بسم الله الرحمن الرحيم
(إنّا أنزلناه في ليلة القدر* وما أدراك ما ليلة القدر* ليلة القدر خير من ألف شهر* تنزّل الملائكة والروح فيها بإذن ربّهم من كلّ أمر* سلام هي حتى مطلع الفجر) صدق الله العليّ العظيم.
القدر في اللغة: كون الشيء مساوياً لغيره من غير زيادة ولا نقصان، وقدّر الله هذا الأمر يقدره قدراً؛ إذ جعله على مقدار ما تدعو إليه الحكمة.
والشهر في الشرع: المدّة بين هلالين من الأيام، وسمّي شهراً لاشتهاره بالهلال, وقد يكون الشهر ثلاثين يوماً أو تسعة وعشرين(1).
فقد أنزل الله تعالى القرآن الكريم جملة واحدة من اللوح المحفوظ الى السماء الدنيا ـ أو الى البيت المعمور في السماء الدنيا ـ في هذه الليلة المباركة ليلة القدر، ثم إن جبرئيل ينزل القرآن على الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله) نجوماً بأمر من الله سبحانه، وكان نزوله من أوله الى آخره في ثلاث وعشرين سنة:
(إنّا أنزلناه في ليلة مباركة)(2).
ولا بد أن يعلم أنه ليس ابتداء نزول القرآن في ليلة القدر، وإنزال بعض الآيات القرآنية في هذه الليلة ولا نزول سورة القدر في هذه الليلة، ليلة القدر، لقوله تعالى: (إنّا أنزلناه)، فضمير أنزلناه، يعني القرآن، لا سوره أو بعض سورة منه. فبذلك يكون القرآن قد نزل جملة واحدة في ليلة مباركة من اللوح المحفوظ الى السماء الدنيا، وهي ليلة القدر، ومن ثم تنزّل نجوماً على النبي محمد (صلى الله عليه وآله).
معنى ليلة القدر:
سميت هذه الليلة بالقدر لأن الله تعالى يحكم فيها ويقضي بما يكون في السنة الى السنة الآتية من حياة وموت، وخير وشرّ، وسعادة وشقاء، ورزق وولادة، ويدل على ذلك قوله تعالى: (فيها يفرق كل أمر حكيم أمراً من عندنا إنّا كنّا مرسلين رحمة من ربّك)(3).
ففرق الأمر الحكيم هو إحكام الأمر الواقع بكلّياته وجزئياته التقديرية، وإمضاؤه في تلك الليلة رحمة من الله تعالى الى عباده.
وقيل: القدر، بمعنى المنزلة، وسميّت ليلة القدر بذلك لأهمّيتها ومنزلتها، ولأهمية ومنزلة المتعبّدين فيها والذاكرين والذاكرات له فيها، فإحياؤها بالعمل الصالح والعبادة هو خير من العمل من صلاة وزكاة وأنواع الخير في ألف شهر ليس فيها ليلة قدر. ولولا أن الله يضاعف فيها للمؤمنين العاملين والذاكرين ما نالوا ذلك الأجر والثواب، ولكن الله يضاعف الحسنات ويمحو السيئات رحمة بعباده.
قال ابن عمير، عن الإمام أبي عبدالله الصادق (عليه السلام): (العمل فيها خير من العمل في ألف شهر ليس فيها ليلة قدر).
وورد في تفسير (الميزان): سئل الإمام الباقر (عليه السلام) عن قول الله (عزّ وجلّ): (إنّا أنزلناه في ليلة القدر)، قال: (نعم، ليلة القدر وهي في كل سنة في شهر رمضان في العشر الأواخر، فلم ينزل القرآن إلاّ في ليلة القدر، قال الله (عزّ وجلّ): (فيها يفرق كل أمر حكيم...))(4).
تحديد ليلة القدر:
لم يحدد القرآن أية ليلة هي، إلاّ أنّها في شهر رمضان، والمعتمد في تحديدها الأخبار والروايات، فعن حسّان بن أبي علي قال: سألت الإمام أبا عبدالله (عليه السلام) عن ليلة القدر، قال: (اطلبها في تسع عشرة، واحدى وعشرين، وثلاث وعشرين)(5).
