على مشارف شهر الله.. شهر رمضان المبارك، يرتقي رسول الله صلّى الله عليه وآله منبر الجمعة فيخاطب جماهير المسلمين، يذكّرهم ويبعث في أنفسهم الشوق إلى عبادة الله والتقرّب إليه تبارك وتعالى قال صلّى الله عليه وآله:
«أيّها الناس، إنّه قد أقبل عليكم شهرُ الله بالبركة والرحمة والمغفرة، شهرٌ هو عند الله أفضل الشهور، وأيّامه أفضل الأيّام، ولياليه أفضل الليالي، وساعاته أفضل الساعات. وهو شهر دُعيتم فيه إلى ضيافة الله، وجُعلتم فيه من أهل كرامة الله. أنفاسُكم فيه تسبيح، ونومكم فيه عبادة، وعملكم فيه مقبول، ودعاؤكم فيه مستجاب».
نعم.. تلك بشارات صادقة، تبعث الرجاء والأمل، وتشد القلب إلى الطاعة بحنين وشوق، فماذا ينبغي علينا بعد شكرنا لله جلّ وعلا على هذه النِّعم العظمى ؟ يقول صلّى الله عليه وآله وسلّم:
«فاسألوا ربّكم بنيّاتٍ صادقة، وقلوبٍ طاهرة، أن يوفّقكم لصيامه وتلاوة كتابه، فإنّ الشقيّ مَن حُرم غفران الله في هذا الشهر العظيم.
واذكروا بجوعكم وعطشكم فيه جوعَ يوم القيامة وعطشه، وتصدّقوا على فقرائكم ومساكينكم، ووقّروا كباركم وارحموا صغاركم، وصِلوا أرحامكم، واحفظوا ألسنتكم وغُضّوا عمّا لا يَحِلّ الاستماع إليه استماعَكم، وتَحنّنوا على أيتام الناس كما يُتَحنّنُ على أيتامكم، وتوبوا إلى الله من ذنوبكم، وارفعوا إليه أيديَكم بالدعاء في أوقات صلواتكم؛ فإنّها أفضل الساعات، ينظر الله عزّوجلّ فيها بالرحمة إلى عباده، يجيبهم إذا ناجَوه، ويلبّيهم إذا نادَوه، ويستجيب لهم إذا دَعَوه.
أيّها الناس، إنّ أنفسَكم مرهونة بأعمالكم، ففكُّوها باستغفاركم، وظهورَكم ثقيلة من أوزاركم، فخفّفوا عنها بطول سجودكم.
أيّها الناس، مَن حسّن منكم في هذا الشهر خُلقَه كان له جوازاً على الصراط يوم تَزِل فيه الأقدام، ومَن خفّف في هذا الشهر عمّا ملكت يمينه خفّف الله عليه حسابه، ومن كفّ فيه شرَّه كفف الله عنه غضبه يوم يَلقاه، ومن أكرم فيه يتيماً أكرمه الله يوم يلقاه، ومن وصل فيه رِحمَه وصله الله برحمته يوم يلقاه.
أيّها الناس، إنّ أبواب الجِنان في هذا الشهر مُفتّحة، فاسألوا ربّكم أن لا يُغلقها عليكم، وأبواب النِّيران مُغلّقة، فاسألوا ربّكم أن لا يفتحها عليكم، والشياطين مغلولة، فاسألوا ربّكم أن لا يسلّطها عليكم.
هكذا تكون كلمات حبيب الله صلّى الله عليه وآله نافذةً إلى القلوب، موقظةً للأرواح من الخمول والفتور في العبادة، فتنشط النيّات وتنهض الأبدان لطاعة بارئها عزّوجلّ، وتنشط الأرواح ملبيّة على حال من الرغبة والاستئناس، تَنشد مرضاة ربّها ورحمته، وهي مقتربة من بعض الحالات التي سبقتها في شهر شعبان في المناجاة الشعبانيّة الشريفة الصادرة عن أمير المؤمنين عليٍّ عليه السّلام:
إلهي انظُرْ إليّ نظَرَ مَن ناديتَه فأجابك، واستعملته بمعونتك فأطاعك.
إلهي هبْ لي قلباً يُدنيه منك شَوقُه، ولساناً يُرفَع إليك صِدقُه، ونظراً يُقربّه منك حقّه.
إلهي وألهِمْني ولَهاً بذِكركَ إلى ذِكرك، وهمّتي في رَوح نجاح أسمائك ومحلِّ قدسك.
