أفرز حدث انتصار الثورة الإسلامية في إيران في فبراير 1979 مادة جديدة أضيفت للجدليات القائمة حول مفهوم الدولة وبنيتها والعلائق المتعددة فيها ومدى إمكانية التوصل إلى أفضل المناهج المفضية إلى حالة مدنية متراكمة ودافعة نحو ضبط التواصل بين قمة الهرم وقاعه، ومن ثم وضع المحددات لمراكز القوى والخيط الرفيع الجامع بينها، ورغم الجدل الواسع الذي رَشَحَ أيضاً عن انتصار الثورة وما أفرزته من أفهام جديدة إلاّ أنها كانت حَدَثاً عجيباً، كما يقول فوكو " من أجل إسقاط نظام ما نحتاج إلى أكثر من هذه العواطف الجيّاشة في القرن العشرين، نحتاج إلى سلاح، إلى مركز قيادة، إلى تنظيم وإلى دعم لوجستي ولكن ما حدث في إيران جعل المراقبين في حيرة من أمرهم، فلا توجد في الثورة تأثيرات صينية ولا كوبية ولا فيتنامية، بل هو زلزال بحري بدون جهاز عسكري، بدون طلائع وبدون حزب " كان فوكو يرى بأن الثورة الإسلامية هي أول ثورة ما بعد الحداثة في عصرنا الحاضر أو بعبارة أخرى أول تمرد كبير ضد الأنظمة الأرضية .. وأحدث أشكال الانتفاضة (1) " قارئاً لها من خلال (أ) النموذج المادي الفيزياوي والتنظيم أو ثنائية نهاية بنية مشاريع الحكومات الإنسانية (ب) تمرد المعارف والعلوم المنقادة والمحلية على الحقائق الغالبة المستقرة والمصدَّق بها (2) بالإضافة إلى الروحانية والمعنوية الدينية التي هي بمثابة تقنية ونهج لبناء القدرة وفرضها من الأسفل (ج) الإبطال النسبي لتقنيات السلطة (3) .
أضف إلى ذلك فإن الثورة الإسلامية ألغت النظريات ذات العلّة الواحدة في مجال دراسات علم الثورة (4) كنظرية الصراع الطبقي (كارل ماركس) والتضامن الاجتماعي (ميل دوكهايم) والكريزما والتحرك الاجتماعي (ماكس فيبر) والواقعية السياسية (ويلفردي بارتو) ونظرية علم النفس الفردي (دوتوكيل)، كما لم تتسق إرهاصاتها ولا حركتها مع النظرية البنيوية (تيدا سكاج بل) التي ترى أن أهم عوامل الثورة هي العوامل البنيوية لعجز السلطة وعدم فاعليتها والعوامل الدولية والظروف الاستثنائية والتضاد الحاصل بين البنية العامة وبين الطبقات الاجتماعية – الاقتصادية للدولة، وكان أبرز تضاد بين أحداث الثورة وتلك النظرية هو أن الثورة لم تكن ثورة أرياف وقرويين بل كانت الآيدلوجيا والتعبئة والقيادة الصبغة الغالبة على ذلك (5) . وما زاد من أهمية الحدث هو أن المطروح ليس تطويراً لتجربة عاملة وإنما هو نفض لغبار عن كم هائل من التراكمات النظرية الممتدة إلى أزمنة سحيقة من تاريخ الإسلام الأوّلي الذي لم تحالفه الحظوظ لأن يقيم دولة منذ قرون خلت، وأهم ما استُجلِبَ من تلك النظريات هي نظرية ولاية الفقيه الذي أسَّسَ لها سبط بن الجوزي قبل تسعمائة عام وعمِل بها الشيخ علي بن عبد العالي الكركي (940 هـ) والمحقق الأردبيلي (993 هـ) في أتونِ قيامِ الدولةِ الصفوية ثم نظّرَ لها أكثر الشيخ أحمد النراقي (1248 هـ) وكلهم كانوا يُجمعون على ضرورة استحصالها المقبوليةِ والبيعةِ لكي تكتمل ويتحقق بذلك انبساط اليد للحاكم . وإذا كان النظام المُفرَز هو طارئ على مفاهيم الدولة الحديثة (هكذا يُفهم على الأقل) إلاّ أن عملية التنظير والتشذيب له والموائمات قد بدأ سلفاً