شارك هذا الموضوع

الحلقة الخامسة: الحوار الساخن و الصريح عن تاريخ مأتم بن خميس

1- أي الهواسات أكثر شعبية ؟
هناك الكثير والعديد من الهوسات الخالدة، و اللطميات التي سطّرت في الزمن، و سجّلت في التاريخ حتى يومنا هذا، و قد ألّفتها ولّحنتها وألقيتها في المواكب الحسينية بمختلف مناطق البحرين، مثل: السنابس وكرباباد والمنامة والديه وعالي وكرانة وسترة، كما ألقيت بعض هذه الهوسات بمأتم البحارنة في مدينة كربلاء المقدسة في عام 1969 م ، وكان عمري آنذاك 37 سنة، حيث خرج الموكب العزائي لأول مرة بمناسبة وفاة الإمام الهادي ( ع ) في مدينة كربلاء وذلك بعدما كانت العادة لدى العراقيين أن تخرج المواكب العزائية في هذه الوفاة من مدينة سامراء بالقرب من مرقد الإمامين العسكريين ( ع ) ، ونفصّل لكم هذه القصة في التالي:


" لقد كنت طوال عمري خادما للإمام الحسين ( ع )، و ما فتحت عيني لترى الدنيا إلا ووجدت نفسي تلقائيا داخل العزاء ممسكا للميكروفون، فقد شاءت مشيئة الرب أن يمنحني هذه الموهبة منذ صغري، فكانت منّة من الله تعالى قد وهبني بها وأنعمها علي، ولذلك فإنني لم أفارق الموكب في جميع المناسبات باعتباري الشيال الوحيد في القرية، و لما كان من عادة أهل البحرين في تلك الفترة أن يشدّوا الرحال لينطلقوا إلى كربلاء من أجل إحياء مراسم عاشوراء والأربعين في كل عام ، فقد كنت أتمنى الذهاب مع الزوّار كما جرت العادة عندهم، و لكن رئيس مأتم بن خميس الحاج (أبو علي) بن خميس لم يكن ليوافق، وكان يرفض هذا الأمر ويمنعني منعا شديدا، بصفتي الرادود الذي لا يمكن الاستغناء عنه تحت أي ظرف من الظروف، و خاصة في مناسبة عاشوراء أو الأربعين، و من جرّاء ذلك فقد زادت لدي الرغبة الشديدة للذهاب إلى العراق، و كنت أدعو الله تعالى أن يوفقني لزيارة الحسين ( ع )، و لذلك فانك تجد أن لدي الكثير من الهوسات التي تعبّر عن الشوق لزيارة الإمام ( ع ) أو تحث عليها ، مثل :


أبـــد مــا ننســى الحسيـن              و الــــزيــــارة الكربـلا
هـذي وصيــــة الحسيـــن              قـــالـــها فــي كربـــــلا
قال لا تنسون أنا عطشان              وادي كربــــــــــــــــــلا
و إذا شربتـــــوا المـــــاء              ذكروا عطشي في كربلا


و أيضا :
باللـــه يزاير كربـــلا                هاك من عندي سلام
بلغ سلامي و الدعاء                اهناك يم قبــر الإمام


فقد كان الناس يحضرون لي في كل سنة عند حلول المحرم، من أجل أخذ موافقتي بمرافقتهم في سفرهم إلى  العراق، و لكنني كنت أعتذر للمعزين بعدم استطاعتي لتلبية طلبهم، فكانوا يذهبون بمفردهم، وإذا خرجوا في العزاء هناك بدوني فإنهم دائما يذكروني، فيقولون : "وينك يا القفاص"، وإذا رجعوا للديار فإنهم يخاطبوني بقولهم إذا رأوني : "ذكرناك يا صالح بالهواسات الخاصة بك".


ولمّا كانت سفرتي الأولى إلى العراق في عام 1969 لزيارة الإمام الحسين ( ع ) ، شاءت الأقدار أن تصادف وفاة الإمام علي الهادي ( ع ) ، حيث كنت متواجدا في كربلاء بجوار المرقد الشريف، وكان معي مجموعة من أهل البحرين فأرادوا التجمّع في مأتم البحارنة لإحياء العزاء في هذه المناسبة الشريفة، وكانت تواجههم مشكلة عدم خروج العزاء بكربلاء، فإنه قد تعارف عند العراقيين في وفاة الإمام الهادي ( ع ) أن يخرجوا بالعزاء في سامراء فقط ، فتم التشاور مع مسئول المأتم الذي يدعى (شاكر)، حيث تكفّل بأخذ الرخصة من مركز الشرطة لأجل خروج عزاء أهل البحرين إلى الشارع العام بكربلاء في هذا اليوم، و بعد الحصول على الرخصة تم إحضار البواري (أي السماعات) ، ثم خرج العزاء بحلقة صغيرة وبسيطة كانت تضم أهل البحرين الذين لم يزد عددهم عن 50 شخصا، و كان بجنبي أحد الأشخاص من أهل القرية، والذي أخذ يطرح عليّ التساؤل الذي مفاده : "والحين شنو بتقول أنت بهذه المناسبة ؟ ", فقلت له جوابي :"سوف أعطي كل واحد حقه".


