واصلت حسينية الحاج أحمد بن خميس سلسلة المجالس الحسينية لسماحة السيد عدنان الكراني و ذلك في ليلة الثامن من موسم محرمّ لعام 1447 هـ ، وقد سبق البرنامج تلاوة للقرآن الكريم بصوت القارئ صادق الصفّار ، وبعدها زيارة الإمام الحسين بصوت الرادود رياض يوسف ، و تحت عنوان " أثر النموذج الحسّي في التربية " ، استهل سماحته بالآية الكريمة : ﴿لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا﴾ ، وأوضح سماحته أن النفوس البشرية لا يمكنها التفاعل مع القيم والمبادئ المجردة نظريًا فقط، بل تحتاج إلى رؤيتها متجسدة في شخصيات حية لكي تتفاعل معها بإيجابية. فعندما يرى الإنسان الكرم، الشجاعة، الإيثار، والتضحية متجسدة في شخص ما، فإن ذلك يدفعه للاقتداء وتلك الشخصية تكون أسوة وقدوة في سلوكه وأخلاقه.
القرآن الكريم يحثنا على الاقتداء بشخصية النبي الأكرم (ص) وبقية الأئمة (ع)، لأنهم جسّدوا القيم الفاضلة والمثل العظيمة. وهذا ما تؤكده الآية الكريمة التي افتتحنا بها المحاضرة. انتقل سماحته للحديث عن "التربية بالنموذج الحسّي"، مشيرًا إلى أن القرآن الكريم يتبنى هذا الأسلوب التربوي في تقديم القيم والمبادئ عبر القصص، مصداقًا لقوله تعالى: ﴿وَكُـلاًّ نَّقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنبَاء الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ﴾. فالنموذج الحسّي يُعد من أفضل أساليب التربية في بناء الإنسان ، نضرب مثالاً عظيمًا على هذه التربية من سيرة النبي (ص) في تربية وصناعة الإمام علي (ع)، مستشهدين بقول الإمام علي في نهج البلاغة: "وقد علمتم موضعي من رسول الله (ص) بالقرابة القريبة، والمنزلة الخصيصة، وضعني في حجره وأنا ولد، يضمني إلى صدره، وكان يمضغ الشيء ثم يلقمني، وما وجد لي كذبة في قول ولا خطأة في فعل، ولقد كنت أتبعه اتباع الفصيل أثر أمه". و الإمام الصادق (ع) أكد على عظمة مقام الإمام علي (ع) بقوله: "ألا علي وشأنه"، مشيرًا إلى أن أهل البيت (ع) ركزوا على أن تكون الدعوة والتبليغ لرسالة الله عز وجل عبر السلوك قبل اللسان. فالإمام (ع) يقول: "كونوا دعاة لنا بغير ألسنتكم"، بسلوككم وتصرفاتكم وأخلاقكم التي تدعون بها إلى معتقدكم، "ليروا منكم الورع والاجتهاد والصلاة والخير، فإن ذلك داعية".
نشير الى أهمية "القدوة وأثرها على تربية الطفل"، تعريف القدوة نقلًا عن الراغب الأصفهاني بأنها: "الحالة التي يعيشها الإنسان في اتباع غيره، إن حسنًا وإن قبيحًا". وعلماء الاجتماع يرون أن التربية بالنموذج الحسّي هي أفضل أساليب تربية الطفل وصناعته، لثلاثة محركات أساسية: المحرّك الأول : النزعة الحسّية عند الطفل: فالطفل يمتلك درجة عالية من الإحساس والملاحظة الدقيقة لما يدور حوله، حتى لو بدا منشغلاً. المحرّك الثاني : القدرة العالية على التقليد: يقلد الطفل ما يراه بسهولة، سواء كان ذلك من محيطه الخارجي أو من خلال الشاشات وبرامج التواصل الاجتماعي التي قد تعرضه لمحتوى غير مناسب لسنه. هنا يأتي دور الأبوين في ضبط ما يتعرض له الطفل وتوجيهه لتقليد القدوات الصالحة. المحرّك الثالث مؤثرية تجسد القيم في النموذج الحسّي: يمثل الأبوان المصدر الأول للقدوة بالنسبة للطفل. لذا، تقع عليهما مسؤولية كبرى في إظهار السلوك الحسن وإخفاء السلوكيات السيئة. فالطفل لا يفهم التناقض بين ما يُعلّم وما يُمارس (كتعليم الصدق وممارسة الكذب)، مما قد يؤدي إلى اضطراب في شخصيته.
التربية بالنموذج الحسّي تساهم في تحقيق الانضباط الذاتي والداخلي عند الطفل، حيث يمارس السلوكيات الحسنة ويجتنب السيئة بناءً على قناعة داخلية وفطرة سليمة، دون الحاجة لرقابة خارجية أو ضغوطات. وهذا ما يعبر عنه القرآن الكريم بـ "التزكية"، في قوله: ﴿قَدْ أَفْلَحَ مَن تَزَكَّى﴾. أما الانضباط الخارجي، فيكون عبر قوة خارجية تحد من سلوك الإنسان (كالترغيب والترهيب، والأوامر والنواهي). ومع أن الكثير من العمليات التربوية تتم بهذا الأسلوب، إلا أن الانضباط الخارجي لا يؤتي ثماره المرجوة إلا إذا اقترن بالقناعة الذاتية، وإلا قد يؤدي إلى انكسار الطفل وانحرافه. التربية بالنموذج تبدأ من تربية الإنسان لنفسه، عن الإمام علي (ع): "من نصب نفسه إمامًا للناس، فليبدأ بتعليم نفسه قبل تعليم غيره، وليكن تأديبه بسيرته قبل تأديبه بلسانه". فالمعلم المربي يجب أن يكون عاملاً بعلمه، لأن العلم الذي لا يقترن بالعمل لا يؤثر في قلوب الناس، مصداقًا لقوله تعالى: ﴿أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ﴾.
ختامًا، نشدد على مسؤولية الأهل في التربية، وأنه لا ينبغي لهم إلقاء اللوم على الأبناء عند ملاحظة تصرفات خاطئة، بل يجب أن يلوموا أنفسهم. فالولد كـ"الأرض الخالية" القابلة لأي بذرة تُزرع فيها، كما قال الإمام علي (ع) لولده الإمام الحسن (ع): "إنما قلب الحدث كالأرض الخالية ما أُلقي فيها من شيء قبلته". لذا، يجب على الأبوين ضبط أخلاقهما وسلوكهما ليصلح بذلك النسل، فصلاح الأبوين ينعكس على الأبناء، بل وقد يكون دافعًا لصلاح الأبوين أنفسهما، "لأن المجاز طريق الحقيقة والتطبع طريق الطابع". فإذا أراد الأبوان أن يلتزم أبناؤهما بالصلاة في وقتها أو يرتادوا المساجد، فعليهما أن يلتزما بذلك أولًا. وفي الختام،نضرب مثالًا بالشاب القاسم (ع) ابن الإمام الحسن (ع)، كقدوة في سلوكه وأخلاقه وتفانيه لإمام زمانه.
الكراني ليلة الثامن من شهر محرم الحرام 1447 هـ /2025م






























التعليقات (0)