يعيش التيار المحافظ أيامه الذهبية منذ مارس 2003 بسيطرته على المجالس المحلية ثم على البرلمان في فبراير 2004 مروراً بنجاح مُرشحه أحمدي نجاد في انتخابات الرئاسة التاسعة خلال شهر أغسطس المنصرف، وما أفرزته تلك الأحداث مجتمعة من تناغم شبه تام بين السلطتين التشريعية والتنفيذية، بالإضافة إلى مجلس صيانة الدستور الذي يُعتبر في مجمله نصيراً لليمين بشكل استراتيجي، وهو سيناريو تكرر قبلاً لجبهة الثاني من خرداد الإصلاحية عندما سيطرت قواه على السلطة التنفيذية في العام 1997 وعلى المجالس المحلية في العام 1999 وعلى البرلمان السادس في العام 2000 فكانت حقبة " إصلاحية " صرفة وازتها ثقلاً القوى المحافظة في النظام والمجاميع غير المرئية الضاربة في عظم الآيدولوجية الدينية .
إبان انتخابات المجلس السابع كانت معظم برامج المحافظين (نسبياً) تتحدث عن إيجاد حلول للمشاكل الاقتصادية التي تعاني منها البلاد، وإيجاد بدائل أنجع لإدارة الملفات الساخنة تمهيداً لمستقبل أفضل، فكانت النتائج إيجابية بالنسبة لهم، وخلال انتخابات الرئاسة التاسعة تكرر ذات الأمر بالنسبة للرئيس التعميري أحمدي نجاد الذي وعد الإيرانيين بتوزيع عوائد النفط على موائدهم بخطاب أقرب إلى الطوباوية، فكانت النتيجة أيضاً إيجابية، وهو مؤشر طارئ بدأ يتحكم في مزاج الناخب الإيراني ويدفعه نحو مُحددات ومعايير تُزاحم بجدية الشعارات التي كانت سائدة في السابق، بل تجاوزت حتى الشعارات الرنّانة التي وظّفها الإصلاحيون في حملاتهم الانتخابية ومعاركهم السياسية طيلة سبع سنوات خلت، وأمام تلك السيطرة شبه المحكمة على مفاصل الحكم، باتت البرامج التي أعدها المحافظون لحلحلة ملفات إيران الساخنة تسير وفق منهج متعدد الرؤى لكنه مُتحد في المركز وهو ما يعني أن الحاجة للتقنين والتقعيد في تبادل الأدوار بين التشريع والإجراء لم تعد مُهمّة للغاية، بل أن الأمر قد يبدو أسهل من ذلك بكثير إذا ما تذكرنا أن العديد من وزراء الحكومة الحالية هم في الأصل نواب محافظون ! الأمر الآخر الذي يُمكن قراءته في ذلك هو أن التيار المحافظ بدأ في تطويع الكثير من الشعارات بخيال متجاسر على ما لم يسبق التفكير فيه بغية تحقيق مكاسب هنا وهناك، ففي الجانب الاقتصادي استغل علاقته العضوية بالبازار الحليف التقليدي له وللجمعيات المؤتلفة لتمرير مشاريعه بسلاسة أكثر وهي ميزة نوعية تُضاف لسلسلة العوامل التي ستعينه على إثبات الوجود السياسي والاقتصادي بصورة أكبر وأكثر ..
قبل نهاية الأسبوع الماضي صادق البرلمان الإيراني على قرار لتوحيد أسعار الفوائد المصرفية حتى نهاية الخطة الخمسية الرابعة في شتى القطاعات الاقتصادية، بالإضافة إلى مصادقته على ثمان لوائح لاتفاقيات تعاون مع بلدان أجنبية في مجالات التعاون الإداري والجمركي وتجنب الازدواج الضريبي وتشجيع ودعم الاستثمارات بين الحكومة الإيرانية وثمان بلدان أخرى، بعضها شرق أسيوية كأندنوسيا وماليزيا وأوربية كإيطاليا وبلغاريا ودول أخرى كتونس ولبنان وقرغيزيا وطاجيكستان، وإذا ما أخذنا ذلك مع وجود تكهنات المؤسسات الاقتصادية الدولية (غلوبال إينسايت) حول انخفاض ملحوظ في مؤشر التضخم في إيران خلال العام القادم، فيما يتعلق بتضخم البضائع الاستهلاكية في الجمهورية الإسلامية ليصل إلى 10.5 بالمئة أي بتراجع يصل لأكثر من ۳ بالمئة، بالإضافة إلى المؤشرات التي تفيد إلى أن أكثر من ۱۳۱ ألف فرصه عمل جديدة توفرت خلال العام الماضي في قطاع الصناعة والمناجم وحده، بعد المصادقة على 57 مشروعاً، فإن ذلك سيشكّل أسهماً قوية ستضاف إلى رصيد الرئيس أحمدي نجاد والمحافظين عموماً لأن يكسبوا جولة انتخابية أخرى في المستقبل خصوصاً مع وجود إحصائيات البنك المركزي الإيراني التي تشير إلى أن عدد سكان القرى والأرياف بلغ ۲۲ مليونا و۷۰۰ ألف نسمة، وهي الشرائع التي تعتمد عليها القوى اليمينية في حملاتها التسويقية .
