسب التوصيف الأمريكي) كالجمهورية الإسلامية وفي فترات معينة مع حزب الله في جنوب لبنان .


وتلك أزمة حقيقية لا يُعرَف حجمها إلى بمعرفة تأثيرها على سياسات القارة القديمة والعالم الجديد وتقاطعاتهما في حلف الأطلسي والتجارة العالمية  الحرة وكيفية التعاطي مع الأنظمة الشرق أوسطية .


 وفي الضفة البائسة الأخرى من العالم بدأت الأنظمة العربية الشائخة في التلاعب هي الأخرى بغايات المفاهيم وبعمليات تأهيل إكراهية لمعاني السياسة والفكر فشوهتها بامتياز، فهي لا تقبل الديمقراطية إلاّ بعد تشذيبها ومقيستها على نفسها بحجة ضرورة اتساقها مع قيم وأعراف وهموم وخيارات المجتمع والدولة !! أو تتذرع بمقولة " التمرحل في العمل الديمقراطي " باعتبار أن شعوبها لا زالت في طور النمو والتأهل وهي مقولة تجريمية قذرة بحق هذه الشعوب التي تاقت للحرية والديمقراطية في الفترة التي كانت أنظمتها حاضنة لأفعال الظلم والاستبداد والدكتاتورية وتغييب آراء الناس، ثم إنني أتسائل : هل من المعقول أن تُعطى قبائل الهوتو والتوتسي أو من يعيش في أدغال القارة السوداء من القبائل (وهنا لا أعني الانتقاص أبداً) حق الانتخاب والترشح وتُحرَم منه شعوب تختزن في داخلها فتوّة واعية وطبقة وسطى مُفعمة بالتكنوقراطيين والمثقفين !! ثم ماذا يعني مفهوم التمرحل أو التقطير لهذه الأنظمة ؟ هل يجب علينا أن ننتظر خمسة قرون كما (فعلت أوربا) حتى نحصل على حياة ديمقراطية راشدة أو نألف صناديق الاقتراع، ثم هل من المعقول تجاوز هذا التراكم الفكري الهائل للفهم الإنساني في مناحي السياسة والحياة ونبدأ من الصفر بحجة أن لنا تكوين خاص لا يُشاطرنا فيه أحد ؟!! قد تكون هذه المنطقة فعلاً لها من الأعراف والقيم ما يُميزها بمسحة محافظة عن غيرها، ولكن ما تُطالب به شعوبها ليس قفزاً أو حرقاً لما تُدين به من سلوكيات وأعراف بل هو مطلب عام وإنساني لا يختلف عليه أهل الشرق أو الغرب لأنه متعلق بمصير تطور هذه الشعوب ورقيها .

التعليقات (0)

شارك بتعليقك حول هذا الموضوع

شارك هذا الموضوع