الوصية زبدة الأفكار وخلاصة الآراء، تتجمع في وجدان الإنسان بعد تجارب عديدة في الحياة وعندما يثقل وزنها تنطلق من صدور أصحابها غنية بمادتها، مصيبة في أهدافها لأنها صادرة من عقل راجح وفكر طامح وشعور عميق وفكر دقيق.
وقد أثر عن حفيد النبوة وصايا كثيرة وجه بعضها لأبنائه وبعضها الآخر لأصحابه، وهي تزخر بآداب السلوك، وتفيض بالقيم العظيمة والمثل العليا الكريمة. قالها (عليه السلام) من أجل التوجيه الصالح الذي يصون الإنسان من الانحراف، والإرشاد الصحيح الذي يحفظ الأمة من الانزلاق في المتاهات المظلمة والمنعطفات الخطرة.
من هذه الوصايا الخالدة نذكر:
1 ـ وصاياه لولده الصادق. قال (عليه السلام):
(يا بني إن الله خبأ ثلاثة أشياء في ثلاثة أشياء: خبأ رضاه في طاعته، فلا تحقرن من الطاعة شيئاً فلعل رضاءه فيه. وخبأ سخطه في معصيته فلا تحقرن من المعصية شيئاً فلعل سخطه فيه. وخبـــأ أولياءه في خـــلقه فلا تحقـــرن أحداً فلعله ذلك الولي) يرشح من هذه الوصية الأخلاق العالية، والترغيب في طاعة الله تعالى والحث عليها، كما تتضمن التحذير من المعصية، والتشديد في أمرها، وأنهاها بالحث على تكريم عباد الله وعدم الاستهانة بأي أحد منهم. (فالخلق كلهم عيال الله وأقربهم إليه أنفعهم لعياله). ثم روى الإمام (عليه السلام) إحدى وصايا أبيه إلى سفيان الثوري فقال له: (يا سفيان أمرني أبي بثلاث، ونهاني عن ثلاث. فكان فيما قال لي: يا بني من يصحب صاحب السوء لا يسلم، ومن يدخل مداخل السوء يتهم، ومن لا يملك لسانه يندم، ثم أنشدني:
عوّد لسانك قول الخير تحظ به إن اللـــــــــــــسان لما عودت يعتاد
موكـــــل بتقاضي ما سننت له في الخير والشر فانظر كيف تعتاد
فتأمل هذه الوصايا التي تفيض الحكم الرائعة، وتحفل بجميع مقومات الآداب السلوكية والآداب الأخلاقية والفضائل الإنسانية.
2 ـ وصيته لعمر بن عبد العزيز:
عرف عمر بن عبد العزيز بعدله وتقواه فأزال الظلم عن كاهل المظلومين ومنع السب على المنابر عن أمير المؤمنين، وأعطى الحرية لجميع الناس ليتنفسوا الصعداء ويشكوا عن مضايقاتهم وظلاماتهم.
دخل مرة الإمام (عليه السلام) على عمر حينما ولي الخلافة فقال له: يا أبا جعفر أوصني فقال (عليه السلام):
(أوصيك بتقوى الله، وأن تتخذ صغير المسلمين ولداً، وأوسطهم أخاً وكبيرهم أباً، فارحم ولدك، وصل أخاك، وبرك أباك، وإذا صنعت معروفاً فربه).
فلما سمع عمر هذه الحكمة الجامعة بهر بها وأعجب وقال:
(جمعت والله ما إن أخذنا به، وأعاننا الله عليه استقام لنا الخير إن شاء الله)
فما أحوجنا نحن اليوم لمسؤولين يتحلون بهذه الصفات الكريمة، سياسة العدل والإنصاف لا سياسة المحسوبية والإجحاف. ما أحوجنا لرئيس يعتبر الأمة من أفراد أسرته، ويعاملهم كما يعامل الرجل أهله فيشيع فيهم الخير، ويبسط فيهم العدل. وعندئذ يسعد الشعب والحكومة معاً وتستقيم الأمور ويعم الخير. ولكن من أين لنا هذا الخير ومن حولنا مسؤولون همهم أنفسهم وتكديس الأموال على الأموال والشعب يرزح تحت أفدح الأحمال؟!
