على خلفية اتهامات بلير لطهران
أيهما أحوج إلى القروض السياسية .. إيران أم بريطانيا ؟!
جاءت اتهامات رئيس الوزراء البريطاني توني بلير لإيران بتورطها في أحداث البصرة التي قُتِل فيها عدد من الجنود البريطانيين لتضع العلاقات بين البلدين أمام محك جدي سيلقي بظلاله على العديد من الملفات التي لم تُعط الفرصة الكافية لأن تسوى بسبب حداثة العلاقة بين البلدين وتذبذبها من حين لآخر . الأزمة لم تبدأ من الآن بل هي وليدة إرهاصات أحداث محافظة خوزستان التي قالت إيران بأن البريطانيين والكنديين متورطين فيها استخباراتياً ولوجستياً، ثم أزمة الملف النووي الإيراني الذي لعبت لندن فيه دوراً محورياً لأن يخرج بصورة أكثر تشدداً من ذي قبل.
تحقيب العلاقة المأزومة
لم تستقم العلاقات الإيرانية البريطانية طيلة ست وعشرين سنة، وكانت حُبلى بالمنغصات والتجاذبات المتلاحقة، فبعد عام من انتصار الثورة الإسلامية قامت مجموعة إرهابية معادية للحكم الثوري الجديد باقتحام السفارة الإيرانية في لندن واحتجزت 26 شخصاً قُتِل منهم اثنان فيما بعد خلال عملية الإنقاذ، وكانت تلك الحادثة بمثابة الإعلان الرسمي للقطيعة بين البلدين، بعد أن اتهمت طهران الحكومة البريطانية بأنها كانت متواطئة مع الجناة، وبقيت المصالح البريطانية في إيران منذ تلك الحادثة إلى ما بعد حرب الخليج الثانية تُدار عبر سفارة السويد بطهران . وفي العام 1985 وإبان الحرب العراقية الإيرانية أعلنت طهران بأنها استولت على عتاد حربي ضخم يحوي أسلحة مُحرّمة دولياً خلال هجوم مضاد قامت به ضد الجيش العراقي تبيّن فيما بعد بأنه تصنيع إنجليزي وهو ما لم تنفه بريطانيا، وكان ذلك أيضاً دافعاً آخر لتوتر العلاقات بين البلدين، وفي مطلع العام 1989 أصدر الإمام الخميني فتوى أعلن فيها بأن مؤلف رواية آيات شيطانية وهو بريطاني من أصل هندي هو مرتد ودمه مهدور لقيامه بنشر رواية مسيئة للإسلام وللنبي محمد (ص) وقد أدت تلك الحادثة لتوتر شديد في العلاقة البينية خصوصاً مع التآم باقي الدول الأوربية في تشديد العقوبات المفروضة من قِبَلِها على إيران .
وبعد الغزو الصدامي للكويت في أغسطس 1990 وما تلاه من حرب مُدمّرة أخرجت القوات العراقية من الكويت، قامت إيران بوساطة استخباراتية لدى حلفائها في لبنان تمّ بموجبها الإفراج عن البريطاني تيري وايت الذي كان مُختطفاً في بيروت لمدة خمسة أعوام، وقد أدى ذلك إلى تحريك المياه الراكدة في ملف العلاقات بين طهران ولندن وظهور بوادر تحسّن حذر، إلاّ أن طرد بريطانيا لثلاثة إيرانيين بتهمة التخطيط لقتل سلمان رشدي في العام 1992 وقيام إيران بطرد دبلوماسي بريطاني أفسد الأمر من جديد، ثم جاءت قضية ميكونوس في نفس العام حين قتل ثلاثة معارضين إيرانيين أكراد من بينهم صادق شرفقندي في العاصمة الألمانية برلين، وما تلاه من تضمن لائحة الاتهام القضائية الصادرة عن وزارة العدل الألمانية أسماء مسؤوليين إيرانيين كبار بينهم المرشد الأعلى للجمهورية الإسلامية الإمام الخامنئي والرئيس السابق الشيخ هاشمي رفسنجاني ووزير الأمن في حكومة الإعمار الشيخ على فلاحيان، الأمر الذي حدا بالدول الأوربية لأن تسحب (مجتمعة) سفرائها من إيران .
