شارك هذا الموضوع

أبو يعرب مات مغموماً .. والدور السوري بِيْعَ بأرخص الأثمان

أبو يعرب مات مغموماً ..
والدور السوري بِيْعَ بأرخص الأثمان


طلقٌ ناري في سقف الحنك من الزاوية الخلفية من مُسدس سميس ويسون عيار 38 ملم يُحدث نزيفاً غزيراً وجُرحاً مشرشراً وكسوراً في الجمجمة وسقف الحنك خرجت على إثره مادة دماغية أدت إلى وفاة وزير الداخلية السوري اللواء غازي كنعان (63 عاماً) في الساعة الحادية عشرة والربع من صباح يوم الأربعاء الموافق 12 أكتوبر الجاري بمكتبه في مبنى وزارة الداخلية .


أياً تكن الأسباب والدواعي التي دفعت أبا يعرب للإقدام على قَتْل نفسه؛ فإن مسألة تشريح شخصيته وإعادة قراءتها من خلال موضوعة التواجد السوري في لبنان وما قام به من دور سكون أفيد، ثم أقرب إلى الاتزان ومجانبة المواقف الحدّية، فالرجل ارتبط اسمه بتاريخ الوجود السوري في لبنان منذ العام 1982 وحتى العام 2002، وبالتحديد في المواجهة اللبنانية السورية المشتركة في مواجهة الجيش الإسرائيلي في جنوب ووسط لبنان، ثم ارتبط أكثر بمعركة الجبل عام 1983 وفي انتفاضة 06 شباط 1984 وفي إسقاط اتفاق 17 آيار مايو وفي معركة سوق الغرب في العام 1989 وإنهاء ظاهرة الحكومة العسكرية العونية والتمهيد لإنزال اتفاق الطائف على الحالة السياسية اللبنانية، ومن ثم التمديد للرئيس إلياس الهراوي في العام 1995 .


الوجود السوري في لبنان سواء العسكري منه أو السياسي كان مثار جدل واسع بين أوساط اللبنانيين بعد العام 2000 ثم زاد بعد التمديد للرئيس لحود في سبتمبر 2004 وسبقهم في ذلك الإسرائيليون الذين بدأوا ينظرون إلى ذلك الوجود باعتباره خطر استراتيجي يواجه الدولة العبرية، لما تقوم به دمشق من دعم للجيش اللبناني وتأمين حركة حزب الله العسكرية واللوجستية . كان السوريون يُنفقون أكثر من سبعين مليون دولار سنوياً على قواتهم المرابطة في الأراضي اللبنانية والبالغ عددها زهاء أربعين ألفاً، بالإضافة إلى الأجهزة الأمنية والمخابراتية العاملة هناك والتي تبلّغت كُلفتها السنوية مائة مليون دولار، ولكي لا نسير في ركب الباخسين فإنّ القوات السورية أدت دوراً محورياً في وقف نزيف الدم اللبناني، وهي حقيقة لا يُمكن لأحد نُكرانها .


ففي أتون الاجتياح الإسرائيلي للبنان في العام 1982 سقط ستة آلاف جندي سوري، بالإضافة إلى فقدانها العديد من عتادها الجوي، وقبلها خاضت قواتها معارك شرسة في الضواحي الشرقية للعاصمة بيروت عام 1978، وفي طرابلس الشرق عام 1983 ضد القوات الإسرائيلية ولإنهاء ظواهر مسلحة يقودها أمراء الحرب من الميليشيات المستأسدة ضد بعضهم وضد الفلسطينيين الذين حاربتهم فيما بعد في سياق العداء مع منظمة التحرير .


كما أن سوريا سيَّجَت حزب الله وحمته من الضغوط الدولية وحفظت المقاومة في لبنان وسمحت للسلاح الإيراني المتدفق بالعبور إليها حتى تحرر الجنوب اللبناني، طبعاً هذا ليس شعاراً انتخابياً بل هو حقيقة واقعة، السوريون كانوا يحمون 10425 كم من مساحة لبنان وخِلجان عكار وجونية ومار جرجس، ومرافئ بيروت وطرابلس وصيدا وصور والزهراني وجبيل، وليُسأل أي لبناني : من كان يستطيع في لبنان أن يُؤمّن خروج ودخول البضائع والسلع في أحلَك الظروف والأوقات التي عاشها البلد، ومن الذي كان يملك القوة لإنهاء حرب طائفية أهلية حارقة أنست من قبلها وأتعبت من بعدها .


 الأكيد أن إسرائيل كانت تريد أن تجعل من لبنان بلداً (كسيحاً) غير قادر على لعب دور في المنطقة، وقد حاولت تطبيق تلك الرؤية من خلال غارات جوية متقطعة لأهداف حيوية كشبكات الكهرباء والماء وغيرها كالتي استهدفتها في عملية عناقيد الغضب، وكان الوجود السوري يُحاول جاهداً أن يحدّ من تلك النوايا ما أمكن .


السوريون خَسَروا الكثير في لبنان، والعُملة السورية تضررت بما فيه الكفاية، وميزانية الدفاع استمرت على مستوى ستين بالمائة لبلد يعيش في أحشائه 17 مليون إنسان له من المتطلبات الكثير، لذا فإن المعاملة التي عُومِلت بها سوريا عقب اغتيال رفيق الحريري وبعد انسحابها من الأراضي اللبنانية من قبل بعض الأحزاب والشخصيات اللبنانية هي معاملة غير مسؤولة، وإن تسليط الإعلام لضرب دمشق في ظرفها الحالي العصيب هو موقف انتهازي واستعدائي، وإن اختزال الوجود السوري طيلة العقود الثلاثة الماضية في مجموعة اتهامات دون الرجوع إلى ما قامت به دمشق من أجل لبنان هو موقف مُجانب لحقيقة ما كان، وليكف المشاغبون عن التلويح بقميص التمديد ووصاية سوريا على الحكم السياسي اللبناني وكأنه سُبّة وعار لا يُغتفر، كما أن عليهم ألاّ يبتروا ذاكرتهم إلى هذا الحد الهزيل، فلبنان ومنذ عشرينيات القرن الماضي تحكّم فيه الفرنسيون بما فيه الكفاية بدءً برئيس الدولة وحتى أصغر موظفي القصر، وحتى بعد الاستقلال في العام 1943 كان رؤساء لبنان يأتون طبقاً لرغبات إقليمية ودولية، فبشارة الخوري وكميل شمعون اختارهما الإنجليز، وفؤاد شهاب جاء باتفاق أنغلوساكسوني مصري وشارل الحلو بتأييد فرنسي وكَنَسي، وفرنجية كذلك، والرئيس سركيس بمغازلة أمريكية سورية، ثم جاء دور إسرائيل في تعيين بشير الجميل، وبعده رينيه معوض الذي أتى على قطار الطائف بعرباته الأمريكية والأوربية والخليجية.


وعليه فإن تجريم سوريا إلى هذا الحد هو عدم اعتراف بالجميل ونكاية بها، وهي مسألة يجب أن يُعلم بأنها ستضاف إلى الذاكرة العربية البائسة التي فاضت بتراجيديات تُكرر نفسها كل حين من دون استيعاب لإرهاصاتها وتبعاتها.

التعليقات (0)

شارك بتعليقك حول هذا الموضوع

شارك هذا الموضوع