مقدمة
إنما خرجت لطلب الإصلاح في أمة جدي
أن من الظلم العظيم والتصور الواهي، أن نسبغ على القضية الحسينية ثوباً طائفياً أو إقليميا، أو حتى مجرد حدثاً تاريخياً جرى في حقبة من الزمن ثم تلاشى.
فالمنصف والمتمعن بموضوعية لا يرى في مسيرة الحسين (عليه السلام) إلى كر بلاء إلا قضية إسلامية أصيلة تمثل فريضة من فرائض الإسلام ضمن نظامه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وحيث جسد فيها الإمام (عليه السلام) الإخلاص والحب والتفاني للرسالة الإلهية، ورسم بدمه الشريف صورة مشرفة ونموذجاً رائعاً لأمتنا اليوم في صراعها مع الباطل.
فالقضية الحسينية ستبقى خالدة ومستمرة مع استمرار أي انحراف في خط الرسالة والتي اختلط منهجها جده محمد رسول الله (صلى الله عليه وآله) الذي خاطب الأمة بأن (حسين مني وأنا من حسين).
ومن الغبن أيضاً أن لا نرى في القضية الحسينية إلا جانباً واحداً فقط، الجانب المأساوي الحزين - رغم قدسيته - دون أن ندع جانب الفكر والموقف والقدوة ينطلق ليشكل تفاعلاً منسجماً بين الفكر والعاطفة. فهدف الإمام الحسين (عليه السلام) من واقعة الطف كان إصلاح هذه الأمة والعمل على تغيير الواقع السيئ إلى واقع الإسلام المبارك.
العلل التي أنتجت الثورة أو النهضة (العلل الفاعلة)
كما أن للظواهر المختلفة حقائق مختلفة فإن كل نهضة أو ثورة بما أنها ظاهرة لها حقيقة خاصة بها تختلف عن حقائق مثيلاتها.
ولأجل إدراك شيء معين - يجب التعرف على علله الفاعلة والغائبة، وكذلك الإحاطة بالعلل المادية لذلك الشيء، أي بأجزائه وجزئياته المكونة له وأيضاً معرفة علته الصورية وشكله وخصائصه التي حصل عليها في الكل، وتوضيح ذلك كما يلي:
1- أن نوع النهضة وأهدافها يشكلان العلل الغائية لها.
2- والنشاطات والأعمال المنجزة في النهضة هي عللها المادية.
3- ويكون الشكل الذي أخذته النهضة لنفسها في المجموع العلة الصورية لها.
أما نهضة الحسين (عليه السلام) فهل هي وليدة الانفجار النفسي؟ كماء يغلي في قدر مقفل إذا لم يلق البخار المتصاعد منه منفذاً للخروج يؤدي إلى انفجار القدر بتأثير ازدياد درجة الحرارة؟
إن الإسلام اختلف عن بعض النهضات التي جاء نتيجة انفجارات خاصة، فالفكر الدياليكتيكي يوصي بتصعيد التناقضات وإثارة الاستياء وتعميق الخلافات أكثر فأكثر وإبداء المعارضة للإصلاحات الواقعية لدفع المجتمع إلى الثورة بمعناها الانفجاري لا الثورة الواعية.
إن الإسلام لا يؤمن مطلقاً بمثل هذه الثورة، وقد كانت الثورات أو النهضات الإسلامية كلها وليدة وعي وإدراك كاملين للواقع الذي جاءت لتغييره، وإن ثورة الحسين (عليه السلام) لم تكن وليدة الانفجار ولم تكن عملاً بعيداً عن الوعي ولم تنشأ نتيجة نفاذ صبر الحسين (علية السلام) بسبب الضغوط الكثيرة التي كانت تمارس من قبل الأمويين وعمالهم أيام معاوية وابنه يزيد بحيث تؤدي به إلى أن يثور ويقول: فليكن ما يكن! كلا لم تكن نهضة الحسين (عليه السلام) بمثل ذلك، ويدل على هذا الرسائل المتبادلة بينه وبين معاوية وابنه يزيد من بعده. بالإضافة إلى الخطب التي أوردها في مجالات مختلفة خاصة تلك التي خاطب بها صحابة الرسول (صلى الله عليه وآله) وهم مجتمعون في منى. وقد نقل حديث هذه الخطبة بصورة مفصلة في كتاب تحف العقول، إن الأدلة المشار إليها كلها تبين أن الإمام الحسين (عليه السلام) ثار وهو مدرك كاملاً سبب قيامه ولم تتدخل في نهضته عوامل الانفجار النفسي مطلقاً، بل كانت ثورة إسلامية محضة.
والحسين (عليه السلام) إذا نظرنا إلى كيفية تعامله مع أصحابه أثناء عزمه على القيام نرى أنه يتحاشى الاستفادة من أي عامل من العوامل التي تؤدي إلى حدوث الانفجار النفسي والعاطفي ولا يسمح بأن تنطبع نهضته بالطابع الانفجاري من ذلك محاولاته العديدة في مناسبات مختلفة لصرف أصحابه عن الاشتراك معه في نهضته التي كان على علم مسبق بنتيجتها، فكان يكرر عليهم قوله أن لا منافع مادية أمامهم في مسيرتهم تلك وأنه لا ينتظرهم غير الموت المحتم، وفي ليلة العاشر من محرم نراه (عليه السلام) يمتدح أصحابه فيقول بأنهم خير الأصحاب، ويكرر عليهم بأنه هو المطلوب من الحكم الأموي وليس غيره، ويؤكد لهم بأنهم لو تركوه لوحده فلن ينالهم سوء من الأمويين ويخيرهم بين البقاء والذهاب وأخذ أهله لإبعادهم عن الصحراء التي هو فيها.