وقد اتفقت أخبار أهل البيت (عليهم السلام) أنّها باقية متكررة كل سنة، وأن هذه الليلة من شهر رمضان الكريم، وهي إحدى تلك الليالي الثلاث من الشهر المبارك، ولذلك فالشيعة تعارفوا على تسمية هذه الليالي الثلاث بليالي القدر.
وعن زرارة قال: سألت الإمام الباقر (عليه السلام) عن ليلة القدر، قال: (في ليلتين، ليلة ثلاث وعشرين وإحدى وعشرين)، فقلت: أفرد لي أحدها، فقال: (وما عليك أن تعمل في ليلتين هي إحداهما)(6).
ويظهر من جميع الروايات المعصومية أنّها ليلة ثلاث وعشرين على الأغلب، وأن عدم تعيينها من الليالي أيّها المذكورة كي يبقى الإنسان مجتنباً للمعاصي وليدأب ويحيي جميع لياليها في شهر رمضان، شهر العبادة والغفران؛ ليدركها هي.
وقد أخفى الله سبحانه الصلاة الوسطى في الصلوات الخمس، وكذلك ساعة إجابة الدعاء في يوم الجمعة.
ومن علامات ليلة القدر: أنّها ليلة طيبة الريح، فإن كانت في برد دفئت، وإن كانت في حرّ بردت، تطلع الشمس في صبيحتها ليس لها شعاع.
فضائل سورة القدر:
عن أبي عبدالله (عليه السلام) قال: (من قرأ إنّا أنزلناه في فريضة من الفرائض نادى منادٍ: يا عبدالله، قد غفر لك ما مضى فاستأنف العمل)(7).
عن الإمام الباقر (عليه السلام) قال: (من قرأ إنّا أنزلناه فجهر بها صوته كان كشاهر سيفه في سبيل الله، ومن قرأها سرّاً مرّات محا الله عنه ألف ذنب من ذنوبه)(8).
فضل ليلة القدر:
يستحب فيها الغسل والعبادة والدعاء وزيارة الحسين (عليه السلام) والتخضّع لله حتى يضيء فجرها، ومن فضلها:
من قام ليلة القدر إيماناً واحتساباً غفر الله ما تقدّم من ذنبه.
إنّ الشيطان يخنس في هذه الليلة ولا يخرج حتى يضيء فجرها.
لا يستطيع فيها على أحد بخبل أو داء أو ضرب من ضروب الفساد، لا يمضي فيها السحر وإنّما هي ليلة الخيرات والبركات والنعم والمكرمات لكل المؤمنين العابدين لله، حيث تتضاعف من الله تعالى لهم الحسنات والمغفرات رحمة من الله بعباده، إذ هي ليلة سلام حتى مطلع الفجر.
تتنزل الملائكة والروح ـ جبرئيل ـ فيها الى الأرض؛ ليسمعوا الثناء على الله سبحانه، وقراءة القرآن الكريم، والدعاء وغير ذلك من الأذكار، وليسلّموا على المؤمنين العابدين الذين صاموا نهاراً، التالين لكتاب الله، بإذن الله تعالى (أي أمره). فهي سلام على أولياء الله تعالى وأهل طاعته، فكلّما لقيتم الملائكة في هذه الليلة فسلّموا عليهم.
ربّ منك السلام وإليك السلام وعليك السلام.
الللية الثالثة والعشرون من شهر رمضان المبارك
نزول القرآن الكريم سنة 1 للبعثة
في رأي بعض العلماء أن القرآن الكريم قد نزل على الرسول (صلى الله عليه وآله) مرتين:
إحداهما: نزل في ليلة القدر جملة واحدة، إجمالاً.
والثانية: نزل على الرسول تدريجاً على سبيل التفصيل خلال ثلاث وعشرين سنة. ومعنى نزوله إجمالاً، هو نزول المعارف الإلهية المشتمل عليها القرآن الكريم، والأسرار الكبرى على قلب النبي (صلى الله عليه واله)؛ لكي تمتلئ روحه بنور المعارف القرآنية المباركة، قال تعالى: (إنّا أنزلناه في ليلة القدر...).