3 ـ وصيته لبعض أبنائه:
أوصى الإمام (عليه السلام) بعض أبنائه بهذه الوصية القيمة. فقال له: (يا بني إذا أنعم الله عليك نعمة فقل: الحمد لله وإذا أحزنك أمر فقل: لا حول ولا قوة إلا بالله، وإذا أبطأ عنك رزقك فقل أستغفر الله).
4 ـ وصيته لجابر الجعفي:
جابر بن يزيد الجعفي هو تلميذ الإمام الباقر (عليه السلام) أوصاه بهذه الوصية الخالدة والشاملة لجميع القيم الكريمة والمثل العليا التي يسمو بها الإنسان إلى أعلى المراتب الإنسانية فيما لو طبقها على واقع حياته. وهذا بعض ما جاء فيها من درر ثمينة.
(أوصيك بخمس: إن ظُلمت فلا تظلم، وإن خانوك فلا تخن، وإن كُذْبت فلا تغضب، وإن مُدحت فلا تفرح، وإن ذممت فلا تجزع. وفكر فيما قيل فيك، فإن عرفت من نفسك ما قيل فيك فسقوطك من عين الله عز وجل عند غضبك من الحق أعظم عليك مصيبة مما خفت من سقوطك من أعين الناس، وإن كنت على خلاف ما قيل فيك: فثواب اكتسبته من غير أن يتعب بدنك. واعلم بأنك لن تكون لنا ولياً حتى لو اجتمع عليك أهل مصرك، وقالوا: إنك رجل سوء لم يحزنك ذلك، ولو قالوا: إنك رجل صالح لم يسرك ذلك، ولكن اعرض نفسك على كتاب الله فإن كنت سالكاً سبيله زاهداً في تزهيده راغباً في ترغيبه، خائفاً من تخويفه فاثبت وابشر، فإنه لا يضرك ما قيل فيك، وإن كنت مبايتاً للقرآن، فماذا الذي يغرك من نفسك. إن المؤمن معني بمجاهدة نفسه ليغلبها على هواها، فمرة يقيم أودها ويخالف هواها في محبة الله ومرة تصرعه نفسه فيتبع هواها فينعشه الله، فينتعش، ويقبل الله عترته فيتذكر، ويفزع إلى التوبة والمخافة فيزداد بصيرة ومعرفة لما زيد فيه من الخوف وذلك بأن الله يقول:
(إن الذين اتقوا إذا مسهم طائف من الشيطان تذكروا فإذا هم مبصرون)يا جابر استكثر لنفسك من الله قليل الرزق تخلصاً إلى الشكر واستقلل من نفسك كثير الطاعة لله ازراء على النفسوتعرضاً للعوف، وادفع عن نفسك حاضر الشر بحاضر العلم، واستعمل حاضر العلم بخالص العمل، وتحرز في خالص العمل من عظيم الغفلة بشدة التيقظ، واستجلب شدة التيقظ بصدق الخوف، واحذر خفي التزين بحاضر الحياة، وتوق مجازفة الهوى بدلالة العقل، وقف عند غلبة الهوى باسترشاد العلم. واستبق خالص الأعمال ليوم الجزاء، وانزل ساحة القناعة باتقاء الحرص، وادفع عظيم الحرص بإيثار القناعة، واستجلب حلاوة الزهادة بقصر الأمل، واقطع أسباب الطمع ببرد اليأس، وسد سبيل العجب بمعرفة النفس، وتخلص إلى راحة النفس بصحة التفويض، واطلب راحة البدن بإجمام القلب وتخلص إلى إجمام القلب بقلة الخطأ، وتعرض لرقة القلب بكثرة الذكر في الخلوات، واستجلب نور القلب بدوام الحزن. وتحرز من إبليس بالخوف الصادق، وإياك والرجاء الكاذب فإنه يوقعك في الخوف الصادق، وتزين لله عز وجل بالصدق في الأعمال، وتحبب إليه بتعجيل الانتقال وإياك والتسويف فإنه بحر يغرق فيه الهلكى، وإياك والغفلة ففيها تتكون قساوة القلب، وإياك والتواني فيما لا عذر لك فيه فإليه يلجأ النادمون. واسترجع سالف الذنوب بشدة الندم، وكثرة الاستغفار، وتعرض للرحمة وعفو الله بحسن المراجعة، واستعن على حسن المراجعة بخالص