لا نجد زعيماً يريد استثمار استياء وتذمر قومه لدفعهم إلى النهوض والثورة يتكلم بما قاله الحسين (عليه السلام) لأصحابه، صحيح أن مسئوليته هي إشعار قومه بأنهم مكلفون شرعاً بالنهوض بوجه الحكم الجائر، وبالتأكيد أن مكافحة الظلم والجور من واجب الناس، إلا أنه (عليه السلام) كان يهدف أن يقوم أصحابه مخيرين بأداء ذلك التكليف عن طوع إرادتهم غير مرغمين عليه، لذلك نراه يؤكد عليهم باستغلال سواد الليل وترك ساحة المعركة والابتعاد عن العدو الذي لا يرغمهم على القتال إن هم فعلوا ذلك أنه هو (عليه السلام) لا يريد إجبارهم على البقاء معه، وأكد الحسين (عليه السلام) على أصحابه أيضاً بأنهم في حل من بيعته إن هم أرادوا تركه ووضعهم أمام ضمائرهم، فإن هم شعروا بأنهم على حق فعليهم اختيار الحق دون إكراه من جانبه (عليه السلام) أو من جانب العدو، إن اختيار شهداء كربلاء الأوائل البقاء مع الحسين (عليه السلام) بالرغم من تكرار الإمام عليهم لعدة مرات مسألة الذهاب، هو الذي منح هؤلاء الشهداء المنزلة الرفيعة التي هم عليها الآن، أما في الحرب التي شنها طارق بن زياد ضد الأسبان نراه يبادر فور عبوره بأسطوله المضيق، المسمى الآن باسمه، بإعطاء الأوامر لجنده بإبقاء ما يكفيهم من الزاد لأربع وعشرين ساعة فقط وإحراق الباقي وإحراق سفن أسطوله معها ثم يجمع الجند والقادة فيقول لهم بأن العدو من أمامهم والبحر من ورائهم والفرار يجعل مصيرهم الغرق وهم لا يملكون الطعام إلا لسويعات فلا نجاة لهم إلا في قتال العدو والفوز عليه وابادته، إن الذي فعله طارق بن زياد هو عمل قائد سياسي، بينما الإمام الحسين (عليه السلام) لم يخوف أصحابه بالبحر والعدو ولم يرغمهم على دخول الحرب بجانبه كما أن العدو نفسه لم يكن ليجبرهم على القتال لو أرادوا تركوا المعركة، لقد خير الحسين (عليه السلام) أصحابه بالبقاء أو الذهاب دون أي إكراه.
حقاً لقد كانت ثورة الحسين (عليه السلام) قائمة على الوعي والإدراك الكاملين بضرورتها سواء عنده هو أو عند أهل بيته أو لدى أصحابه، ولا يمكن لمثل هذه الثورة أن يقال عنها بأنها وليدة الانفجار النفسي أو العاطفي مطلقاً، ولمثل هذه الثورة الواعية حقائق وماهيات متعددة ومختلفة وهي ليست أحادية الكنه والحقيقة.
ومن الفوارق الموجودة بين الظواهر الطبيعية والاجتماعية أن الطبيعية منها تكون أحادية الحقيقة فالمعدن الواحد، والذي هو من الظواهر الطبيعية لا يمكن أن يكون ذهباً أو نحاساً في آن واحد، ولكن في الظواهر الاجتماعية يوجد احتمال استيعاب الظاهرة الواحدة لعدة حقائق أو ماهيات، والإنسان بذاته هو إحدى العجائب التي يمكن أن تجتمع فيه حقائق متعددة.
وفي هذا يقول (سارتر) الفيلسوف الوجودي المشهور، بأن وجود الإنسان يسبق حقيقته أو ماهيته، وهو صادق في هذا القسم من كلامه، بالإضافة إلى ذلك فإن الإنسان يمكن أن يمتلك ماهيات متعددة في آن واحد، كأن تكون له ماهية الملاك وماهية الخنزير وماهية النمر، كل ذلك في وقت واحد ولهذا قصة عظيمة في الثقافة والعلوم الإسلامية.
ومن هذا المنطلق، يمكن القول بأن الظاهرة الاجتماعية، يحتمل أن تكون لها حقائق وماهيات مختلفة، وثورة الإمام الحسين (عليه السلام) من هذه الظواهر ذات الحقائق المتعددة، لأن عوامل عدة شاركت في إنضاج وتحقيق هذه الثورة، فمثلا هناك ثورة يمكن أن تكون رد فعل على شيء معين، وأن تكون ثورة بدائية في نفس الوقت. وقد تكون الثورة ذات رد فعل إيجابي على تيار معين وآخر سلبي بوجه تيار آخر، وقد توفرت كل هذه الحقائق في ثورة الإمام الحسين (عليه السلام)، وهي بذلك نهضة ذات ماهيات متعددة.
إن العامل الأول في نهضة الإمام الحسين (عليه السلام) من حيث الزمان كان طلب الأمويين البيعة منه ليزيد. فقد بعث معاوية رسولاً إلى المدينة المنورة بهدف الحصول على بيعة الحسين لابنه يزيد، وأراد بذلك أن يضمن له (أي ليزيد) بيعة المسلمين قبل أن يوافيه الموت. لقد أراد معاوية أن يسن بذلك سنة لكي يتسنى لكل خليفة تعيين الخليفة القادم في حياته، فالبيعة معناها القبول بالخلافة والإذعان بصحتها لذلك بعث يطلب من الحسين (عليه السلام) البيعة لكي يبارك خلافة ابنه بها.
ولكن ماذا كان رد الحسين (عليه السلام) على هذا الطلب؟ وطبيعي أن يكون الرد بالرفض، فالحسين سبط الرسول وسيد شباب أهل الجنة والمعروف بالتقوى والزهد وبديهي منه أن يقول (لا) لبيعة يزيد.