في الجانب السياسي استطاع المحافظون تحريك موضوع المفاوضات مع الولايات المتحدة الأمريكية بشأن العراق دون أدنى خوف على صفو المصداقية أو الأهلية السياسية والأيدلوجية الخاصة بهم، علماً بأنهم كانوا يُحرمون ذلك بشكل حاد وقطعي على الإصلاحيين، وحتى موضوع التعاون الذي أبدته طهران إبان الحرب الأمريكية على أفغانستان كان محدوداً جداً وكانت المفاوضات تجرى عبر وسيط ثالث، أما الآن فإن المفاوضات التي تُجريها وزارة الخارجية الإيرانية تحمل صفة الإعلان والمباشرة رغم أنها ستُجرى في سفارة بلد آخر في بغداد، وفي لفتة تدل على حجم البراجماتية والمناورة التي ينتهجها اليمين سياسياً فإن المحافظين تعاملوا مع دعوة خليل زاد لإجراء حوار بين واشنطن وطهران والتي أطلقها في نوفمبر المنصرف بفتور وعدم مبالات، لكنهم في حقيقة الأمر كانوا يُحظّرون أنفسهم لساعة الحسم، وهو ما حدا بالرئيس الإيراني السابق هاشمي رفسنجاني لأن يقوم بجولة مكوكية في الحوزة العلمية بمدينة قم المقدسة لاستمزاج آراء مراجع الدين هناك ولتوضيح الصورة لهم فيما لو قامت محادثات من نوع ما بين الجمهورية الإسلامية والولايات المتحدة الأمريكية مستقبلاً .
بل الأكثر من ذلك فقد دخلوا (أي المحافظين) في مواضيع سيادينية حساسية تتعلق بأصول الحكم وطريقة التعاطي مع تلك الأصول بمرونة استثنائية، فقبل أيام قال ممثل أهالي محافظة خوزستان في مجلس خبراء القيادة آية الله علي شفيعي أن بإمكان المرأة الحائزة على درجة الاجتهاد أن ترشح نفسها للعضوية في مجلس خبراء القيادة ولا يوجد أي عائق قانوني أو فقهي يحول دون ذلك، مُضيفاً أن عبارة (خبراء القيادة) التي وردت في الدستور تشمل المرأة المجتهدة العادلة ولا تختص بترشح الرجل فقط، وأن رفض ترشح ۹ نساء في المرحلة الثالثة من انتخابات مجلس خبراء القيادة كان بسبب أهليتهن من الناحية العلمية، وهو تطور دراماتيكي نوعي في الذهنية الدينية الإيرانية رغم أن هذا الموضوع قد طُرِحَ سابقاً في مناسبات مختلفة ولكن بشكل غير مباشر، وإذا ما عُلِم أن انتخابات مجلس الخبراء سيحين موعدها قريباً فهذا يعني أن المحافظين يرغبون في الدخول إلى هذا المجلس بقوة وبقائمة مسحوجة تحوي عدداً غير قليل من النساء المحافظات داخل قوى اليمين، وهم بذلك يسيطرون على المجلس بإحكام من جهة ويظهرون أنفسهم أمام الفتوة الإيرانية الفاقعة على أنهم أحزاب تقدمية وذات رؤى تجديدية .
المحافظون تاريخياً لهم تجربة خاصة في الحكم، ثم إن الأيدلوجية التي يتبنونها سياسياً وفكرياً موصولة جيداً بالمؤسسة الدينية في الحوزات العلمية التي تمتلك من النفوذ ما يجعلها الحاكم الفعلي في إيران، وهم بالتالي يعتقدون أنهم الوريث الشرعي للحكم، ثم إنهم أصيبوا بانتكاسة غير عادية بعد سلسلة الهزائم التي ذاقواها منذ العام 1997 وهو ما جعلهم يعون أن التحدي في قبالة الآخرين بات جدياً، ويتطلب منهم إعادة نظر في الكثير من النظريات التي كانوا يُراهنون عليها .
التعليقات (0)