إلهي بك عليك إلاّ الحقتَني بحملّ أهل طاعتك، والمثوى الصالح من مرضاتك.
إلهي، واجعلْني ممّن ناديتَه فأجابك، ولاحظتَه فصَعِق لجلالك، فناديتَه سِرّا، وعمل لك جَهْرا.
إلهي فَلَك أسأل وإليك أبتهل وأرغب، وأسألك أن تصلّي على محمّد وآل محمّد، وأن تجعلني ممّن يديم ذِكرَك، ولا يَنقُض عهدَك، ولا يَغفُل عن شكرك، ولا يستخفّ بأمرِم.
وكلّما وقف المرء على أعتاب النصوص المباركة، من آيات مباركات أو أحاديث شريفة فاحت من البيت النبويّ الزاكي فيما يتعلّق بشهر رمضان ـ يجد أن صيامه عائد على الناس بالخير من جميع جوانبه، وبالعُقبى ما تقرّ به العيون وتطمئنّ القلوب، لا سيّما إذا راعى الناس مقتضيات عبادة الصوم، وجاؤوا بها مقرونة بآدابها المعنويّة، حينذاك سيجنون ثمار الفضائل:
1. الروحيّة: الصوم يولّد في قلب العبد حالة التقوى، فهو من جهة يراعي أحكام هذه الفريضة، فيراقب نفسه ويتحرّى ألاّ يُسخط ربّه جلّ وعلا، ومن جهة أخرى يحذر أن يصدر منه قول أو فعل يؤذي به الآخرين، فيُفسد على نفسه ثواب الصوم، وتفوته الأهداف السامية التي كان يترقّبها من انقطاعه عن الطعام والشراب. فالآية التي خاطبته بالصيام تنبّهه إلى غايةٍ شريفة هي التقوى، فهي تقول له مُناشدةً قلبّه وضميره:
يا أيّها الذين آمنوا كُتبَ عليكمُ الصيامُ كما كُتب على الذين مِن قبلِكم لعلّكم تتّقون.
إنّ الصوم يربّي عنده مراعاة أوامر الله تعالى ونواهيه، ويشدّه إلى طاعة المولى تبارك وتعالى، ويقطعه عمّا يستفزّه الشيطان إليه من المعاصي والوساوس والأهواء. وعندئذ تُشرق الروح بتوجّهها إلى الله عزّ شأنه، ويستنير العقل بأخذ أحكام الشرع الحنيف، وتشعّ الحكمة في القلب قولاً سديداً وعملاً صالحاً.. وقد رقّته الصيام وأذهب قساوته ونبّهه من غفلته، وشوّقه إلى العبادة يلتذّها ويستزيد منها.
2. الفضائل الأخلاقيّة: الصوم صبر، والصبر ـ في كلمات رسول الهدى وأهل بيته صلوات الله عليهم ـ منزلتُه من الإيمان بمنزلة الرأس من الجسد، فإذا ذهب الصبر ذهب الإيمان، فلا إيمان لمن لا صبر له، إذ هو رأس الإيمان.
والصوم يخلق حالة الصبر، إذ يقوّي الإرادة، ويُمسك العبدَ عن التهوّر والانفعال والسلوك غير المتّزن، فيقيّده بأحكام وآداب الشريعة، ويمنحه مناعة من المؤثّرات الداعية إلى المعاصي. فيغضّ بصره عمّا لا يحلّ النظرُ إليه، ويغضّ سمعَه عمّا لا يحلّ الاستماع إليه، ويغضّ لسانه عمّا لا يحلّ الكلام فيه.. وهكذا يراقب جوارحه متحرّزاً من أيّ ذنبٍ يسخط الله تعالى عليه وهو صائم يتوخّى طاعة ربّه ويرجو رحمته.
وبهذا يكون أبعدَ عن الكذب والغيبة والنميمة والنظرة الحرام، وعن الظلم والحسد والمِراء والسَّفَه.. وعن كلّ قبيح وسوء وباطل وإثم، بل وعن كلّ ما لا يحبّه الله تعالى ولا يرتضيه ممّا لا يليق بالصائم، فهذا شهر الخير والرحمة، وهذه سُوَيعات أجدر بالمؤمن ألاّ تفوته في أعمال البرّ، وألا يَغفل فيها فيكتفي منه بالامتناع عن الطعام والشراب، وتلك وصيّة الإمام جعفر الصادق عليه السّلام: إذا صُمتَ فلْيَصُم سمعُك وبصرك وشَعرك وجِلدك ـ وعدّد عليه السّلام أشياء غير هذا ـ ثمّ قال: لا يكون يومُ صومِك كيوم فِطرك.