لقد طلبوا من الحسين (عليه السلام) أن يبايع لكنه أجابهم بالرفض، فهددوه فقال لهم بأنه يفضل أن يقتل على أن يعطي يده لبيعة يزيد. وإلى هذا الحد تكون نهضة الحسين رد فعل من النوع السلبي على طلب غير مشروع أو بتعبير آخر رد فعل أساسه التقوى وحقيقته نابعة من كلمة (لا إله إلا الله) التي توجب على المؤمن بها والمتقي أن يقول لا أمام كل طلب غير مشروع.
إن ذلك الرفض لم يكن العنصر الوحيد للنهضة الحسينية، بل كان بإزائه عنصر آخر يظهر حقيقة النهضة الحسينية بأنها رد فعل من نوع إيجابي في هذه المرة. ويتوضح هذا العنصر في هلاك معاوية إذ تعود إلى أذهان أهل الكوفة ذكريات مضت عليها عشرون عاماً فتتجسد أمام أعينهم حكومة الإمام علي (عليه السلام) في تلك الفترة، وفي هذه المدينة، فها هي آثار تعاليمه وتربيته ما زالت ماثلة، ولو أن الكثير من أصحابه قد شملتهم التصفيات الأموية وبالأخص العديد من رؤوس هؤلاء ورجالاتهم البارزين من أمثال حجر بن عدي وعمرو بن حمق الخزاعي ورشيد الهجري وميثم التمار، فلقد قضى الأمويون على كل هؤلاء بهدف إخلاء المدينة من فكر الإمام علي (عليه السلام) ومن مشاعر الإمام علي وأحاسيسه، ولكن ما زالت هناك آثار تعاليم الإمام علي باقية بحيث سرعان ما يهلك معاوية يجتمع أهل الكوفة فيتفقون على رفض تقديم الخلافة إلى يزيد ويقولون: ما زال الحسين (عليه السلام) موجوداً فلنوجه له الدعوة ولنستعد لنصرفه حتى يقدم إلينا ليقيم الخلافة الإسلامية، إنهم يوجهون الكتب إلى الحسين (عليه السلام) وكلها تشير إلى استعداد القوم التام للترحيب بمقدمه، تستعد الكوفة، مقر جيش المسلمين، لاستقبال الحسين (عليه السلام) فلم يكن الذين دعوه شخصاً واحداً أو شخصين أو عشرة ما وصلته ثمانية عشر ألف رسالة احتوت كل رسالة منها على تواقيع العديد من الأشخاص وصلت إلى عشرين توقيع في بعض الرسائل. وهذا يجعل مجموع الذين دعوا الحسين (عليه السلام) في حدود المائة ألف شخص فما عساه أن يفعل أمام كل هذه الدعوات، لقد أتموا الحجة عليه، هذا هو رد الفعل الإيجابي، وحقيقة حركة الإمام حقيقة متوازنة، أي أن أعداد من المسلمين بدءوا هذا العمل وعلى الحسين (عليه السلام) أن يعطيهم الرد بالإيجاب.
كان الواجب في البداية يحتم على الإمام الحسين (عليه السلام) أن يعلن رفضه القاطع لبيعة يزيد وأن يجنب نفسه الطاهرة من ذلك الدنس الذي أرادوا تلويثه به، لذلك فلو أنه (عليه السلام) كان يقبل باقتراح ابن عباس ويلجأ إلى جبال اليمن للعيش فيها لكان يصبح بعيداً عن أن تطاله أيدي عساكر يزيد ولكان أيضاً قد أدى الواجب الأول. أن تقوى الإمام (عليه السلام) كانت توجب عليه أن يرفض تقديم البيعة ليزيد، وكان من الممكن أن يتحقق الرفض باختياره (عليه السلام) الذهاب إلى جبال اليمن، الشيء الذي اقترحه ابن العباس وغيره عليه، وكان ذلك كافياً لأداء الواجب الملقى على عاتقه، ولكن وبما أن المسألة هنا تتعلق بالدعوة الموجهة إليه (عليه السلام) من قبل ما يربو على المائة ألف شخص مسلم وهذا يشكل واجباً جديداً على الحسين عليه السلام) الالتزام بأدائه، لذلك كان لزاماً على الإمام أن يلي الدعوة ويتم الحجة ولو أن الحسين (عليه السلام) كان منذ الوهلة الأولى لحركته يعلم بأن أهل الكوفة ليس لديهم الاستعداد وأنهم أناس خاملون ويستولي عليهم الخوف. لكنه كان يرى نفسه مسؤولاً بأن يعطي للتاريخ الجواب الصحيح. فلو أنه (عليه السلام) كان يترك أهل الكوفة لحال سبيلهم دون أن يرد عليهم لأصبحنا نحن اليوم نقف معترضين عليه بالقول: لماذا لم يجب الحسين هؤلاء.
كان يجب أن يتحمل أهله جزءاً من أعباء الثورة في نقل نداء الحسين (عليه السلام)، فاختار هو أن تكون القضية أشد إثارة وحرارة ما زال الأمر وصل إلى ذلك الحد، وكان الهدف هو أن يكون غرس الثورة غرساً مثمراً ويستمر في الإثمار الدائم لكي يعم خيره العالم أجمع. فأي مشاهد رأت كربلاء؟ وأية ساحات ظهرت في كربلاء؟ إنها جميعاً مثار للعجب وباعث على الحيرة والدهشة.
عوامل النهضة الحسينية:
لقد ذكرنا سابقاً أن دعوة أهل الكوفة للإمام الحسين (عليه السلام) للقدوم إليهم وتولي مقاليد أمور البلاد هناك، كانت تشكل العامل التعاوني في نهضته (عليه السلام)، أما طلب الأمويين من الإمام تقديم البيعة ليزيد ابن معاوية فكان يشكل العامل الدفاعي لتلك النهضة، وقلنا أن الحسين (عليه السلام) انبرى لمقارعة السلطة الجائرة التي كادت أن تجر العالم الإسلامي إلى الفساد الشامل، وتحمل (عليه السلام) مسؤولية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في مواجهة تلك السلطة، وكان هذا الأمر هو العامل الهجومي لثورة الإمام (عليه السلام).
