بسم الله الرحمن الرحيم
« حم~ * والكتابِ المُبين * إنّا أنْزَلْناهُ في ليلةٍ مباركةٍ إنّا كُنّا مُنْذِرين * فيها يُفْرَقُ كُلُّ أمرٍ حكيمٍ * أمراً مِن عندِنا إنّا كُنّا مُرسِلينَ * رحمةً مِن ربِّكَ إنّه هوَ السميعُ العليم »
صدَقَ اللهُ العَليُّ العَظيم
بسمِ اللهِ الرحمن الرحيم
« إنّا أنْزَلْناهُ في ليلةِ القَدْر * وما أدراكَ ما ليلةُ القَدْر * ليلةُ القَدْرِ خيرٌ مِنْ ألْفِ شَهْر * تَنَزَّلُ الملآئكةُ والروحُ فيها بإذْنِ ربِّهم مِن كُلِّ أمرٍ * سَلامٌ هيَ حتّى مَطْلعِ الفَجْر »
صَدق الله العَليُّ العَظيم
إشارة
تكاد الآيات الأولى في سورة الدخان وسورة القدر بكاملها تتوافق في المضامين وتتآلف في المقاصد وتتكاشف في المعاني والبيانات. فكلا السورتين متوجهتان إلى الليلة الشريفة المعروفة بـ « ليلة القَدْر »، وكلاهما واقفتان على خمسة مبانٍ شامخة.
1 ـ الكتاب المبين
وهو القرآن الكريم الذي نزل في شهر رمضان المبارك، في إحدى لياليه الخاصّة المباركة: « إنّا أنْزَلْناه في ليلةٍ مباركة »،« إنّا أنْزَلْناه في ليلةِ القَدْر ».. وقبل ذلك نقرأ في سورة البقرة قوله جلّ وعلا: « شَهْرُ رمضانَ الذي أُنزِلَ فيه القرآن.. » ثمّ وصفَه الحقُّ تبارك وتعالى فقال: « هُدىً للناسِ وبيِّناتٌ مِن الهُدى والفُرقان »، وقبل ذلك كان مُفتتح هذه السورة الكريمة قولُه عزّوجلّ: « الم * ذلكَ الكتابُ لا ريبَ فيهِ هُدىً للمتّقين ».
وتلك نعمةٌ عظمى أن أنزل الله عزّ شأنه إلينا كتابَ هدىً ونورٍ ورحمة، وقد وصفه أمير المؤمنين عليّ عليه السّلام مرّات، كان منها قوله:
ـ جعَلَه اللهُ رَيّاً لعطش العلماء، وربيعاً لقلوب الفقهاء، ومَحاجَّ لطُرقِ الصلحاء، ودواءً ليس بعده داء، ونوراً ليس معه ظُلْمة..
ـ إن الله سبحانه لم يَعِظْ أحداً بمِثْل هذا القرآن، فإنّه حبلُ اللهِ المتين، وسببُه الأمين، وفيه ربيع القلب وينابيع العلم، وما للقلب جلاءٌ غيرهُ..
ـ أفضل الذِّكْر القرآن، به تُشرَح الصدور، وتستنير السرائر.
ـ تعلّموا كتابَ الله تبارك وتعالى؛ فإنّه أحسنُ الحديث وأبلغُ الموعظة. وتفقّهوا فيه؛ فإنّه ربيع القلوب. واستَشْفُوا بنوره؛ فإنّه شفاءٌ لِما في الصدور. وأحسِنوا تلاوتَه؛ فإنّه أحسَنُ القَصَص..
• وسورة القدر الشريفة.. هي الأخرى تستهلّ حديثها ـ كسورة الدخان ـ بذكْر الكتابِ المبين ونزوله في ليلة القدر، مع تعظيم تلك الليلة وتفضيلها على ألفِ شهر: « إنّا أنزلْناهُ في ليلةِ القدر »، وضمير « أنزلناه » عائد على القرآن الكريم، والظاهر نزولُ جملة الكتاب العزيز في ليلةٍ القدر، كما بيّنتْ مِن قَبْل ذلك سورةُ الدخان: « والكتابِ المبين * إنّا أنْزَلْناه في ليلةٍ مباركة » وظاهر العبارة الشريفة القَسَم بجملة ـ الكتاب المبين ـ ثمّ جاء الإخبار عن إنزالِ ما أقسمَ الله تعالى به جملةً، فيكون مدلول الآيات أنّ للقرآن نزولاً جُمْليّاً على النبيّ صلّى الله عليه وآله، غير نزوله التدريجيّ الذي تمّ خلال ثلاث وعشرين سنة، كما يشير إليه قولُه تعالى: « وقُرآناً فَرَقْناهُ لِتقرأَه على الناسِ على مُكْثٍ ونَزّلْناهُ تنزيلا ».