الصوم في عمقه صوم عن الحرام. وأدنى الصوم الامتناع عن الأكل والشرب في نهرا شهر رمضان، وإنّما بالصبر عن الأكل والشرب يُراد الصبر على الطاعات وعن المعاصي. وتلك حكمة النبيّ الأكرم صلّى الله عليه وآله وسلّم: إنّ الصوم ليس من الطعام والشراب، وإنّما جَعَل الله ذلك حجاباً عنه سواهما من الفواحش.
3. الفضائل النفسيّة: يرتقي الإنسان بالصيام عن حالة الجشع والنهم، وعن إطلاق الشهوات بلا ضوابط ولا حدود، ودون مراعاة أو اعتبار. فالصائم يترفّع ويتنزّه أن يمارس ما تمارسه المخلوقات الأخرى التي لا تمتّع بالارادة الإنسانيّة، فميسك نفسه عن تناول المضرّات، ولا يرتضي لنفسه أن تُقبل بلا رويّة ولا أصول على الأطعمة والأشربة كيفما اتّفق وأينما كان ومن أيّ مصدر ورد.
وبذلك يحقّق الصوم مَلَكة نفسيّة تمنح المرء حريّتَه من العبوديّات للمشتيهات والنزوات، ولكل شيءٍ يضرّ بكرامته ولكلّ أحد يذلّه. بل يجد الصائم بعد شهر رمضان إرادةً أقوى نفساً أسمى من أن يخضع للباطل والشرّ والظلم، فقد تسلّح بالإباء خلال دورة الصيام، ووجد داخله يأبى أن يتردّى في مهاوي الضعف والهوان، ووجد نفسه تتحلّى بمعنويات عالية، ترتقى على نوازع الهوى، وتقوى على قمع الشهوات الطائشة.
• يقول الإمام الرضا عليّ بن موسى عليهما السّلام في بيان علّة وجوب الصوم: لكي يعرفوا ألم الجوع والعطش... مع ما فيه من الانكسار عن الشهوات.
4. الفضائل الاجتماعيّة: يُسأل الإمام الحسين عليه السّلام: لمَ افترض الله عزّوجلّ على عبده الصوم ؟ فيقول: ليجد الغنيّ مَسَّ الجوع، فيعود بالفضل على المسكين.
• وعن الإمام الصادق عليه السّلام: أمّا العلّة في الصيام، ليستويَ به الغنيّ والفقير، وذلك لأنّ الغنيّ لم يكن ليجد مَسّ الجوع فيرحم الفقير؛ لأنّ الغنيّ كلّما أراد شيئاً قدر عليه، فأراد الله عزّوجلّ أن يسوّي بين خَلْقه، وأن يُذيق الغنيَّ مَسّ الجوع والألم؛ ليرقّ على الضعيف ويرحم الجائع.
• وفي بيان علل الشرائع، يقول الإمام عليّ الرضا سلامُ الله عليه: لكي يعرفوا ـ أي بالصوم. ألم الجوع والعطش، ليستدلّوا على فقر الآخرة... وليكون ذلك واعظاً في العاجل، ورائضاً لهم على أداء ما كلّفهم ودليلاً في الآجل، ليعرفوا شدّة مبلغ ذلك على أهل الفقر والمَسكنة في الدنيا، فيؤدّوا إليهم ما افترض الله تعالى عليهم في أموالهم.
من هنا يكون الصوم وقد فُرض على الناس ـ كبيرهم وصغيرهم، غنيّهم وفقيرهم، رئيسهم ومرؤوسهم ـ سبباً لتقريب الشُّقّة بين الناس، شأنه شأن الصلاة التي تجمعهم في صفوف واحدة، فتذيب حالات التفاوت والتمايز، وتبدل التكبرّ والعُجب والتواضع والتقارب. فيخلق الصوم حالةً من تصحيح العلاقات الاجتماعيّة بين طبقات الناس وفئاتهم، وتجعل الأجواء أقرب إلى المساواة والوحدة في الشعور بالغاية الواحدة والهدف الواحد والاتّجاه الموحّد.
ثمّ إنّ الصيام يعمّق التعاطف الإنسانيّ والأخويّ، فيكسر قلب الغنيّ على الفقير والمسكين، متذكّراً ما مسّه طوال السنين من ألم الجوع وألم الحرمان، فتحلّ الرحمة مكان القسوة، والسخاء بدل البخل، والصلة عوض القطيعة.
التعليقات (0)