وإن بشكل بدائي في حلقات دروس دينية بمدينة النجف الأشرف في العراق منذ منتصف الستينات من القرن الماضي، ورغم أن ذلك الطرح كان جديداً على الأوساط الدينية إلاّ أنه لم يحظ باهتمام جدِّي من قِبَل رجال الدين فضلاً عن أرباب السياسية المدنيين، ربما بسبب انزواء فكرة الدولة الدينية إلى الظل، أو انغماس تلك الأطراف في الثقافة الدينية الكلاسيكية . ورغم أن الجمهوريانية كمقولة تخيلية وثقافية دخلت الأدب السياسي الإيراني منذ ما يقرب من 150 عاماً (6) إلاّ أن تمثّلها في الواقع لم يكن متجذراً أو خليقاً حتى بعد الحركة الدستورية مطلع القرن العشرين الأمر الذي دفع بالإمام الخميني لأن يعتقد بأن إقامةَ إمارةٍ دينيةٍ يحكمها أميرٌ للمؤمنين أو دولةِ العدلِ الإلهي الذي يحكمها الفقيهُ بلا سلطاتٍ ثلاث هو ضربٌ من الجنون، وإن إقامة نظام يتسع لأفهام الدين ( المرنة ) والسياســة ( الممكنة ) بتركيبة جمهو/إسلامية هو أنجع الطرق وأفيدها للإستمرار، مع ديمومة تحديث الأطر والهياكل المسلكية الثورية وتحويلها إلى أجهزة إدارية عاملة . فالحكم من المنظور الإسلامي لا ينبثق من موقع طبقي أو من سيطرة مجموعة أو فرد وإنما هو تبلور قضية سياسية لمؤمنين وأمة تنظّم نفسها كي تمهد طريقها في عملية تغيير مفاهيمي وعقائدي نحو القضية المطلقة (7) لذا فإننا نرى العلائق الموضوعة دستورياً لم تحصر المناصب التنفيذية بيد رجال الدين، وإذا كانت الصورة البائنة بفقاعة عن المشهد السياسي الإيراني هي تصدّر رجال الدين للعمل السياسي الرسمي والإجرائي فمردّ ذلك إلى عُرفٍ ساد بعد سقوط حكومة الأفندية (بازركان وبني صدر) كما أنه ورغم أن دستور الجمهورية الإسلامية مثل بعض الدساتير المختلطة القديمة، إلاّ أن النظام السياسي يتمتع ببعض الخصائص الآيدلوجية والبنيوية للدولة كلية السلطة من جهة وببعض السمات الديمقراطية الكامنة من جهة أخرى (8)
ولاية الفقيه .. وثنائية الجمهورية والإسلامية
إن مقولة الديمقراطية الدينية أمر يعني الجمهور والأكثرية الديمقراطية من جانب والدين من جانب آخر تحت يافطة ولاية الفقيه باعتبارها المحور الديني المفترض؛ وإن ثنائية ولاية الفقيه والديمقراطية الشعبية تبدو في ظاهرها وكأنها إشكالية أو مفارقة أو تناقض، حيث يظهر السؤال التالي : إذا كان المَلاك أو المعيار هو الأكثرية فأين يصبح حكم الله إذاً ؟ وإذا كان حكم الله هو المعيار فما هو مصير الأكثرية إذاً ؟ هذا هو الظاهر بشكلٍ أوّلي، هذه القضية ليست خاصة بولاية الفقيه والديمقراطية، فأي نظامٍ آخر دينيٍ أو غير ديني بل أي أيديولوجية تضعها مقابل الديمقراطية يمكن أن تحدث لديك المفارقة نفسها أو تطرح الإشكالية ذاتها؛ بمعنى إذا اعتُبِرَ الشعب أو الأكثرية المعيار فأين سيصبح مصير الأيديولوجية ؟ وإذا وضعت الأيديولوجية بالمقابل فأين تضع الناس ؟ إن نقطة التضاد تبدأ وتظهر عندما نتصور أو نفترض أن الناس يقولون شيئاً والأيديولوجية تقول شيئاً آخر، إن التناقض أو المفارقة ليست منحصرة في ثنائية ولاية الفقيه والجمهورية، وهذه الثنائية يمكن أن تنطبق على أي نظام أيديولوجي يريد أن يتضمن في داخله نهج الديمقراطية، حتى في نظام الديمقراطية الليبرالية سيظهر مثل هذا التناقض ذلك لأن الديمقراطية الليبرالية تضع قيداً ليبرالياً على النهج الديمقراطي، فإذا ما قالت القيم الليبرالية بشيء والديمقراطية بشيء آخر لمن ستكون الأولوية ؟ وهنا يتم الاعتقاد أن الديمقراطية المطلقة لا وجود لها في الدنيا أبداً، ذلك لأن الديمقراطية المطلقة ستؤول لا محالة إلى ديكتاتورية الأكثرية، في أسبانيا 80% منهم مثلاً قرروا إخراج الباسك من البلاد، أو في العراق اليوم وفي ظل الظروف العالمية التي نمر بها إذا ما قررت الأكثرية فيه تهميش الأقلية أو عزلها أو إخراجها من اللعبة أو إذا ما قالت الأكثرية في السعودية بتهميش الشيعة فإن الديمقراطية كمنهج لا يمكن لها أن تجد حلاً لمثل هذه المعضلة، فالديمقراطية هنا تبدو ظاهرياً مطبقة حسب القيم المتعارف عليها للديمقراطية وعليه إذاً لابد من وضع ضوابط للديمقراطية حتى نضمن عدم ظهور ديكتاتورية الأكثرية .
هذه الضابطة يمكن أن تكون هي الليبرالية لمن يؤمن بالليبرالية والاشتراكية لمن يعتنق المذهب الاشتراكي، الديمقراطيون الاشتراكيون يعتقدون بأن الاشتراكية ضابط مكمّل للديمقراطية فيما يعتقد آخرون بأن الدين هو الخيار، أي أن الدين يصبح هو الحل للمشكلات الديمقراطية الداخلية، إذاً يمكننا القول بأن ربط الديمقراطية بقيد أو ضابط أمر لابد منه ولا يوجد هناك حتى في جمهورية أفلاطون (والتي كانت البداية في هذا المضمار) أن العقل في المدينة الفاضلة كان هو القيد الذي وُضِع للتجربة الأفلاطونية، إن ولاية الفقيه تعتبر رمزاً للهوية الدينية ووجود الفقيه ضماناً لدينية الديمقراطية، وما التناقض الظاهر إلاّ بسبب عدم فهم مقولة لا جبر ولا تفويض إنما أمر بين الأمرين، وإن رأي الناس والجمهور إنما يأتي في سياق وعلى امتداد رأي القيم الدينية، ولما كان المسلمين يعتقدون بأن الدين من عند الله لذلك تراهم يعتقدون بأن وجود الدين في المجتمع والحكومة الدينية من الثوابت التي ينبغي عدم التخلي عنها ولما كانت ولاية الفقيه هي الضمانة لهذا الوجود فإنها تصبح عندئذ من الثوابت، مع الفارق ما بين الحكومة الدينية للإمام الخميني مع الحكومة الدينية لطالبان أو الاتجاه السلفي وذلك لدور الزمان والمكان في الاجتهاد الخميني (9) . وكان الأخير إلى جانب ذلك يعتقد بقوة أنه من خلال نظرية ولاية الفقيه يمكن العودةُ إلى علاقةِ الثابتِ بالمتغير أو الشريعةِ بالواقع وهي التي تحاكيها التحدياتُ المعاصرة من مناحي مختلفة، تبَعاً لنفوذ الإطار العلمي الغربي مرة أو ارتباطاً بمحاولاتِ التجديد والتحديث التي تتطلع إليها إنتلجنسيا العالم الإسلامي مرة أخرى، وعليه يمسي دور المرشد الأعلى في إيران جوهرياً ومحورياً، في عقلنة التجاذباتِ الحادة التي تفرزها نزعاتُ الجمودِ أو التجديد، التأصيلُ والتحديث، ذلك أن الحراك الاجتماعي والمعرفي الحيوي الذي تحياه البشرية لا يمكن اختزالُه في مغامرةٍ فكريةٍ خالصة، أو صراعٍ سياسيٍ مباشر لأنها حالةٌ تاريخيةٌ متعددةُ الأبعاد، تغدو مصلحةُ الأمة أحدَ أهم أبعادِها وأكثَرِها حضوراً، من هنا تتبين ضرورةُ الإنشدادِ والركون إلى موقع الولاية بوصفهِ الوازنُ لتقاطبِ المفاهيم والمصالح (10) .