فجاءني الإلهام الذي ألقيته مباشرة على المعزين بقولي:
يا علــــــــي الهادي            لـك اعتــنينا
من وطنّا البحـــرين            إحـنا إجيــنا
و احنا ابكربلا اليوم            نلطم صدرنا


وكنت أردد على المعزين هذه الشيلة منذ خروجنا من مأتم البحارنة الذي يقع بالقرب من مخيّم الحسين ( ع )، متوجهين إلى الروضة الحسينية، وفي أثناء الطريق بمسيرة الموكب قبل وصولنا لبوابة المشهد، كنا نمر في وسط السوق حيث كانت كل الدكاكين مفتوحة، فلما شاهد العامة من العراقيين الذين كانوا في السوق سواء من البائعين أو المشترين هذا الحدث المفاجيء أصابتهم الدهشة لخروج موكب عزاء البحرين في كربلاء، فهم ما كانوا يتوقّعون أو يتصّورون أن يخرج العزاء في هذا اليوم، و لذلك فقد همّوا بالمشاركة معنا، واندفعوا جميعا للانضمام في الموكب، مما أدّى هذا بالتالي إلى إغلاق سوق كربلاء كلها، فأصبح الموكب رهيبا بعيون الناظرين إليه، ومهيبا من الحجم الهائل للجمهور الذي قدم للمشاركة الايجابية وتفاعله القوي والمؤثر مع العزاء، وعندما أوشك الموكب أن يصل إلى المدخل الرئيسي للروضة المقدسة قمت بإلقاء شيلة أخرى، والتي كان لها الشرف بأن تلقى لأول مرة في مكانها المناسب الذي يليق بها داخل الصحن الحسيني، وهي:


بعـــد عيني يـــا زينب           إتكفلــــــــي بعيالــــــــي
تــدريـن أنــا وحــــدي           غريب أو ذبحت إرجالي
يا حسين يا نور العين           أنتــــه تدري عـن حالـي
حرمـــة أو غريبـة دار           محتــــارة إبــــدلالــــــي


وقد تركت هذه الهواسة تأثيرا قويّا في قلوب الشيعة من الرجال والنساء على حد سواء، حيث خيّم الحزن على الرجال، وعلا نحيب النسوان وصراخهم، وعادت كربلاء كيوم عاشوراء، حيث خرّت النساء على الأرض من تأثير الشيلة بعد سماعهن لها.


ثم خرجنا من الصحن الحسيني من باب العلقمي قاصدين مشهد أبي الفضل العباس فرددت على المعزين شيلة حديثة العهد، وهي:
آل أميــــة إشلون أمـــــة                     ظالمة لــهل الرسالة
شتتوا عترة الهادي إبكل                     وطن و بكل ولايــــة
إبكربلا مهجـــــة الهادي                     روّعوا أهله و عياله


وهنا حدث الشجار بين العراقيين وبعضهم البعض ، فأحدهم كان يقول : " بأن هذا الشيّال أصله من البحرين " ، والآخر يرد عليه و يعارضه بقوله : " لا ، هذا الشيّال عراقي ومن البصرة "، وكان سبب هذا الجدال فيما بينهم هو أن الشيلات التي كنت ألقيها عليهم قد أتت جميعها باللهجة العراقية، مما أدّت بالتالي إلى مثل هذه الشبهات و تضارب الآراء في اعتقاداتهم أو وجهات نظرهم المختلفة و نتيجة لهذا الإرباك الشديد فلم يحسم الأمر ، حيث لم يتمكنوا أن يستوعبوا أو يدركوا هل أنني بحريني الجنسية أو عراقي الأصل ، و ظلوا في حيرتهم بين هذان الاحتمالان طول المسافة.