فلنرى الآن أي من هذه العوامل الثلاث يشكل الأهم والأكثر قيمة في نهضة الحسين (عليه السلام) بديهي إن كل عامل من عوامل الثلاث يختلف عن مثيله من حيث القيمة والأهمية وبقدر ذلك يضفي أهمية وقيمة على النهضة المعنية في هذا المكان، فتلبية الإمام (عليه السلام) لدعوة أهل الكوفة لها أهميتها وقيمتها الخاصة بها وكذلك العوامل الأخرى لها الأهمية والقيمة الأكبر بحسب ترتيبها وأثرها في النهضة الحسينية، فالعامل الثالث أضفى على الثورة الحسينية أهمية وقيمة أكبر وسنتحدث عن ذلك، إن من العوامل ما يضفي قيمة على نهضة معينة، لها دخل في إيجادها، كما أن رائد النهضة أيضاً له تأثير في قيمة العامل نفسه، فالإنسان يعرف الكثير من الأشياء التي لها قيمة لديه، فالزينة هي قيمة لديه كما أن المجوهرات يعتبرها الإنسان ذات قيمة أيضاً، ومن الأمور المعنوية والمادية في العلم ما هو زينة للبشر، ومما لا ريب فيه أن الجاه والسلطان بالأخص المناصب الإلهية تشكل زينة للإنسان وفخراً له وقيمة، وحتى الأشياء المادية الظاهرية التي تدل على هذه القيم تضفي هي بدورها قيمة على الإنسان أيضاً، فمثلاً يرتدي الفرد لباس عالم الدين الروحاني (وطبيعي أن اللباس لا يدل على روحانية الشخص ذاتاً، أي لا يدل على أنه قد كسب العلوم والمعارف الإسلامية وحاز على درجة من التقوى)، فالروحاني هو الإنسان العارف بالعلوم والمبادئ الإسلامية العامل بالتعاليم التي نص عليها الإسلام، وارتداء لباس الروحانية يضفي المتزيي به الطابع الذي ذكرناه، أي معرفة صاحبها بالإسلام والعمل بتعاليمه، كذلك يكون المرتدي لهذا اللباس محطاً لاحترام وتقدير الآخرين ولهذا يكون اللباس موضع فخر صاحبه، كما أن لباس أستاذ الجامعة يفتخر به الأستاذ وكما أن المجوهرات تضفي الزينة على المرأة وغير ذلك.
وفي الثورات أيضاً هنالك من العوامل ما يضفي القيمة عليها. ولهذا نشأ الاختلاف المعنوي بين ثورة وأخرى، فمنها ما هو خاو من المعنويات وتتميز بطابع التعصب أو بأنها مادية بحتة وهذه لها قيمتها الخاصة بها، وإذا امتازت نهضة بالروح المعنوية والإنسانية والإلهية فلها قيمة متميزة عن الأخريات.
فالعوامل الثلاثة المذكورة التي تدخلت في إيجاد النهضة الحسينية قد أعطت لها أهمية وقيمة، وعلى الخصوص العامل الثالث، ويحصل أحياناً أن يضفي الشخص الذي له علاقة بقيمة معينة في نهضة معينة، أن يضفي هو قيمة على هذه النهضة، أي يضفي على القيمة قيمة وأهمية خاصة، فكما تكون لقيمة العامل أثر في قيمة الشخص فإنه هو (أي الشخص) أيضاً يرفع من شأن هذه القيمة، فأحياناً يكون لباس الروحانية أو لباس أستاذ الجامعة زينة وقيمة لصاحبه وفخراً وقد يكون صاحب اللباس هو الزينة والفخر للباس لما يمتاز به من فضل وتقوى وعلم، أن صعصعة بن صوحان كان أحد الأفراد اللذين تربوا على يدي على بن أبي طالب (عليه السلام)، وكان مشهوراً بالخطابة والفصاحة وشهد بفضله الأديب المعروف (الجاحظ)، إن هذا الشخص حينما أراد أن يهنئ الإمام علي (عليه السلام) بالخلافة قال شيئاً لم يقله المهنئون الآخرون، فقد قال في تهنئته للإمام علي عليه السلام: (يا علي أنت زنت الخلافة وأنت فخر لها وهي لم تزنك ولا زادتك فخراً، فالخلافة احتاجتك دون أن تحتاج أنت إليها، وإني مهنئ الخلافة لأن اسمك يا علي اقترن بها ولا أهنك لأنك أصبحت الخليفة).
لذلك كله نرى بأن عنصر أو مبدأ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر قد أضفى قيمة على الثورة الحسينية، وإن الإمام الحسين (عليه السلام) قد رفع من شأن المبدأ بدمه الزكي ودماء أهل بيته وأصحابه الطاهرين (عليهم السلام)، هناك الكثير ممن يدعون التصدي للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والحسين (عليه السلام) هو أيضاً قال كلمته المشهورة: (أريد أن آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر وأسيره بسيرة جدي وأبي). إن مثل ذلك مثل الإسلام فقد يكون فخراً للكثير من الناس، ولكن هناك مسلمون أيضاً ممن يفتخر الإسلام بهم ويعتز، وما الألقاب التي حظي بها البعض من مثل (فخر الإسلام)، و(عز الدين) و(شرف الدين) إلا دلائل لهذا المعنى، فأبو ذر الغفاري وعمار بن ياسر وابن سينا، هؤلاء رباهم الإسلام فأصبحوا فخراً له، إن الإسلام ليعتز بأبناء رباهم فأصبحت الدنيا تحسب لهم حسابهم لأنهم تركوا آثار جليلة في حضارة الدنيا، وثقافتها. فالعالم لا يستطيع التنكر للخواجة نصير الدين الطوسي لأنه مدين لهذا الشخص بقسم من الاكتشافات الخاصة بالقمر، إن الحسين بن علي (عليه السلام) يمكن أن يقال عنه بأنه أضاف بحق قيمة على مبدأ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وحين نقول بأن هذا المبدأ يرفع من قيمة المسلمين وأهميتهم فإننا لا نأتي بحديث من عندنا، بل إن ذلك جاء في صريح القرآن الكريم إذ يقول: (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنكَرِ)(آل عمران/110).