موقعية المرشد الدستورية
ينص دستور الجمهورية الإسلامية على أن المرشد أو القائد هو أعلى سلطة في إيران، وقد منحه الدستور صلاحيات كبيرة، كما نصت المادة (5) من الدستور الإيراني على أن ولاية الأمة في ظل استتار الإمام الثاني عشر (في الاعتقاد الإمامي) تؤول إلى أعدل وأعلم وأتقى رجل في الأمة، ليدير شؤون البلاد وفق ما جاء في المادة (107) من الدستور، ونصت المادة نفسها على تساوي المرشد مع عامة الناس أمام القانون، حيث أنه مُراقب من قِبَل مجلس الخبراء ومن قبل السلطة القضائية فيما يتعلق بأمواله وأموال عائلته، وبعد وفاة الإمام الخميني في يونيو / حزيران من العام 1989 انتخب مجلس خبراء القيادة (المنتخب) آية الله علي خامنئي ولياً للفقيه، وقد أعطته المادة 110 من الدستور صلاحيات كبيرة باعتباره ركن دينية النظام، وفي سبيل إيجاد مُسببات الحصول على المرشد الصالح فقد دأب الإمام الخميني في بحوث الحكومة الإسلامية على التأكيد بأن شَرطَي العلم والعدالة يجب أن يتوفرا في الولي الفقيه، لكي يُحيلانِ كفايته إلى كفايةٍ ذاتية والضوابطُ إلى ضوابطَ داخلية بالإضافة إلى الضوابط الخارجية كمراقبة السلطة القضائية لأمواله وأهل الحل والعقد لإدارته وتصريفه للأمور، بدلاً من التعويل على كفايات وضوابط خارجية صرفة قد تتخللها تأثيرات مادية أو معنوية تُبطل عملها وغايته، وحيث أن تنفيذ الأحكام الإلهية والعدل يتماثلان ويندرجان في دائرة واحدة، فإن ذلك يعني أن تنفيذ الأحكام الإلهية وخدمة الناس يشكلان قاعدة ممارسة السلطة في فكـر الإمام الخميني، وهو ما أوجد مبدأ فلسفي مؤصل متماهٍ مع قِيَم المجتمع وتستمد منه السلطة مبررات تأسيسها واستمراريتها (11) .
أضف إلى ذلك فإن فكرة أن الولي الفقيه وبحسب الفقه السياسي (الشيعي) غير مقيّد بالأخذ بالأحكام الأولية والثّانوية، بل له حكم ولائي مستقل، في عرض الأحكام الأولية والثانوية ناشئ من الخلط بين الأحكام التشريعية والأحكام الإجرائية، كما أن الفقه السياسي لا يقول بأن الحاكم ليس له حكم ولائي بل هو ثابت له، ولكنه ليس في عرضهما بل في طولهما، فالأحكام الأولية كوجوب الصلاة والزكاة والجهاد، والثّانوية كنفي الضرر والحرج ولزوم حفظ النظام، أحكام كلية إلهية، وقوانين عامّة شرعية، وأمّا الحكم الولائي حكم جزئي من ناحية الحاكم، يحصل من تطبيق القوانين الكلية الإلهية على مصاديقها الجزئية، فالفقيه الذي يحكم بأن التدخين بالتنباك في هذا اليوم بمنزلة الحرب ضد الإمام المهدي – عند الشيعة- ( وهي فتوى السيد محمد حسن الشيرازي في القرن الثامن عشر ) ينظر إلى حكم كلي، وهو أن كلّ شيء يكون سبباً في إضعاف المسلمين، وكسر شوكتهم، فهو بمنزلة المحاربة له واستعمال التنباك في ظروف خاصة كان بنظر الفقيه الجامع لشرائط الحكم وبحسب رأيه الصائب مصداقاً لذلك، فيحكم بهذا الحكم الولائي باتاً، وإذا ارتفعت العلّة الموجبة له يحكم بجوازه لتبدل موضوعه (12) ومع وجود تلك الفلسفة للأحكام وما تفرزه من أنشطة مباشرة وواسعة للمرشد إلاّ أن ولاية الفقيه ذاتها تواجه أربعة شروط مقيِّدة في الدستور الإيراني :
• المبادئ والوصايا الإسلامية (المادة 4) .