ومعنى نزوله على سبيل التفصيل، هو نزوله بألفاظه المحدّدة وآياته المتتالية التي كانت في بعض الأحيان مرتبطة بالأحداث والوقائع المتصلة في زمن الرسالة المباركة، ومواكبة تطور الأحداث، قال تعالى: (كتاب اُحكمت آياته ثم فصّلت من لدن حكيم خبير)(9).
توضيح التدرج:
لقد تنوّعت الحالات التي مرّت على النبي (صلى الله عليه وآله)، وقد تخللت مدة الثلاث والعشرين سنة الماضية, تبعاً لما مرّت به الدعوة الإسلامية من آلام ومحن، وما قاسته من الشدائد وحازته من تقدم، وما حققته من انتصارات، وهي الأحداث التي كان الإنسان متفاعلاً معها في أقواله وأفعاله. لكن القرآن الكريم قد واكب هذه الأحداث عبر تلك السنين, من ضعفها وقوتها وعسرها ويسرها وهزائمها وانتصاراتها وكان يسايرها، ومع ذلك كان ذا مستوى يعلو على جميع الاعتبارات القائمة ويأخذ بجذبها إليه والانجذاب لله تعالى. ولم يتأثر القرآن بشكل من أشكال الانفعال البشري، بل كان مؤثراً فيها.
إن تنزيل القرآن تدريجاً كان امتداداً وإمداداً معنوياً مستمراً للرسول (صلى الله عليه وآله)، كما قال الله تعالى: (وقال الذين كفروا لولا نزّل عليه القرآن جملةً واحدةً كذلك لنثبّت به فؤادك ورتّلناه ترتيلاً)(10).
فإن الوحي إذا كان يتجدّد في كل حادثة كان أقوى للقلب وأعمق تأثيراً، وأكثر أهمية بالمرسل إليه, ويتطلب ذلك نزول الملك وتجديد العهد به، وتقوية آمال الرسول الخالصة، وتعاليه على كل المصائب والمصاعب والمشاكل التي تعترض الرسالة الكريمة. فكان القرآن الكريم يأمر الرسول بالصبر فيقول تعالى: (واصبر على ما يقولون واهجرهم هجراً جميلاً...) وينهى الرسول (صلى الله عليه وآله) عن أمر في قوله: (ولا يحزنك قولهم إنّ العزّة لله جميعاً)(11).
ليس القرآن كسائر الكتب العلمية التي تؤلف للتعليم والبحث العلمي، وإنما هو عملية تغييريّة شاملة للإنسان كله، في روحه وعقله وإرادته، والهدف الأساس بناء اُمة توحيديّة وصنع حضارة كريمة شاملة، ومثل هذا العمل الكبير لا يمكن أن يكون عفوياً ويقع مرة واحدة، بل لا بد من التدرّج فيه. ولهذا كان ضرورياً نزول القرآن الكريم تدريجاً لترسيخ عملية البناء وإنشاء جيل متين رصين، مجتثّاً بذلك جذور الجاهلية الاُولى ورواسبها وشوائبها بحكمة وأناة، وأوضح مثال لذلك هو عملية تحريم الخمر التدريجية.
كانت الرسالة الإسلامية المباركة تواجه الكثير من الاتهامات والشبهات وأسئلة المشركين، فلذا كان على الرسول أن يواجه التحدّيات بالموقف والتفسير المتناسبين، وذلك لا يتم بشكل سليم إلاّ بشكل تدريجي؛ لأن طبيعة هذه المواقف المعادية هي تدريجية, فتحتاج الى معالجة ميدانية فائقة. ولعل قوله تعالى يشير الى ذلك: (ولا يأتونك بمثل إلاّ جئناك بالحقّ وأحسن تفسيراً)(12).
فالحمد لله الذي منّ علينا بهذا الكتاب العزيز الذي قال فيه: (إنّا نحن نزلنا الذكر وإنّا له لحافظون).
الهوامش
_________________________________
(1) مجمع البيان 9،10 /785.
(2) سورة الدخان: الآية 3.
(3) سورة الدخان: آية 6.
(4) تفسير الميزان 334:20.
(5) تفسير الميزان 333:20.
(6) مجمع البيان 10,9/787.
(7) مجمع البيان 10,9/784.
(8) تفسير الصافي 353:5.
(9) هود: 1.
(10) الفرقان: 32.
(11) يونس: 65.
(12) الفرقان: 33.
التعليقات (0)