فانظروا أية عبارات جاء بها القرآن، والإنسان حين يدقق فيها تصيبه الحيرة والدهشة، إن الذي يضفي القيمة على هذه الأمة الخيرة هو مبدأ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
ولكن في النهضة الحسينية نلاحظ أن الإمام الحسين (عليه السلام) هو الذي شرف هذا المبدأ بدمه الزكي الطاهر ودماء أهل بيته وأصحابه الميامين. أما نحن المسلمون فبالإضافة إلى عجزنا عن إيفاء هذا المبدأ الواجب، تحاول أن نكون شيناً عليه، ومما يثير الأسف أن الناس تعودوا على الالتفات إلى القضايا البسيطة التي يشملها هذا المبدأ مثل الأمر بإطلاق اللحى والنهي عن لبس الذهب، ونسوا الأمور الكبيرة الهامة التي تكون ضمن واجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهكذا يكون المسلمون شيناً على هذا المبدأ بالتزامهم بالقضايا البسيطة ونسيانهم أو تجاهلهم للقضايا المصيرية الهامة، كما يفعل البعض في تظاهرهم بالالتزام بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر التزاما لا يتجاوز التوافه من الأمور، ولكن انظروا الحسين (عليه السلام) الذي اهتم بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وثار لأجل تحقيق هذا المبدأ في كل مجالات الحياة صغيرها وكبيرها إنه كان يقول بأن يزيداً هو أول منكر يجب أن يزول من عالم الإسلام، ويقول أيضاً بأن إمام المسلمين وقائدهم هو ذلك الذي يعمل بكتاب الله ويقيم العدل ويدين بدين الحق، لقد ضحى الإمام الحسين (عليه السلام) بكل ما يملك في سبيل هذا المبدأ وتحقيقه، لقد أضفى الإمام (عليه السلام) زينة على الموت في سبيل هذا المبدأ شرفه ووهبه الشموخ والعظمة، فمنذ خروجه من المدينة المنورة كان يتحدث الإمام عن الموت الشريف العزيز، الموت الجميل ما أروع هذا التعبير، وما كل ميتة جميلة، بل إنه الموت في سبيل الحق والحقيقة والعدل، إن موتاً كهذا يشبه القلادة الجميلة التي تزين جيد الفتاة، وكان الإمام (عليه السلام) يردد من بيتاً من الشعر وهو في طريقه إلى الاستشهاد فكان يقول ما مضمونه: ولو أن الحياة كثيرة العذوبة والجمال ولكن الآخرة أكثر جمالاً وعذوبة منها.
وإذا كان الإنسان سيترك في النهاية ما يملك من مال ويذهب فالخير يأتي في إنفاق المال لا الاحتفاظ به. فلماذا لا يفعل الإنسان الخير؟ ولو كان مصير هذه الأبدان الفناء، فلماذا لا يموت الإنسان ميتة حلوة جميلة؟ وإن موت الإنسان بالسيف في سبيل الله، لأعظم وأجمل من كل شيء.
وعلى سبيل المثال لا الحصر فإن أبو سلمه الخلال الذي كان شخصاً يلقبه الناس بوزير آل محمد في بلاط آل بني العباس، نراه حين تسوء علاقته بالخليفة العباسي، حيث قتل بسبب ذلك سريعاً نراه يبعث فوراً برسالتين أحدهما إلى الإمام جعفر الصادق (عليه السلام) والأخرى إلى محمد بن عبد الله المحض، ويدعوهما في آن واحد قائلاً: لقد كنا وأبو مسلم لحد الآن نعمل من أجل هؤلاء (يعني بذلك بني العباس) ونريد منذ الساعة أن نعمل لكما، فلو كان لديكما الاستعداد، فإننا سنقضي على هؤلاء.
إن الدلالة الأولى المستخلصة من هذه الرسالة هي أن صاحبها ينقصه الإخلاص لأنه كتب رسالته إلى شخصين وذلك بعد أن ساءت علاقته بالخليفة العباسي.
وحالما يتسلم الإمام الصادق (عليه السلام) هذه الرسالة نراه يحرقها أمام الرسول الذي سأل الإمام: ما هو جوابك؟ فيرد عليه الإمام بأن الجواب نفس ما رأى أمام ناظريه!
وقد قتل العباسيون أبى سلمه قبل أن يتمكن من الالتقاء برسوله، ومع هذه الحالة نرى السنة الاعتراض تمتد لتساؤل الإمام لماذا لا يرد على (الخلال) الذي دعاه إلى النهوض في رسالته ولماذا أقام (عليه السلام) بإعطاء رد سلبي عليها؟ في حين أن أبا سلمة لم يكن يخلص النية في رسالته وأنه كتبها ساعة وقوع الخلاف بينه وبين الخليفة العباسي الذي أيقن بأن لا خلاص يرتجي بعد من الخلال، لذلك نراه يقوم بقتله بعد أيام قليلة، وبالرغم من هذه الأمور فإن الحسين (عليه السلام) لو كان هو أيضاً يمتنع عن الرد على كل تلك الرسائل لأصبحت الدنيا تقف بوجهه معترضة، لو أن الإمام كان يذهب تلبية لتلك الدعوات لاجتثت بذهابه جذور يزيد وأمثال يزيد. أو تقول بأن الحسين (عليه السلام) ترك أهل الكوفة، الكوفة التي تشكل معسكر المسلمين وفيها أولئك الرجال الشجعان الذي كان علي (عليه السلام) خليفة عليهم لخمس سنوات، الكوفة التي ما زالت تحتضن الأيتام الذين رباهم الإمام علي (عليه السلام) وفيها النساء الأرامل اللواتي كان علي عليه السلام يشملهن برعايته وعطفه وما زال صوته فيها يدوي في آذانهم، فكيف خشي الحسين عليه السلام ولم يذهب إلى هؤلاء؟ وكان يمكن في ذهابه أن تنجح الثورة. إن هذا هو ما جعل الأمر واجباً، ولذلك يعلن الإمام استعداده حين يلمس الاستعداد عند أهل الكوفة، ومن هذه الزاوية بالذات وليس من الزاوية السابقة.