ولمّا وصلنا إلى باب الصحن لأبي الفضل العباس، قمت باستبدال الهواسة لتناسب هذا المقام، وهي:
طـــاح شيّـــال اللـــــواء              و إنريد لــــه شيالـة
قومــوا إنشيلــه للخيــــم              لدّوســــه الخيّالــــة
و احسين وحده إبكربلاء              ذبحت جميع إرجاله
ما بقــــــى غيـــر العليـل              بالخيـــم لـــم إعياله


وقد تراءت لعيني أثناء إلقائي لهذه الشيلة في الصحن الشريف، وخالني كأن المنائر تتمايل بتمايل الناس مع اللحن الذي كنت اردده عليهم، ثم وجدنا أنفسنا بلا شعور إلا و نحن داخل المشهد الشريف عند ضريح العباس، فقد كانت الأعراف والتقاليد السائدة في العراق تقضي بل تمنع منعا باتاً على المعزين أن يدخلوا الروضة المقدسة، ولكن الذي حدث كأن هناك قوى غيبية غير مرئية قد قامت بسحبنا ودفعنا إلى الداخل دون أن يقف بوجهنا أحد، ففقد المعزين شعورهم وأخذوا يدوسون بعضهم بعضا عند مدخل البوابة، ويضربون برؤوسهم شبّاك الضريح، حتى سالت الدماء على الأرض، حتى أنه ليخيّل للرائي أن الذي حدث داخل الروضة المقدسة هو عين الهواسة التي كنت أرددها.. قوموا إنشيلــه للخيــــم لدّوســــه الخيّالــــة .. وهذا لدرجة أن بعضهم قد داسوا على أبنائي (علي ومحمد) دون إحساس مني، حيث كانوا هم منذ البداية متشبثين بملابسي ولا يفارقوني، وكأنهم أيضا قد نجوا ببركة هذا المقطع .. طـــاح شيّـــال اللـــــواء و إنريد لــــه شيّالـة ..


فتسارع الضباط المكلفين بالأمن لإنقاذ هذا الموقف المأساوي، فحضروا إليّ حيث توسّلوا لديّ راجين مني الخروج من الروضة المقدسة بأسرع فرصة ممكنة لئلا يحدث خطرا على المعزين، ولذلك أذعنت لكلامهم فسعيت بالموكب خارجا وتبعني الآخرين، ثم سرنا من الروضة المباركة إلى المأتم لإنهاء العزاء.


ولما مررنا في طريقنا بمخيم الحسين (ع) قبل أن نصل للمأتم ألهمت بشيلة جديدة تناسب هذا الموقف الختامي، وهي:
آمــر العسكر بن سعد           حتى الخيم حــرقوها
حاطت العسكر بالخيم           حتى الحرم ضربوها
يا ويل قلبي إشحــال            زينب بالغرب خلوها
و أطفال هامت بلفـلا            بخيولــهم داســـوها


وبعد ذلك أنهينا العزاء بالصلوات على النبي وأهل بيته، ففوجئت بجموع العراقيين الذين اندفعوا تجاهي للإحاطة بي، وودهم أن يبدأوا بتمزيق ثيابي كما هي عادتهم المألوفة للتبرك بثياب الرادود، حيث يتنافس كل واحد منهم في سبيل أخذه أو حصوله على قطعة صغيرة من قطع ملابس الرادود من أجل البركة، ولكن رئيس المأتم الذي يدعى (شاكر) قد تحسّب لهذه اللحظة الحرجة منذ البداية، فسبقهم قبل أن يصلوا إلي، وعجّل بي إلى إحدى الغرف في المأتم، حيث قام بقفلها وإغلاقها عليّ لكي يخلّصني منهم، وهذا الأمر طبعا لم يحوزعلى قبولهم أوينال رضا الجميع، ولذلك فقد طالبوا بالتعويض الذي أتى على شكل أن أقوم بكتابة هذه الشيلات والهواسات لهم، فاشترط عليهم رئيس المأتم أن من يرغب بذلك فعليه أن يحضر قلم بنسل ودفتر صغير، فذهبوا جميعا لإحضار هذه اللوازم المطلوبة ثم عادوا مرة أخرى، فدخلوا عليّ بالتوالي، حيث كنت أكتب الشيلات الملقاة في هذه الوفاة وأقدمها لهم واحدا واحدا، حيث استغرقت فترة طويلة من الوقت في الكتابة على الدفتر لمدة ثلاث ساعات كاملة حتى فرغت من أجلهم.