2 ـ الليلة العظمى
تلك الليلة الشريفة التي وقعت في ذلك الشهر المبارك شهر الله، شهر رمضان، وكان مِن شرفها أن نزل فيها الكتاب المبين، فبُوركت وجلّت: « إنّا أنزلناهُ في ليلةٍ مباركة »، « إنّا أنزلْناهُ في ليلةِ القَدْر ». وكونُها مباركةً ظرفيَّتُها للخير الكثير الذي ينبسط على الخلق من الرحمة الواسعة المتجّددة: « وما أدراك ما ليلةُ القدر * ليلةُ القَدْرِ خيرٌ مِن ألفِ شهر * تَنَزّلُ الملائكةُ والروح فيها.. ». فهي تتكرّر بتكرّر شهر رمضان، ويتكرّر معها الخير وتتجدّد فيها البركة والرحمة، ومن هنا جاء الفعل مضارعاً مستمرّاً « تَنَزّل » أي « تَتَنزّل » في كلّ عام، وكذا في سورة الدخان يأتي الفعل مضارعاً مستمرّاً متجدّداً: « فيها يُفْرَقُ كلُّ أمرٍ حكيمٍ * أمراً مِن عندنا إنّا كنّا مُرسِلينَ * رحمةً مِن ربِّك.. ».
سُئل الإمام محمّد الباقر عليه السّلام عن قول الله تعالى: « إنّا أنزلناه في ليلةٍ مباركة » فقال: نعم ليلة القدر، وهي في كلّ سنةٍ في شهر رمضان في العشر الأواخر، فلم ينزل القرآنُ إلاّ في ليلة القدر، قال تعالى: « فيها يُفرَقُ كلُّ أمرٍ حكيم »، قال: يُقدَّر في ليلة القدر كلُّ شيءٍ يكون في تلك السنة إلى مِثْلها من قابل: خير وشرّ، وطاعة ومعصية، ومولود وأجَل، ورزق.. فما قُدِّر في تلك السنة وقُضِيَ فهو المحتوم، ولله تعالى فيه المشيّة.
فهي ليلةُ قَدْر، ذاتُ شأنٍ وتقدير، يقدّر الله عزّوجلّ فيها حوادث السنة من الليلة إلى مِثْلها من قابل: من حياةٍ وموت ورزق وسعادة وشقاء.. وغير ذلك: « فيها يُفرَقُ كلُّ أمرٍ حكيمٍ أمراً مِن عندِنا » وليس فَرق الأمر الحكيم إلاّ إحكام الحادثة الواقعة بخصوصيّاتها بالتقدير.
وقيل: القَدْر بمعنى المنزلة، وإنّما سُمّيت ليلةَ القدر للاهتمام بمنزلتها أو منزلة المتعبّدين فيها. ومن جلال هذه الليلة أن جاءت العبارة القرآنيّة هكذا: « وما أدراكَ ما ليلةُ القَدْر ! » كنايةً عن جلالة قَدْرها وعِظَم منزلتها، ويؤكّد ذلك إظهارُ الاسم مرّةً بعد أخرى « ليلةُ القَدْر خيرٌ مِن ألفِ شهر »، ولم يقل: هي خيرٌ مِن ألف شهر؛ تفخيماً لأمر هذه الليلة الجليلة، وبياناً بعد ذلك لجلال شأنها.
ولأهميّتها تكرّر السؤال.. أوّلاً ـ عن عظمتها، وثانياً ـ عن تحديدها أيّةُ ليلةٍ هي من شهر رمضان المبارك:
• سُئل الإمام الباقر عليه السّلام، أيّ شيءٍ عنى الله تعالى بقوله: « ليلةُ القَدْر خيرٌ مِن ألفِ شهر » ؟ فكان فيما أجاب عليه السلام أن قال: العمل الصالح فيها من الصلاة والزكاة وأنواع الخير.. خيرٌ من العمل في ألف شهرٍ ليس فيها ليلة القدر.
• وسُئل الإمام جعفر الصادق عليه السّلام عن أيّ ليلةٍ هي ليلة القدر من ليالي شهر رمضان، فقال: وفدُ الحاجّ يُكتب في ليلة القدر، والمنايا والبلايا والأرزاق.. وما يكون إلى مثلها في قابل، فاطلبْها في ليلة إحدى وعشرين، وثلاثٍ وعشرين.
• وسأله حسّان بن أبي عليّ يوماً عن ليلة القدر، فقال له: اطلبْها في: تسع عشرة، وإحدى وعشرين، وثلاثٍ وعشرين.
3 ـ الظاهرة الكبرى
استفاد المفسّرون من ظواهر آيات ليلة القدر، أنّها إحدى الليالي التي تدور على الأرض.. قال تعالى: « فيها يُفرَقُ كلُّ أمرٍ حكيم »، وهذا التعبير دالٌّ على الاستمرار، فليلة القدر تتكرّر. قال أبو ذرّ الغفاريّ: قلت: يا رسول الله، القدر شيء يكون على عهد الأنبياء.. يُنزَّل عليهم فيها الأمرُ فإذا مضَوا رُفعت ؟ قال: لا، بل هيَ إلى يوم القيامة.