وهناك رأي ثالث سنتطرق إليه فيما بعد. لقد دعي أهل الكوفة الإمام (عليه السلام) فما هو واجبه إذن؟ عليه أن يلي الدعوة ويذهب مازال أصحاب الدعوة مصرين على دعوتهم، نعم على الإمام أن يرد بالإيجاب عليهم.
فلنرى في الأمرين التاليين أيهما يتقدم على الثاني، وهل أن الإمام الحسين (عليه السلام) امتنع عن تقديم البيعة ليزيد أولاً ثم بعث له أهل الكوفة يدعونه للقدوم إليهم؟ أو في الأقل لم يكن كذلك من حيث الزمان، فهل كانت القضية بالعكس بحيث أن أهل الكوفة كانوا قد دعوا الحسين (عليه السلام) ثم جاءت قضية البيعة؟ فأي من هذين الأمرين حصل أولاً في الحقيقة؟ من البديهي أن الأول هو المتقدم لأن طلب البيعة كان مباشرة بعد هلاك معاوية.
إن قضية البيعة كانت متقدمة من حيث الزمان على الدعوة الموجهة من أهل الكوفة، إذ أن الرسول الذي أوصل خبر هلاك معاوية إلى والي الأمويين في المدينة جلب معه في نفس الوقت رسالة أخرى تضمنت طلبا لأخذ البيعة من الحسين بن علي (عليه السلام) ومن أشخاص آخرين، ومن المحتمل أن أهل الكوفة لم يكونوا بعد قد علموا بموت معاوية في هذا الوقت، كما يثبت ذلك التاريخ أيضاً إذ يذكر لنا إن بني أمية طالبوا الحسين (عليه السلام) بالبيعة وأنه امتنع عن تقديم البيعة لهم ومضت على هذا الأمر أيام حتى اضطر الإمام نتيجة لضغوط أن يترك المدينة وأن يبدأ حركته منها في السابع والعشرين في شهر رجب ويصل مكة في الثالث من شهر شعبان فوصلته دعوة أهل الكوفة في الخامس عشر من شهر رمضان المبارك أي تقريباً بعد شهر ونصف من مطالبة بني أمية إياه بالبيعة ليزيد وامتناعه عن الإجابة لذلك الطلب، حيث أن الإمام لبث في مكة أربعين يوماً وبناه على ذلك فإن الحسين (عليه السلام) لم يرفض تقديم البيعة بسبب أهل الكوفة له قبل أن يطلب الأمويين منه ذلك ليزيد بل إنه أعلن بكل صراحة بأنه لن يبايع يزيد حتى ولو ضاقت به الأرض كلها. فهذا هو العامل الثاني لنهضة الإمام (عليه السلام).
وثالث عامل هذه النهضة هو واجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فقد بدأ الإمام (عليه السلام) حركته من المدينة المنورة وهو يهدف لقيام بهذا المهم، فحتى لو يطلب له مبايعة يزيد ولم يطالبه أهل الكوفة بالقدوم إليهم لمبايعته فإنه كان يرى من واجبه النهوض لأداء الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لأن الفساد كاد أن يعم العالم الإسلامي آنذاك.
ففي القضية الأولى ينحصر الأمر في شخص الإمام (عليه السلام) إذ يحاول الدفاع عن نفسه ويرفض تقديم البيعة، القضية الثانية يبدي الإمام فيها التعاون وفي الثالثة يأخذ الحسين (عليه السلام) موضع الهجوم ويتعرض لحكومة زمانه، فهو إنسان ثائر على السلطة في هذه الحالة، إن كل واحد من العوامل المذكورة كان ينطوي على واجب معين للحسين (عليه السلام) وعندما نقول بأن نهضة الإمام الحسين (عليه السلام) متعددة الحقائق فإن سبب ذلك هو أن الإمام (عليه السلام) كان واجبه الأول تجاه موضوع البيعة هو الرفض. ولو اختار ما أشار عليه ابن عباس من الذهاب إلى جبال اليمن لتحقق الرفض في ذهابه، ففي أدائه (عليه السلام) لهذا الأمر لم يكن من واجبه أن يطالب أحداً بالتعاون معه، أما بالنسبة للدعوة التي وجهها أهل الكوفة إليه فكان من واجبه الاستجابة لهم طالما هم بقوا على قولهم، وإذا نكثوا فلا شيء عند ذلك يلزم الإمام الحسين (عليه السلام) أمامهم، وتنتفي مسألة الخلافة في مثل هذه الصورة ويسقط الواجب عن الإمام (عليه السلام)، ولكن لماذا استمر الحسين (عليه السلام) مع ذلك في السير في هذا الطريق؟ إن هذا يدل على أن واجب الإمام (عليه السلام) لم يكن ينحصر في قضية الخلافة، فالدعوة التي وجهها إليه أهل الكوفة كانت عاملاً مؤقتاً، إذ سرعان ما وصله نبأ مقتل ابن عمه مسلم الذي بعثه رسولاً إلى أهل الكوفة وفي طريقه لاقى الحر بن يزيد الرياحي فانتفي بذلك موضوع دعوة أهل الكوفة، ومن هنا فلا تكليف على الإمام (عليه السلام)، وقد خاطب أهل الكوفة بقوله أنه قدم إليهم تلبيةً للدعوة التي وجهها له كما أكد لهم بأنه سيعود إن هم رفضوه، ولا يدل هذا إنه سيعود لتقديم البيعة ليزيد، لقد خاطب الإمام أهل الكوفة بقوله أنه لو فاضت به الأرض كلها فإنه لن يبايع يزيد، فهو لالتزامه بأداء واجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر قد جعل نفسه في موضع المهاجم وليس المدافع أو المتعاون أي إنه إنسان ثائر وله حسابه الذي يستحقه.
