استمرت المجالس الحسينية في حسينية الحاج أحمد بن خميس في ليلة الخامس من محرم 1447 هـ، حيث افتُتح البرنامج بتلاوة عطرة للقرآن الكريم بصوت القارئ علي عبد الشهيد، تلتها زيارة الإمام الحسين بصوت الرادود عمار ياسين نصر. تحت عنوان "كربلاء العطاء والأخلاق"، استهل سماحة الشيخ حديثه بالآية الكريمة: "فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ لِنتَ لَهُمْ ۖ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ ۖ " . من الملاحظ أن سلوك الفرد المسلم في المجتمعات الإسلامية غالبًا لا يستمد بالكامل من التعاليم الإسلامية، بل يتأثر بشكل كبير بالموروث الاجتماعي الذي توارثه الأفراد عن آبائهم وأجدادهم. قد تمتد بعض هذه السلوكيات إلى فترة ما قبل الإسلام، أي فترة الجاهلية، ورغم التطور الزمني والتقني والمعرفي، لا تزال بعض الأفكار الجاهلية تمارس في مجتمعاتنا، وإن كان ذلك بصيغ ظاهرية جديدة ، فعند النظر إلى السلوكيات في المجتمعات العربية، التركية، أو الإيرانية، نجد أنها متأثرة بالمجتمع الذي نشأ فيه الفرد. وهذا ما أكده القرآن الكريم في قوله تعالى: "وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قَالُوا حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا ۚ أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ".
إن شخصية الإنسان تتشكل وتتبلور من خلال عدة عوامل، أهمها الوراثة، والتربية، والبيئة. بعد ذلك، يأتي دور إرادته ووعيه في تثبيت ما نشأ عليه أو تغييره للأفضل أو للأسوأ. هذه العوامل لا تلغي قدرة الإنسان على الاختيار أو تسلبه إرادة التغيير. ولو كانت الأخلاق ثابتة لا تتبدل، لانتفى معنى الثواب والعقاب، ولما كانت هناك حاجة للرسالات السماوية والمدارس الأخلاقية. فالواقع يثبت أن الإنسان قادر على التغيير متى ما أراد وأصر. لقد أوضح القرآن الكريم هذه الصورة في الآية الكريمة، فلو كانت أخلاق النبي (ص) قاسية، لما اجتمع الناس حوله. تؤكد هذه الآية أن امتلاك الإنسان لمقامات عالية، حتى لو وصلت إلى النبوة والاتصال بالوحي الإلهي، لا يكفي للتأثير في الناس ما لم يمتلك أخلاقًا عالية. يصف القرآن الكريم أخلاق النبي صلى الله عليه وآله وسلم بقوله: "وَإِنَّكَ لَعَلَىٰ خُلُقٍ عَظِيمٍ". من المؤلم أن نقرأ في بعض المصادر أن النبي (ص) كان يخاطب الناس بقوله: "اللَّهُمَّ إنَّما أنا بَشَرٌ، فأيُّما رَجُلٍ مِنَ المُسْلِمِينَ سَبَبْتُهُ، أوْ لَعَنْتُهُ، أوْ جَلَدْتُهُ، فاجْعَلْها له زَكاةً ورَحْمَةً"، وكأن النبي يتأثر بالنوازع النفسية والعوارض العاطفية. بينما أمير المؤمنين (ع)، الذي رباه رسول الله (ص) يقول: "إِنِّي أَكْرَهُ لَكُمْ أَنْ تَكُونُوا سَبَّابِينَ وَلَكِنَّكُمْ لَوْ وَصَفْتُمْ أَعْمَالَهُمْ وَذَكَرْتُمْ حَالَهُمْ كَانَ أَصْوَبَ فِي الْقَوْلِ". هذا يوضح أن قدوة الإنسان تنعكس على سلوكه.