وفي العام 1998 أعلنت الحكومة الإيرانية أنها غير ملتزمة بتنفيذ فتوى الإمام الخميني إلاّ أنها لا تسطتيع إلغاءها كحكم شرعي، وقد أدى ذلك لأن تنفرج العلاقة بين البلدين بشكل لافت أعقبها زيارة وفد الترويكا الأوروبية إلى إيران في يوليو من نفس العام، لتُكلّل لاحقاً وبالتحديد في العام 1999 لأن يقوم البلدان برفع التمثيل الدبلوماسي بينهما إلى مرتبة السفراء، إلا أن العلاقات ساءت من جديد مع بداية العام 2000 بعد الأحكام القضائية التي صدرت بحق اليهود الإيرانيين العشرة المتهمين بالتجسس لصالح الكيان الصهيوني في إيران، وما رافقها من ردود أفعال قوية من الاتحاد الأوربي، ثم ساءت الأمور أكثر عندما قام مواطن بلجيكي من أصل إيراني برفع دعوى قضائية في بلجيكا تتهم رفسنجاني بإعطاء تعليمات لجهاز الاستخبارات الإيراني لممارسة عمليات اعتقال وتعذيب بحق مدنيين، وهو ما دفع بالأمور لأن تأخذ منحى أزمة شاملة ما بين إيران والاتحاد الأوربي، إلاّ أن تجميد القضاء البلجيكي لتلك الدعوة أعاد الأمور إلى نصابها، الأمر الذي دفع بطهران لابتعاث وزير خارجيتها كمال خرازي للندن في نفس العام وهي أول زيارة يقوم بها وزير خاجية إيراني إلى بريطانيا منذ انتصار الثورة الإسلامية في عام 1979، ثم قام جاك سترو بزيارة طهران في العام 2001 وهي أيضاً أول زيارة لوزير خارجية بريطاني إلى إيران من 23 عاماً، إلا أن العلاقة تدهورت مرة أخرى بعد رفض طهران لاعتماد أوراق ديفيد ريداوي كسفير بريطاني لديها، بسبب اتهامات له حول علاقته الوطيدة مع إسرائيل، وفي أغسطس 2003 أعلنت بريطانيا أنها ألقت القبض على سفير إيران السابق لدى ببوينس إيريس هادي سليمان بور على خلفية اتهامات أرجنتينية له بالضلوع في تفجير مقر جمعية يهودية أودت بحياة 100 يهودي في العام 1994، وقد أدى ذلك إلى أن تسحب إيران سفيرها في لندن، وتتعرض السفارة البريطانية في طهران لإطلاق أعيرة نارية أصابة مكاتبها العلُوية بأضرار، وفي يونيو 2004 اعتقل الحرس الثوري الإيراني جنوب ممر شط العرب المائي سبعة من أفراد قوة عسكرية بريطانية خاصة لدخولها الأراضي الإيراني وقد ساهمت تلك الحادثة في تأزيم العلاقة أكثر .
ومع اشتداد أزمة الملف النووي الإيراني منذ اتفاق سعد آباد وحتى اتفاق باريس كانت العلاقات بين طهران ولندن في حالة تذبذب إلاّ أنها ظلّت متماسكة لحين إعلان الترويكا الأوربية مؤخراً توصيها للوكالة الدولية للطاقة الذرية بإحالة الملف النووي الإيراني لمجلس الأمن .