وبعد ذلك توجّه لي رئيس المأتم للاستفسار عن الأسباب التي أدت إلى عدم حضوري إلى العراق لإحياء العزاء مثل بقية الناس في كل عام، بالرغم من أنني كنت أعتبر شيّال معروف ذو شهرة كبيرة وله مكانته الرفيعة عند جميع الناس في تلك الفترة، ولكنني شرحت له ظروفي الخاصة معتذرا له بسبب مسئوليتي الكبيرة المنوّطة بي تجاه خدمة مأتم بن خميس في السنابس والتي تحول دون ذلك وبخاصة في موسم عاشوراء والأربعين، ثم أخبرني بأنه كم كانت أمنيته برؤيتي ولو لمرة واحدة قد تعني له الشيء الكثير، وقد تشرّف بي طالما كانت تخترق لأسماعه هتافات أهل البحرين في مواسم عاشوراء بالعراق، فهي لا تلبث دون أن تردد اسمي بصوت مرتفع بكل خطوة من خطوات مسيرة الموكب العزائي".


وفي نفس سفرتي الأولى هذه عندما ارتحلنا بسيارة الأجرة من النجف الأشرف قبل أن نحل بكربلاء المقدّسة، حيث كان الشارع منحدرا من أراضي النجف المرتفعة إلى الأسفل حيث تقع كربلاء، ومن الطبيعي لكل إنسان موالي لأهل البيت أنه يتخيّل شكل المراقد المشرّفة قبل أن تراها عينه لأول مرة، فيترقّب هذه الفرصة بالشوق الدفين، ويتحيّن الوقت الذي تتمثّل فيه المشاهد المقدسة أمام ناظريه، وقد كانت تعتريني مثل هذه الحالة النفسية بأثناء الطريق، حيث كنا في الصباح الباكر عند شروق الشمس، وانعكست العتبات المقدسة بضوء الشمس فتلألأت المنائر نورا، وسطعت قبة المشهدين الشريفين، وأرسلت بإشعاعها الذي يبهر العقول للقادم من البعيد، فتراءت لنا كربلاء كأنها تحيّي بنا وتستقبلنا، ولمّا شاهدت هذا المشهد الرائع، قمت بالتعبيرعنه بلسان حال السيدة زينب لمّا أتت من الشام ورجعت إلى كربلاء، فأنشدت هذه الهوّاسة لكي أعبّر عن ذلك أصدق تعبير، وكانت عيني حينها تذرف بالدموع، فتصوّرت السيّدة زينب لمّا جاءت من الأسر، حيث أقبلت تقول :
بيّنــــت لــي كــربـــلا           و هلّـت الدمعـة
و أذّكــرك يــا حسيــن           لمّتنا و الجمعة
وين عباس بو الفضل           ونّــي يسمعـــه


ولدي أيضا الكثير من الهواسات الصاعدة، والتي ألقيتها على المستوى المحلي في البحرين، وهي كلُّها تغني عن البيان، فمن أحب الإطلاع عليها، فحسبه أن يرجع إلى المصدر الرئيسي بكتابي الذي نظمته في عام 1993م ، بعنوان " لطميات و هوسات مواكب العزاء في البحرين " ، من منشورات مكتبة الريف بجدحفص.
 
2- من أين لك بكل هذه الهواسات؟ ومن هو المؤلف؟
لقد سألتني يا أخي العزيز عن سؤال : من أين لك بكل هذه الهواسات؟ و لكن حسبك أن تعلم بأنك ليس أول شخص يسألني مثل هذا السؤال، فهناك الكثير من الناس قد طرحوا عليّ هذا التساؤل الذي ينم عن إعجابهم أو إحساسهم بقوة الكلمات التي تضمنتها هذه الهواسات مع اللحن الذي أتى ليتوافق معها مما كان لذلك أكبر الأثر في تحريك مشاعر الناس، ومن ضمن هؤلاء المتأثرين بالهواسات هو السيد جاسم الكربلائي الذي طرح عليّ مثل هذا التساؤل قبل عدة سنين، فإنه في تلك الفترة لمّا كان متواجدا في مأتم بن خميس من أجل القراءة على المنبر الحسيني، فقد كان يسير مع موكب العزاء أيضا، حيث تطرّقت إلى سمعه الهواسة التي ألقيتها في عصر اليوم السابع من المحرم، وهي:
لا بـأس و اللـه لا بـأس                 يبـــو الفضــــــــل يعبـاس
إنتــــه شــايـل لـــــوانـا                 و انته إلّحطمت لـــرجاس
ما حــــد وصـــل خيمنـا                 معـــــروف إبشــدة الباس


فحضر إلي بعد انتهاء العزاء ، فقال :
" يابه من وين لك هذا الحشي ؟ "، وذلك لأنه أدرك جيدا بأنني قد وصفت شجاعة أبو الفضل العباس من كل نواحيها بأقل قدر من الكلمات.