إن إحدى الأخطاء التي وقع فيها مؤلف كتاب (الشهيد الخالد) هو أنه أعطى أهمية زائدة عن الحد إلى عامل (دعوة أهل الكوفة) وكأنه العامل الرئيسي في نهضة الإمام الحسين (عليه السلام)، والحقيقة أن هذا العامل كما ذكرنا لم يكن الأهم، بل كان العامل الأصغر من حيث التأثير فلو صح اعتباره العامل الرئيسي لكان على الإمام (عليه السلام) بعد أن ثبت له عدم جدوى موضوع أهل الكوفة أن يتخلى عن كلامه ويستعد لتقديم البيعة ويترك الحديث عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، لقد كان الأمر الواقع بالعكس، إذ أن أكثر الخطب حماسةً وثورية وإثارة ألقاها الحسين (عليه السلام) بعد سقوط الكوفة بيد الأمويين، وهنا يثبت الإمام (عليه السلام) أنه يعمل كما يقتضي منه واجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وأنه يعتبر ذلك دافعه للهجوم، يعتبره أمراً ثورياً موجهاً لسلطة ذلك الوقت.
وكان الإمام الحسين (عليه السلام) يسير في طريقه إلى العراق فصادفه رجلان قادمان من الكوفة فاستوقفهما للتحدث إليهما ولكنهما حين عرفا بأنه الحسين (عليه السلام) حرفا سيرهما وانصرفا دون التحدث إليه. فعرف الإمام بأنهما لم يرغبا في الحديث. وفي هذه الأثناء يأتي أحد أصحاب الحسين (عليه السلام) الذي كان قد التقى بالرجلين اللذين حدثاه عن استشهاد مسلم بن عقيل وهاني بن عروة وأخبراه بأنهما استحيا أن يعلما الإمام بذلك، فيخبر هو الحسين (عليه السلام) بسقوط الكوفة بيد الأمويين ومقتل مسلم وجره في أزقة الكوفة جسداً بلا رأس، وما أن يسمع الإمام الحسين (عليه السلام) هذه الجملة الأخيرة تغرورق عيناه بالدموع ويأخذ بترديد الآية الكريمة، (مِنْ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ ...) وليس هناك ما يناسب هذا المقام غير هذه الآية الكريمة.
أراد الإمام (عليه السلام) أن يثبت للناس أنه لم يأتِ من أجل الكوفة فقط، فلو سقط هذا المصر فليكن ما كان، لأنه لم يبدأ حركته بدافع الدعوة التي وجهت إليه من قبل أهل الكوفة فقط، بل أن هذه الدعوة كانت إحدى عوامل الحركة نحو الكوفة، وأكد الحسين (عليه السلام) بأنه مكلف بواجب أهم وأكبر، فإن استشهد مسلم بن عقيل فقد أوفى هو بوعده ومضى مؤدياً ما عليه، وعلى الإمام (عليه السلام) أن يتابع نفس المسير.
ولأن الإمام (عليه السلام) كان قد اتخذ موضع الهجوم على السلطة الأموية وتابع هذا الطريق الثوري لذلك فإن منطقه يتميز عن منطق المدافع أو المتعاون، فمنطق المدافع لا يتعدى الحفاظ على ما يملك فإذا هاجمه اللص لأخذ هذا الشيء الثمين منه بصده عن ذلك، وقد يسقطه أرضاً ولكنه حالما يسترد حاجته من اللص يهرب بها حتى لا يأخذها اللص ثانية، بينما الإنسان المهاجم يرمي إلى القضاء على الخصم حتى ولو أدى الوصول إلى هدفه القضاء على حياته. إن منطق الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هو منطق الحسين (عليه السلام) منطق الشهيد وطريقه الذي آل أن يسير فيه.
إن منطق الشهيد يحمله من يريد إيصال ندائه إلى مجتمعه، هذا النداء الذي لا يريد أن يسطره إلا بدمائه، فكثير من الناس ممن كانوا يريدون أن يوصلوا نداءهم إلى الآخرين، فنحن نشاهد هنا وهناك في أطراف الدنيا وأكنافها آثاراً وحفريات قد خلفها فلان الملك أو فلان الرئيس، فأحياناً تخرج لنا عند التنقيب صخرة كتب عليها مثلاً: أنا فلان بن فلان، أنا الشخص الفلاني الذي فتح المكان الفلاني، أو أنا الذي فعلت كذا و كذا في المكان الفلاني، أو أنا الذي عشت كذا سنين في الدنيا وتزوجت بعدد كذا من النساء أو كم عشت وغداً في الدنيا، وأنا ... وأنا ... وكم...وكم، فمن هذا النوع من الكلام كثير وقد نقشوه على الصخور حتى يكون محفوظاً من الزوال، وهذه العبارات يغطي عليها التراب بعد أعوام طويلة، وبعد آلاف من السنين تخرج من التراب لكي توضع في المتاحف وتحفظ فيها وتبقى تراثاً للأجيال القادمة، أما الحسين (عليه السلام) فقد سجل نداءه المسطر بدمائه الزكية على صفحة الهواء الأبدية الاهتزاز، وقد نقش هذا النداء في قلوب الناس لأنه كان مقروناً بالدم فثبت في القلوب بلونه الأحمر القاني، فقلوب الملايين من الناس عرباً كانوا أم عجم، من الذين فهموا نداء الحسين (عليه السلام)، حين تسمع الإمام يردد هذه العبارات، تدرك نداءه إذ يقول: (إني لا أرى الموت إلا سعادة والحياة مع الظالمين إلا برما) أي أن الموت لمن يعيش في ظل الظلم والجور ولا يحصل من دنياه غير الأكل والشرب والنوم فقط وتحت ثقل الذل والهوان، أن الموت خير لهذا الإنسان من هذه الحياة المهانة بآلاف المرات. هذا هو النداء، نداء الشهيد!
