يعتبر هذا الكتاب المبين من جهات عديدة معجزة خالدة محيرة للعقول وباقية بلا معارض مادامت السماوات والأرض، إذ من المعلوم أنه عبارة عن أمر خارق للعادة وسالب عن المعارضة ومقرون بالتحدي، وهكذا يكون هذا الكتاب كما سنشير إليه أنه من غني باقٍ على صفحات الدهر إلى يوم الحشر، وحيث أنه باق أبدي فإنه يحتوي على جميع العلوم التي يحتاجها الإنسان و يستطيع أن يكسبها.
ومن أوجه الإعجازات القرآنية أنه مع كلمات قليلة وحروف معدودة يحتوي العلوم الكثيرة والمعارف العديدة، وقوله تعالى:(وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِن كُلِّ مَثَلٍ )إشارة إلى العلوم الغزيرة، ويقول تعالى:(وَلاَ رَطْبٍ وَلاَ يَابِسٍ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ)
وقد تصدى أعداد من المسلمين لتحقيقات عديدة حول القرآن الكريم وبذلوا جهدهم في تقديم العناوين والموضوعات الكثيرة في ازدياد المعرفة بالقرآن لكن دون الوصول إلى عشر من الأعشار، ومما حققوا هو أن السور والآيات هل هي مكية أم مدنية؟ وحققوا أول ما أنزل الله وآخر ما نزل، وأسباب النزول ومقاصد النزول، وحققوا أيضاً في عدد الآيات والكلمات والحروف وكيفية القراءة، وآداب التجويد من الحركات والسكون والوقف والبدل والشد والإدغام والإظهار والإخفاء والإقلاب والقصر والتخفيف وغيرها مثل الترتيل والجمع على حسب النزول، وكذلك ألفوا كتباً عديدة في علوم القرآن مثل المحكم والمتشابه والعام والخاص والناسخ والمنسوخ، مثل تشبيهاته، وكذلك منطوقه ومفهومه، حقيقته ومجازه وكناياته، وكذا بدائعه وإعجازه وأمثاله وخواصه وخبره وإنشاءه، وحققوا في المناسبات بين الآيات وبين السور كما في مجمع البيان للشيخ الطبرسي (ره)، فنرى أحكامه من العبادات والمعاملات والأخلاقيات والمسلميات وكذلك في أخبار الماضي مما وقع في قديم الزمن في البلاد والعباد وما يقع في المستقبل، و أحوال الساعة والقيامة والنار والنعيم وأهله والجحيم وأهله، وتوصيف الملائكة والجن مما يصعب إحصاءها.
وعدة من العلماء المعاصرين قد كتبوا حول العلوم الحديثة المستخرجة من القرآن الكريم في الكواكب والأفلاك والمجرات، ومن الطبيعة كالأشجار والنبات والسهول والجبال والحيوان والإنسان.
ومن المسلّم أن أياً منهم لم يصل إلى عشر من الأعشار مما في بطون القرآن الكريم.. هذا البحر العظيم الموّاج الذي لا ساحل له ولا نهاية . وجَمع القرآن لهذه العلوم التي أشرنا إليها وغيرها مما يصعب إحصاؤها هو نوع من الإعجاز.
وقد ذكروا وجوهاً كثيرة لإعجاز القرآن وكلها صواب إلا أن الحق أن مجموع الوجوه واجتماعها هي المعجزة القوية القويمة والخارقة للعادة، فمن وجوه إعجازه:
- ما قيل أنه خارج عن جنس كلام العرب من الندب والنثر والخطب والشعر مع اشتراك الحروف والكلمات.
- وقيل أن وجه إعجازه أنه لا يكل قارئه ولا يمل سامعه وإن تكررت عليه القراءة.
- وقيل أنه إعجاز مع البلاغة.
- وقيل إعجازه عبارة عن علم الغيب وإخبار المغيبات.
- ويقول البعض في وجه إعجاز القرآن أنه يحتوي من العلوم والمعارف ما لم يحتوها أي كتاب، وأحاط بعلمها بكلماته القليلة وحروفه المعدودة.