النقطة الثانية التي تطرق إليها سماحته هي الرصيد الإيجابي للتفاعل مع الناس. الطبيعة البشرية والاجتماعية تفرض نوعًا من التفاعل بين الأفراد؛ فالإنسان بطبيعته لا يستطيع العيش منعزلًا. من معاني تسميته "إنسان" أنه "يأنس" بغيره من الناس ، لهذا التفاعل فوائد عظيمة تعود بالنفع على الإنسان، ومن أبرزها: إثراء مشاعر الحب والتعاون ، و تطوير المهارات والقدرات ،فالتفاعل مع الناس يطور ويقوي المهارات الاجتماعية، مثل القدرة على بناء العلاقات والتأثير في النفوس. ، كما أن التفاعل الاجتماعي يسهم في تمتين الروابط والعلاقات بين أفراد المجتمع. فالمجتمعات المتفاعلة تزداد فيها حالات التكافل والتساعد. عندما يتألم أحدهم، تجد الجميع يقف إلى جانبه . بالإضافة الى أنّ التفاعل بين الناس يمكن أن يكون سببًا لنيل رضا الله عز وجل والتقرب منه ونيل الثواب والجزاء، وذلك من خلال خدمة المجتمع. فالسعي في قضاء حاجة الأخ المؤمن كالسعي بين الصفا والمروة، وهو من أعظم العبادات
رغم الإيجابيات العظيمة للتفاعل والعمل الاجتماعي، إلا أنه ينطوي على العديد من السلبيات والمشاكل. يبتعد البعض، خاصة فئة الشباب، عن العمل التطوعي بسبب المشاكل التي قد ترافق هذه الأعمال. قد يواجه العاملون في المجتمع من يسيء إليهم، أو يضع العراقيل أمام تقدم العمل. لكن هل الحل يكمن في الابتعاد عن العمل الاجتماعي؟ بالطبع لا. فلو ابتعد الجميع، من سيعمل في المجتمع ويخدمه؟ الحل يكمن في إعادة النظر في مسألة الصبر والتحلي بالنفس الواسعة لتقبل ما قد يطرأ على الإنسان في المجتمع. يجب على الخادم أو العامل في المجتمع أن يضع نصب عينيه نيل رضا الله عز وجل، ولا ينتظر الشكر أو التقدير أو التكريم من أحد. فإذا لم تكن النية خالصة لله، فلا فائدة من العمل، ويزول أثره بانتهاء ما ارتبط به من مكاسب مادية أو دنيوية. أما العمل الذي يرتبط بالله عز وجل فيستمر ويدوم ، بالإضافة إلى ذلك، لا يجوز السكوت على الخطأ، فالإنسان غير معصوم وقد يقع في خطأ أو سوء تقدير. لكن في المقابل، لا يجوز التشهير والتسقيط لذلك الإنسان بحجة تصحيح الأخطاء. فبعض الأفراد قد يستخدمون وسائل التواصل الاجتماعي لتسقيط الآخرين اجتماعيًا بسبب أخطائهم، مما يؤثر ليس فقط على الشخص المستهدف، بل على بقية الناس الذين قد يترددون في الانخراط في الأعمال التطوعية خوفًا من التعرض لمثل هذا التسقيط. بدلًا من ذلك، يجب علينا تشجيع الأعمال الاجتماعية بصورة عامة، والتكاتف معًا لتصحيح الأخطاء والسلبيات.
النقطة الأخيرة هي ثقافة الاحترام. كل إنسان يرغب في أن يحترمه الآخرون، وهذا حق مشروع ينبع من حب الذات والحرص على الكرامة. لكن في المقابل، على من يرغب في الاحترام أن يبادر هو نفسه إلى احترام الناس وتقديرهم. فمن يسيء إلى الآخرين يجب أن يتوقع ردة الفعل، ولا يستهين بقدرة الناس على ذلك. يقول النبي (ص) "لعن الله من لعن أبويه"، وحين سُئل كيف يلعن الرجل أبويه، أجاب: "يلعن أبا الرجل فيلعن أباه، ويلعن أمه فيلعن أمه". هذا يعني أن التعامل مع الناس بعبارات غير لائقة قد يدفعهم إلى الرد بالمثل. أمير المؤمنين (ع) علم الإمام الحسن، وكأنما يوصينا، بقوله: "يا بني، اجعل نفسك ميزانًا فيما بينك وبين غيرك، فأحبب لغيرك ما تحب لنفسك، واكره له ما تكره لها، ولا تظلم كما لا تحب أن تظلم، وأحسن كما تحب أن يحسن إليك، واستقبح من نفسك ما تستقبحه من غيرك، وارضَ من الناس بما ترضاه لهم من نفسك". يجب أن يكون الوسط الديني، على وجه التحديد، سباقًا في إقرار مبدأ الاحترام مع الآخرين. من المؤسف أن بعض الفئات الدينية قد تعتقد أنها تمثل الحق المطلق وأن غيرها على باطل، وهو افتراء كبير وخطأ فادح في حق الإسلام. يقول القرآن الكريم: "وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا ۗ قُلْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ ۖ أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ".
نحن بأمس الحاجة كمنتمين للحالة الدينية إلى أن يحترم بعضنا البعض حتى وإن اختلفنا في أفكارنا أو دوافعنا. فلقد وصل المجتمع إلى حالات سيئة من التعامل بين بعض المؤمنين، كالطعن في توجهاتهم وانتماءاتهم العقائدية. هذه الحالات تسبب هزة عنيفة في نظرة عامة الناس للمؤمنين ولصورة الدين والمتدين. يجب علينا أن نصحح أمورنا، فالإنسان يسعده أن يقابله أخوه المؤمن بالحب والبشاشة. يقول أمير المؤمنين (ع) : "البشاشة حبالة المودة". وقد نتعرض للانتقاد أو الخلاف، لكن هناك رواية عظيمة لأمير المؤمنين تقول: "إن أردت قطيعة أخيك فاستبق له من نفسك بقية يرجع إليها إن بدا له ذلك يومًا ما". أي لا تقطع كل الحبال، فالدنيا متغيرة، ومن تختلف معه اليوم قد تجده معك في نفس الخندق غدًا، خاصة عندما يعتدي أعداء الإسلام علينا. لا بد من التكاتف، وهذا لا يكون إلا عبر المودة وطيب الأخلاق والتفاعل الإيجابي.
الكراني ليلة الخامس من شهر محرم الحرام 1447 هـ /2025م



















































































التعليقات (0)