الدعاء، والمناجاة في الظلم، وتخلص إلى عظيم الشكر باستكثار قليل الرزق، واستقلال كثير الطاعة، واستجلب زيادة النعم بعظيم الشكر، والتوسل إلى عظيم الشكر بخوف زوال النعم. واطلب بقاء العز بأمانة الطمع، وادفع ذل الطمع بعز اليأس، واستجلب عز اليأس ببعد الهمة، وتزود من الدنيا بقصر الأمل، وبادر بانتهاز البغية عند إمكان الفرصة، ولا إمكان كالأيام الخالية مع صحة الأبدان، وإياك والثقة بغير المأمون فإن للشر ضراوة كضراوة الغذاء. واعلم أنه لا علم كطلب السلامة، ولا سلامة كسلامة القلب، ولا عقل كمخالفة الهوى، ولا خوف كخوف حاجز، ولا رجاء كرجاء معين، ولا فقر كفقر القلب، ولا غنى كغنى النفس، ولا قوة كغلبة الهوى، ولا نور كنور اليقين، ولا يقين كاستصغارك للدنيا، ولا معرفة كمعرفتك بنفسك، ولا نعمة كالعافية، ولا عافية كمساعدة التوفيق، ولا شرف كبعد الهمة، ولا زهد كقصر الأمل، ولا حرص كالمنافسة في الدرجات، ولا عدل كالإنصاف، ولا تعدي كالجور، ولا جور كموافقة الهوى، ولا طاعة كأداء الفرائض، ولا خوف كالحزن، ولا مصيبة كعدم العقل، ولا عدم عقل كقلة اليقين، ولا قلة يقين كفقد الخوف، ولا فقد خوف كقلة الحزن على فقد الخوف، ولا مصيبة كاستهانتك بالذنب، ولا رضاك بالحالة التي أنت عليها، ولا فضيلة كالجهاد ولا جهاد كمجاهدة الهوى، ولا قوة كرد الغضب، ولا مصيبة كحب البقاء، ولا ذل كذل الطمع، وإياك والتفريط عند إمكان الفرصة فإنه ميدان يجر لأهله بالخسران).
وتابع وصيته لجابر:
يا جابر إنه من دخل قلبه صافي دين الله أشغله عما سواه، يا جابر ما الدنيا وما عسى أن تكون، هل هي إلا ثوب لبسته، أو لقمة أكلتها، أو مركب ركبته، أو امرأة أصبتها.
يا جابر: إن المؤمنين لم يطمئنوا إلى الدنيا لبقاء فيها، ولم يأمنوا قدوم الآخرة عليهم، ولم يصمهم عن ذكر الله ما سمعوا بآذانهم من الفتنة، ولم يعمهم من نور الله ما رؤوا بأعينهم من الزينة، ففازوا بثواب الأحرار، إن أهل التقوى أيسر أهل الدنيا مؤونة وأكثرهم لك معونة، إن نسيت ذكروك، وإن ذكرت أعانوك، قوالين بحق الله، قوامين بأمر الله.
هذه الوصية الرائعة الحافلة بجواهر الحكم أضاءت جانباً كبيراً من مواهب الإمام (عليه السلام) وعبقرياته، ولو لم تكن له إلا هذه الوصية لكفت على الاستدلال على عظمته وما يملكه من طاقات علمية لا حدود لها.
لقد نظر حفيد رسول الله (صلّى الله عليه وآله) إلى أعماق النفوس البشرية وحلل أبعادها وسبر أغوارها، وعرف ما ابتلى به الإنسان في ذلك العصر من آفات وأمراض خبيثة كالجهل والطمع والغرور والكبرياء والجشع… وما إلى ذلك مما دفعه إلى الإغراق في المعاصي واقتراف الآثام والانحراف عن طريق الحق، طريق الإسلام القويم.
درس الإمام هذه الأمراض الأخلاقية والاجتماعية فوضع لها العلاج اللازم والدواء الحاسم. ولكن هل يلتزم الإنسان بهذه الوصفة الطبية؟ إنه لو التزم بها لعاد إنساناً مثالياً في سلوكه وأخلاقه يصون نفسه من الانزلاق في متاهات الدنيا الفانية، ويتصل بخالقه العظيم الذي إليه مرجعه ومآله.
والآن من المواعظ القيمة إلى الحكم العظيمة والمواعظ الخالدة.
التعليقات (0)