وظاهر قوله تعالى: « شهرُ رمضانَ الذي أُنزلَ فيه القرآن.. » أنّ ليلة القدر تتكرّر بتكرّر شهر رمضان، وتتكرّر بتكرّر السنة القمريّة، حيث تقع في شهر رمضان إذ هي إحدى لياليه. وبما أنّها ليلة تقدير أمور السنة من الليلة إلى مثلها مِن قابل، فهي لابدّ واقعة ومستمرّة على مدى السنوات، يُشعِر بذلك قولُه جلّ وعلا: « فيها يُفرَق كلُّ أمرٍ حكيم »، وكذا قولُه عزّوجلّ: « تَنَزّلُ الملائكةُ والروحُ فيها » فلا معنى لما قيل مِن أنّها كانت ليلةً واحدة ثمّ انتهت، أو أنّها تكرّرت في حياة النبيّ صلّى الله عليه وآله ثمّ رفعها الله تعالى.. فالأخبار الصحيحة متّفقة على أنّها ليلةٌ خاصّة باقية متكرّرة كلَّ سنة ما تكرر شهر رمضان إذْ هي إحدى لياليه لا محالة.. كما أخبر النبيُّ الصادق المصدّق صلّى الله عليه وآله بقوله: هيَ إلى يوم القيامة.
4 ـ الواقعة الجُلّى
إنّ الأمور ـ بحَسْب القضاء الإلهيّ ـ لها مرحلتان: مرحلة الإجمال، ومرحلة التفصيل. وليلة القدر ـ على ما يدلّ عليه قوله تعالى: « فيها يُفْرَقُ كلُّ أمرٍ حكيم » ـ ليلةٌ تخرج فيها الأمور من مرحلة الإحكام إلى مرحلة الفَرْق والتفصيل.. تفصيل الأمور الكونيّة بعد إحكامها، فيُقضى في ليلة القدر كلُّ أمرٍ محكَم، فإذا كانت ليلة تسع عشرة من شهر رمضان قُسّمت فيها الأرزاق وكُتبت فيها الآجال، وخرجت فيها صكاك الحاجّ، واطّلع اللهُ تعالى إلى عباده فغفر لهم إلاّ مَن شقي.. فإذا كانت ليلة ثلاث وعشرين، فيها يُفرَق كلُّ أمرٍ حكيم، ثمّ يُنهى ذلك ويُمضى، أو أنّه يُفرَق في ليلة إحدى وعشرين، ويكون لله تعالى فيه البَداء، فإذا كانت ليلةُ ثلاثٍ وعشرين أمضاه جلّت قدرته، فيكون من المحتوم.
وفي روايةٍ قال الإمام الصادق عليه السّلام: التقديرُ في ليلة تسع عشرة، والإبرام في ليلة إحدى وعشرين، والإمضاءُ في ليلة ثلاث وعشرين.
5 ـ الأمر الإلهيّ
بعد قوله تعالى: « فيها يُفرَقُ كلُّ أمرٍ حكيم » بيّن هذا الأمر بقوله عزّ مِن قائل: « أمْراً مِن عندِنا إنّا كنّا مرسِلين » والمراد بالأمر هو الشأن، والمعنى فيها يُفْرق كلُّ أمرٍ حالَ كونه أمراً من عندنا، ومبتدَأً مِن لَدُنّا. ويمكن أن يكون المراد به ما يقابل النهي.. فيكون المعنى: يُفْرَق فيها كلُّ أمرٍ بأمرٍ منّا، فالأمر على كلّ حال متعلّق بالفعل يُفْرَق »ويمكن أن يكون الأمر متعلّقاً بـ أنزلناه »ي حالَ كون الكتاب أمراً أو بأمرٍ من عندنا، وقوله تعالى: إنّا كنّا مُرسِلين »ا يخلو مِن تأييدٍ لذلك، فالمعنى يكون: إنّا أنزلناهُ أمراً مِن عندنا؛ لأنّ سُنّتَنا الجارية هي إرسال الأنبياء والرسل.
رحمةً مِن ربِّك إنّه هو السميع العليم »ي: إنّ إنزال القرآن الكريم هو رحمة من الله جلّ وعلا، أو: إنّ إنزاله كان لأجل إفاضة الرحمة على الناس، أو لاقتضاء رحمة الله أن ينزل القرآن الكريم. إنّه هو السميع العليم »لسميع للمسائل وطلب الحوائج، والعليم بالحوائج، فيسمع مسألتَهم ويعلم حاجتهم إلى الاهتداء بهدى الله عزّوجلّ، فيُنزل الكتابَ ويُرسل الرسول؛ رحمةً منه سبحانه لهم.
وكان من تلك الرحمة العظمى سلامٌ هي حتّى مطلعِ الفجر »السلام والسلامة هما البراءة من الآفات الظاهرة والباطنة، فيكون قوله تعالى: سلامٌ هي »شارةً إلى العناية الإلهيّة بشمول الرحمة لعباده المقبلين عليه، وسدِّ باب نقمةٍ جديدة تختصّ بالليلة.. كوَهْن الشياطين عن الإغواء. وقيل: سلامٌ هي حتّى مطلعِ الفجر »نّ الملائكة تُسلّم على مَن تمرّ عليه من المؤمنين المتعبّدين.
التعليقات (0)