- وبعضهم أنه جامع للعلوم يشق حصرها ويصعب إحصاءها.
- وقيل أنه باقٍ خالد لا يفنى ما بقيت الدنيا.
- وقيل من وجوه إعجازه صورة نثره العجيب وأسلوبه الغريب غير أساليب كلام العرب ولم يوجد قبله ولا بعده نظير له وهو فريد في ذاته.
- وقيل أيضاً من الوجوه حسن تأليفه والتقاء كلماته وفصاحته.
- ووجوه إعجازه بلاغته الخارقة لعادة العرب الذين هم فرسان الكلام وأرباب هذا الشأن.
وقد ذكر بعضهم موارد عديدة نذكر بعضها فنقول:
إن في كلام العرب ألفاظ مترادفة ومعناها واحد ولكن القرآن استعمل ما هو أفضل من مرادفه ففي كلمة "شك" استعمل القرآن كلمة "ريب" لخفتها عليها لوجود التشديد كما في الآية:(الم * ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ )
وكذا "خير لكم " فـ"خير" أنسب من "أفضل لكم" لخفة صيغة خير على أفضل مع أن معناهما واحد.
وقوله: (وَمَا كُنتَ تَتْلُو مِن قَبْلِهِ مِن كِتَابٍ)4.أحسن من "تقرأ" لثقل الهمزة قي تقرأ.
وأمثال ذلك كثيرة. هذا عن الأصحاب، ولي في هذا الموضع وجه آخر لم يذكروه أولم أقف عليه؛ وهو عدم الإختلاف في جميع القرآن بين الآيات والسور، و لا بين أوله وآخره لأن منشأ الإختلاف في الكلام هو اختلاف الغرائز والأنظار والأحوال في المتكلم فمرة تتعلق غريزته بشيء فيميل إليه وتارة لا فيميل عنه ويزول، ومرة يرغب في تركه إلى شيء يستحسنه ويصف محاسنه، ومرة يرغب عنه وينقل معايبه فيوجد في إنسان واحد بحسب غرائزه وأحواله اختلاف في كلامه وأحكامه ولكن الله تعالى منزه عن الأحوال فلا يتصور في أحكامه وأحواله الإختلاف فبذلك نثبت أن القرآن هو كلام الله عزّ وجل.
(وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلاَفاً كَثِيراً)
وقد يبدو للذي لم يتأمل بعض الآيات بعض الإختلاف كما في الآيات الواردة في بداية خلق الإنسان إذ الآية تقول:﴿وَاللَّهُ خَلَقَكُم مِّن تُرَابٍ﴾.
وفي مورد آخر يقول تعالى:﴿إِنَّا خَلَقْنَاهُم مِّن طِينٍ لَّازِبٍ﴾
وفي مورد ثالث يقول تعالى:﴿خَلَقَ الْإِنسَانَ مِن صَلْصَالٍ كَالْفَخَّارِ﴾
وفي رابع:﴿وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ مِن صَلْصَالٍ مِّنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ).
ولكن بعد التأمل نعرف أن الكل يرجع إلى جوهر واحد وهو التراب والبقية درجات، وكذا كل اختلاف في القرآن.
والملخص أن القرآن الكريم، هذا الكتاب بين الدفتين المتوافر بين أيدينا هو ما أنزله الله تعالى على قلب الحبيب المصطفى محمد المكتمل لجميع ما يجلب السعادة للنوع الإنساني إلى أن ينقرض العالم من غير زيادة ونقيصة ومن دون تحريف وتغيير وهو خارج عن أساليب البشر في كلامهم وخطابهم وشعرهم ونثرهم لأنه كلام الله تعالى وهو فوق كل كلام ومعجزة خالدة لنبينا ولأنه كتاب عزيز (﴿لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ)
.
فنحن المسلمون لو كنا نطبق هذا الدستور الكامل الشامل على أرجاء حياتنا لأصبحنا أسياداً على العالمين، أما يخاطبنا الله تعالى بقوله:(وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الأَعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ)
آية الله السيد أحمد الواحدي
التعليقات (0)