• القوانين المسنونة (المادة 107) .
• سيادة الناس الممنوحة من الله على مصيرهم الاجتماعي (المادة 156)
• متطلبات البنية الجمهورية (13)
مقاربات قانونية في صلاحيات المرشد
وباعتبار أن المُسمى الرسمي للدولة في إيران هو الجمهورية الإسلامية فقد وجب إيجاد مقاربات قانونية ودستورية بين ما أفرزته الثورة الإيرانية ومع ما هو سائد من فقه الدولة الحديث والذي بدأ بشكل مؤسساتي متدرج منذ الثورة البيضاء في القرن السادس عشر ببريطانيا ومررواً بالثورة الفرنسية 1789 وكذا فترة صياغة الدستور الأمريكي بعد الحرب الأهلية في القارة الشماليـة . وفي ذلك ومن خلال قراءتنا للتجربة الإيرانية يُمكن الوقوف أمام المعطيات التالية :
إن حكم وإدارة شؤون البلاد في إيران يعتمدان على أصوات الجمهور (المادة 6 من الدستور) وعلى انتخاب القائد بصورة غير مباشرة وانتخاب رئيس الجمهورية من جانب الشعب (المادة 114) كما أن تشكيل الوزارة يخضع للتصويت بالثقة من جانب البرلمان (المادة 123) وفترة حكم الرئيس قابلة للتجديد لمرة واحدة وولاية الوزارة تمتد للفترة نفسها (المادة 114) كما يتساوى القائد مع أشخاص آخرين أمام القانون (107) وأن السلطات الأخرى لا تتمتع بأي امتياز مقارنة بالآخرين، ويُحاسب الدستور على المسؤولية السياسية (إلى حد الاتهام بالتقصير) وعلى المسؤولية القانونية (إلى حد المحاكمة والإدانة) للقائد (المادتين 111 و 143) (14) وهي خصائص تتماثل وخصائص الديمقراطية .
في الأنظمة الغربية وبالتحديد تجربة النظام السياسي البرلماني الذي ساد منذ القرن السادس عشر حول ثنائية الجهاز التنفيذي بين رئيس الدولة والوزارة فإنه قد خضع للمسألة العرفية بشكل مفرط حيث أن رئيس الدولة الذي يُشار إليه بأنه يسود ولا يحكم باعتباره لا يمارس الوظيفة التنفيذية قد احتفظ لنفسه حق تعيين الوزارة وعزلها وحق حل المجلس النيابي المنتخب وأخرى متعلقة بعمل السلطتين التنفيذية والتشريعية في مسائل الوحدة والتضامن والتجانس والانسجام ومظاهر الرقابة المتبادلة من حق السؤال والاستجواب وحق إجراء التحقيق، فالمرجعية الرئاسية العليا في الأنظمة متمثّلة في الرئيس وبالتالي فهو الذي يضع السياسات العامة للدولة ويشرف على تنفيذها وينظم ويراقب أعمال الإدارات العامة ويتولى القيادة العليا للجيش ويباشر السياسة الخارجية دون أن يكون لوزراء الدولة استقلالية في مواجهته بل هو الذي يعينهم ويعزلهم ويخضعون له خضوعاً تاماً ويستمدون سلطاتهم واختصاصاتهم منه وتكون مسئوليتهم عند تنفيذهم للسياسة العامة أمامه وحده، كما أن النظام الرئاسي في حيثية التوازن والرقابة أعطى رئيس الجمهورية حق الاعتراض على القوانين التي يشرعها البرلمان وهو ما يُسمى بحق الاعتراض التوقيفي المؤقت .