لقد اختار الحسين (عليه السلام) موضع الهجوم على سلطة زمانه وكان منطقه منطق المتسابق على الشهادة، لقد أراد أن يبين للعالم أجمع هذا الرفض وهذا المنطق من صحراء كر بلاء، ولم يكن في حينه لدى الإمام (عليه السلام) لا قلم ولا قرطاس ليكتب نداءه ولكنه سجل النداء على صفحة الهواء الدائمة الاهتزاز، وقد خلد هذا النداء لأنه انتقل من صفحة الهواء إلى صفحات القلوب وأصبح عليها كالنقش لا يمحى إلى أبد الدهر، ففي كل عام وكلما يحل شهر محرم الحرام نرى الإمام الحسين (عليه السلام) يبزغ علينا نوره كالشمس الطالعة وتحيي ذكراه من جديد ويرن نداءه في الآذان إذ يقول: (خط الموت على ولد آدم مخط القلادة على جيد الفتاة وما أولهني إلى أسلافي، اشتياق يعقوب إلى يوسف) وكذلك قوله (عليه السلام): (ألا وأن الدعي ابن الدعي قد ركز بين اثنتين،
بين السلة والذلة وهيهات منا الذلة، يأبى الله ذلك لنا ورسوله والمؤمنون وحجور طابت وطهرت) ويعني الإمام (عليه السلام) بهذا الكلام ابن زياد الذي بعث إليه يخبره بين السيف والاستسلام الذليل، فأين الحسين (عليه السلام) من الاستسلام؟ هيهات فالله يأبى له ذلك ورسوله والمؤمنون.
هذا هو نداء الشهيد، إنه يدوي في الآذان، ما بقي الدهر، بأن الله ورسوله والمؤمنون لا يقبلون الذلة أبداً للعبد التقي المؤمن، فستتكلم الأجيال وسيتناقل المؤمنون نبأ مقاومة وصمود الحسين (عليه السلام) فلا أحد منهم سيرضى لو تنازل أو استسلم، فكيف يستسلم ويخضع للدعي ابن الدعي ابن زياد، هيهات ألف هيهات فقد تربى سبط الرسول (عليه السلام) في حجر الزهراء (عليها السلام) الطاهرة ورضع ذلك الثدي الزكي، فكيف يستسلم للذل مَنْ هذه صفاته؟
وكان (عليه السلام) حين غادر المدينة متخذاً رفض البيعة ليزيد سلاحه للهجوم على السلطة الجائرة في زمانه فقد كتب وصيته لأخيه محمد بن الحنفية وهو يقول فيها: (ما خرجت أشراً ولا بطراً ولا مفسداً ولا ظالماً، إنما خرجت لطلب الإصلاح في أمتي جدي ...).
في هذا المنطق الرافض المهاجم، منطق الشهيد، منطق نشر الثورة وتعميقها، نجد التبرير لأعمال قام بها الحسين (عليه السلام) ولا نجد في غير هذا المنطق أي مسوغ لهاتيك الأعمال.
وفي رسالته إلى أخيه محمد ابن الحنفية نجد ذكر طلب البيعة ولا نرى فيها أية إشارة لدعوة أهل الكوفة.
نعم ذلك الرفض القاطع هو منطق من يسعى حثيثاً إلى نيل الشهادة، فلو كان منطق الإمام (عليه السلام) نابعاً عن حب الدفاع عن النفس فقط، لكان من المنطقي أن لا يسمح في ليلة العاشر من محرم لأصحابه بالانصراف عنه، ولا يذكر شيئاً عن الاختيار بين البقاء أو الانصراف، نعم! لا يجوز ذلك، ففي الوقت الذي أتم الأمام (عليه السلام) الحجة على أصحابه وبين لهم بأنه هو المطلوب من قبل ابن زياد وجيشه لأنهم يريدون البيعة منه وحده، ويرومون قتله هو وجده لأنه يرفض أن يبايع التزاماً بواجبه الشرعي، حتى ولو كان ثمن الرفض القتل، فلماذا يرغم أصحابه على البقاء، ما زال هو الوحيد المطلوب؟ نعم الإمام (عليه السلام) يؤكد عليهم بأنه لا يجوز له إرغامهم على البقاء ويأمرهم بالرحيل عنه ولكن نرى إيثار الأصحاب، أصحاب الحسين إذ يرفضون جميعاً ترك الإمام وحيداً تأكله سيوف الأعداء، ويصرون على البقاء معه ويفضلون الاستشهاد دونه على الحياة بدونه، فيرفع الحسين (عليه السلام) يديه الكريمتين بالدعاء لهم، أن يجازيهم الله عنه خير الجزاء. لماذا؟ إن الأمر يتضح لنا عندما يبعث الحسين (عليه السلام) في ليلة العاشر من المحرم حبيب بن مظاهر الأسدي ويأمره بأن يأتي بعدد من أفراد قبيلته، فكم كان عدد أفراد هذه القبيلة؟ لنفرض أنه استطاع أن يجلب 50 أو 60 شخصاً، فماذا كان سيفعل هؤلاء أمام ثلاثين ألف من الجيش المعادي؟ هل كان بإمكانهم تغيير الأوضاع؟ كلا فالحسين (عليه السلام) أراد بذلك أن تتوسع رقعة الثورة فهذا هو منطق الثوار الرافضين، منطق الشهداء، لذلك نرى الإمام (عليه السلام) جاء بجميع أهله وعياله أيضاً لأنه أرادهم أن يكونوا رسلاً لثورته من بعده.
التعليقات (0)