اتهـامات بليـر
قد تكون الاتهامات البريطانية الأخيرة في سياق الضغوط الأمريكية المتصاعدة ضد إيران لثنيها عن الاستمرار في مشروعها النووي والتهديد لها من أنها ستواجه عُزلة دولية إن هي استمرت في ذلك المشروع، اللافت في الأمر أن الرئيس العراقي جلال الطالباني ورئيس وزرائه إبراهيم الجعفري سارعا لنفي تلك المزاعم بصورة مباشرة، فقد قال الرئيس العراقي جلال الطالباني في لندن في كلمة ألقاها في (الرابطة الملكية الدولية) يوم الخميس المنصرف بحضور عدد من كبار المسؤولين البريطانيين والسفير الإيراني في لندن أن إيران والعراق بلدان صديقان وجاران، وأن أعضاء الحكومة العراقية الحالية بمن فيهم رئيس الجمهورية ورئيس الوزراء ورئيس البرلمان وأعضاء الحكومة من أفضل أصدقاء إيران ويعدون من حلفائها، مضيفاً بأن الحكومة الإيرانية أعلنت مراراً بأنها تدعم الحكومة العراقية الجديدة وتدعو إلى إرساء الاستقرار والأمن في العراق، وإذا ما ثبت وجود معدات عسكرية إيرانية بيد المتمردين فهذا لا يدل على مساعي إيران لإثارة الاضطرابات في العراق ذلك لأن أي شخص أو مجموعة بإمكانها القيام بمثل هذه الاجراءات.
يبدو أن البريطانيين غير مُدركين تماماً لخطورة تصعيدهم ضد طهران، لأن ذلك من شأنه أن يؤثر على مسيرة العلاقات التجارية ما بين الاتحاد الأوربي وإيران خصوصاً وأن ذلك الاتحاد أقرّ سابقاً بعدم إدراج المطالب السياسية الأوروبية من إيران كشرط لتوقيع اتفاق تجاري ضخم معها، وهو ما جعل المستثمرين الأوربيين لأن ينفقوا أكثر من عشرة مليارات دولار في إيران خلال الأعوام الخمسة الماضية معظمها في قطاع الطاقة . أضف إلى ذلك فقد تكون بريطانيا هي الخاسر الوحيد في الاتحاد الأوربي اثنتان منه (ألمانيا وفرنسا) تعتبران من أهم الشركاء الأوربيين مع إيران، مع تذكر أن اللجنة الاقتصادية الإيرانية - الألمانية تنشط بقوة منذ يوليو 2000 وفي هذا الصدد تشير التقديرات إلى أن الصادرات الألمانية إلى إيران شهدت في نهاية شهر مارس عام 2000 حوالي 602 مليون مارك، فيما بلغت الواردات 279 مليون مارك، كما بلغ إجمالي الاستثمارات الألمانية في إيران نحو 90 مليون مارك، وزيادة في حجم ضمانات هرمس من مبلغ 200 مليون مارك إلى مليار (نحو 500 مليون دولار) وهي ضمانات تقدمها الحكومة الألمانية لحماية استثمارات الشركات الألمانية لدى توظيفها في إيران .
كما أن الشركات البريطانية غير مستعدة من جديد لأن تُضحي باستثماراتها الناشئة في الأراضي الإيرانية وفي حقل بارس الجنوبي بالذات، وفي بحر قزوين أيضاً وهي مصالح لا يُمكن تغيير مسارها عبر ارتهانات سياسية طارئة، ويبدو أن إعلان مايكل توماس مدير العلاقات التجارية في (لجنة الشرق الأوسط) البريطانية من أن وفداً اقتصادياً يتألف من ممثلين من القطاع الخاص في بريطانيا لاثنتي عشرة شركة في مجال المعادن والصناعات الثقيلة سيزور طهران في الرابع من نوفمبر القادم لبحث سبل تنمية العلاقات الاقتصادية بين البلدين هو أقرب دليل إلى ما نذهب إليه .
التعليقات (0)