وفي الولايات المتحدة الأمريكية فإن طابع الرئاسة قد اتسم بالتباين إلى حد ما مع ما هو سائد في أوربا، فالرئيس الأمريكي من حقه عزل كبار قضاة المحكمة العليا، وهو قائداً أعلى للجيش سواء في زمن السلم أو في زمن الحرب وبهذه الصفة يستطيع الرئيس إدخال القوات المسلحة في عمليات حربية دون أن يسبقها إعلان حرب رسمي من قِبَل الكونغرس وهو ذات الأمر الذي فعله الرئيس روزفلت في الحرب العالمية الثانية وترومان في حرب الكوريتين وجونسون في فيتنام (الولايات المتحدة ومنذ استقلالها دخلت أكثر من 130 حرب لم تأخذ موافقة الكونغرس سوى في ست حروب منها) .
بالإضافة إلى كل ذلك يتمتع الرئيس بصلاحيات واسعة جداً تُخوله مصادرة الأشخاص والأموال بحجة الدفاع الوطني، وهو مارأيناه ( ونراه ) جلياً بعد أحداث الحادي عشر من أيلول / سبتمبر، كما أنه يستطيع أيضاً عقد اتفاقيات دولية دون الرجوع لمجلس الشيوخ وذلك بصيغة اتفاق تنفيذي Executive Agreement وفي مجال القضاء أقرّ الدستور الأمريكي أن للرئيس حق إصدار العفو العام عن الجرائم وله حق إلغاء العقوبة الجنائية أو تخفيضها أو وقف تنفيذها، كما يملك حق العفو الشامل بأن يرفع عن الفعل وصف الجريمة لمن شملهم الإعفاء وهو تخويل نادر جداً في الأنظمة الغربية، وفي المجال التقنيني خُوِّلَ للرئيس حق التدخل في النشاط التشريعي للكونغرس من ناحيتين :
1. حقه في أن يقدم توصيات تشريعية من خلال إخطاره للكونغرس بحالة الاتحاد العام من وقت لآخر .
2. حق الرئيس في استخدام الاعتراض التوقيفي على القوانين التي يقرها الكونغرس (15) .
الخلاصة :
إن ائتلاف الجمهورية مع الإسلامية في نظام سياسي قد لا يكون موفقاً بدون براغماتيا الاستخدام والتوظيف المتعدد وإيجاد التفسيرات الملائمة التي لا تضرّ بالمصالح المباشرة ولا تخدش الآيدلوجيا، وهو بالتحديد ما توصّل إليه مجلس صيانة الدستور عندما شرّع ضمن لوائحه الداخلية أن القوانين المُقرَّة من السلطة التشريعية لا يتوجب أن تتطابق مع الإسلام بل يكفي أن لا تتعارض معه .
________________________________________________
المصادر :
(1) فوكو، القائد الأسطوري للثورة الإسلامية ص 74 .
(2) Foucaulf M. Discipline And Punish, 1986
(3) المصدر السابق .
(4) الدكتور عبد الرحيم عويضي، نظرة على الثورة الإسلامية كظاهرة، مجلة التوحيد العدد 113 ربيع 1425 – 2004 ص 60 .
(5) المصدر السابق .
(6) (سعيد حجاريان .. الجمهورية إطار لمضمون الحرية" صن لايت منثلي العدد 13 آذار مارس 2002 ص 4.
(7) (مصطفى رحيمي، مبادئ الحكومة الجمهورية (طهران : منشورات أمير كبير 1979 ص 7 – 8 ) .
(8) (حسين بشيرية، إسهام في علم الاجتماع السياسي الإيراني، مرحلة الجمهورية الإسلامية (طهران : كونتمبورري أوتلوك بابليكاشن 2002 ص 50 – 51 ) .
(9) أنظر مقابلة مع حسن الخميني حفيد الإمام الخميني في قناة الجزيرة بتاريخ 08 فبراير 2005 .
(10) alwelayah.net/Alfikeralislami/derasat/050-001/31/31.htm
(11) alwelayah.net/Alfikeralislami/derasat/050-001/31/31.htm
(12) موقع دار الولاية نت .
(13) ( محمد حسين حافظيان، فصلية إيران والعرب العدد 10 – 11 شتاء 2005ص 17 ) .
(14) محمد هاشمي، القانون الدستوري لنظام جمهورية إيران الإسلامية : مبادئ عامة وأسس النظام، المجلد 1 (طهران : جامعة الشهيد بهشتي، 1995 ص 54 ) .
(15) أنظر القانون الدستوري للدكتور محمد المشهداني، القاهرة 2002 .
التعليقات (0)