كما أنه كذلك قد شهد لي في آخر ليلة له قبل وداعه لأهل السنابس وسفره للعراق لما كان يخطب فوق المنبر الحسيني بمأتم بن خميس والناس يستمعون إلى حديثه عن فاطمة العليلة بنت الحسين والتي بقت في المدينة مع أم البنين ولم تذهب إلى كربلاء، ولمّا تطرّق سماحته لذكر السيدة زينب قال: "أنه لا يمكنني أن أوصف لكم المصاب الذي عانته عقيلة بني هاشم ( ع ) برزء أخيها الإمام الحسين ( ع ) ، لأن الكلمات لا تحضرني لتصوير هذا المشهد المؤلم، فإنني لا أستطيع أن أعبّر لكم أو أعطيكم أكثر مما قاله شاعركم ورادودكم، فإنه قد لبّى هذا الغرض بل وأجاد ذلك عندما قال:


إمن اليسر جيتك يا خوية              شاكيـة و اسمـع حنيني
فــــوق ناقــــة ركبـــونـي             يــا كفيــلـي و سلّبــوني
حنّــــت الناقـة إعلا حالي             و العــدا مـا يرحمــونـي
بالسيـــــاط إلــــوّعــونـي             يـا كفيـلـي علـى إمتوني              
مـــا إلـــي والـــي ســوى            رأسك أشوفه إقبال عيني


وما كاد السيد جاسم الكربلائي أن ينهي هذه الهواسة من فوق المنبر الحسيني، حتى بدأت الجموع داخل المأتم بالنحيب والبكاء، وهطلت دموعهم الغزيرة، وخيّم عليهم الحزن العميق. وما ذلك إلا برهان شاهد على أن الهواسة كانت تأخذ بمجامع القلوب، لدرجة أن بعض المعزين كانوا يقصدوني بعد انتهاء العزاء مباشرة، فيعبّرون لي عن شوقهم وحبّهم للهواسات التي كانوا يعشقونها كثيرا، ويؤيدوني بل ويناصروني، فمن جهة كنت أسمع البعض منهم يقول: "بأنه لا يعتقد أنه باستطاعتي أو بإمكاني أن أقوم بتأليف شيلة أخرى تجعل المعزين ينسون الشيلة التي سمعوها للتوّ " ، ومن جهة أخرى كنت أسمع البعض الآخر يقول لي: " أنه ما في أمل تجيب عزاية مثل هذه أبدا" ، وكان هذا الأمر بالنسبة لي يمثل حافزا أو تشجيعا قويا من قبل هؤلاء المعزين، وبالتالي فإن مديحهم هذا هو الذي يدفعني للتأليف وتقديم الأفضل من الهواسات.



فقد كنت أحضر إلى منزلي بعد انتهاء العزاء بمنتصف الليل، ولا يزال حنين وضجيج العزاء له صدى في دماغي، وقبل أن استغرق في النوم كنت أضع دفترا صغيرا مع قلم بنسل قرب رأسي، ثم يأتيني نوع من الطيف أو الإلهام ، فانهض فورا لتدوين هذه الهواسة الجديدة من أجل إلقائها في اليوم التالي من المحرم، حيث ترى الناس كلهم بشغفٍ و لهفةٍ لسماع هذه الهوسات الجديدة، والتي كانت تصعق الجميع عند إلقاءها عليهم بل وتفقدهم الشعور، فتجعل المعزين كلهم يندمجون مع بعضهم بعضا، كما أنهم كانوا يطربون مع الهواسة و يتفاعلون معها حتى ليخيّل إليهم وكأنهم في عالم آخر.


وهكذا كانت الهواسة أيام مجدها كعين عذاري التي ضرب بها المثل القائل "تسقي البعيد وتخلّي القريب"، وكذلك كانت الهواسة أيضا كالمنبع الذي يفيض بالماء حيث ينتفع بها الجميع، ولذلك فانه من الخطأ الفادح أن تسمح لنا أنفسنا لكي نقدم على سد هذه البئر التي يتدفق منها الماء الجاري الذي يسقى البعيد و يروي القريب ، فإن كل إنسان عاقل لا يمكنه أن يقدم على هذا الأمر بطيب خاطره، وذلك لأنه سوف يندم على فعلته هذه في يوم ما ويؤنبه ضميره.

التعليقات (0)

شارك بتعليقك حول هذا الموضوع

شارك هذا الموضوع