واصلت حسينية الحاج أحمد بن خميس مجالسها الحسينية في ليلة الثالث من موسم محرم 1447هـ، حيث استُهل البرنامج بتلاوة عطرة للقرآن الكريم للقارئ محمود الحرحوش ، تبعتها زيارة الإمام الحسين (ع) بصوت الرادود أحمد الكدّاد . وتحت عنوان "الإسلام يُفدى بالأرواح"، افتتح سماحته المجلس بمقطع من الزيارة الشريفة: "وبذل مهجته فيك ليستنقذ عبادك من الضلالة والجهالة، والعمى والشك والارتياب إلى باب الهدى من الردى".هذا يبرز إحدى أهم الخصائص التي يتميز بها أتباع مدرسة أهل البيت (ع)، وهي حب الشهادة وبذل النفس دفاعًا عن الدين ومقدساته ، هذه الخصيصة مستلهمة من سيرة أهل البيت (ع) أنفسهم، حتى أصبح التشيع يُعرف بها. ويرى بعض علماء الاجتماع أن هذه السمة هي أحد أسباب نجاح وبقاء خط التشيع، بالإضافة الى ذلك إن مهمة الأئمة (ع) الأساسية كانت الحفاظ على الدين والإسلام بحيث لا تتبدل ماهيته ولا تُنسخ أو تُنسى في خضم الأحداث. لذا، بذلوا الغالي والنفيس لتحقيق هذه الغاية، حتى أصبحت حركة سيد الشهداء (ع) ملهمة ومحركة لكل الأحرار والمستضعفين، وكل حركة تنصر المظلوم وتطالب بحق مشروع ، تستلهم دروسًا من نهضة الإمام الحسين (ع).
من المسلمات الشيعية أن دم الإمام الحسين (ع) كان ضمانة لبقاء الإسلام واستمراره. ولكن عند مطالعة قضية كربلاء، تثار تساؤلات حول هذه القضية . من هذه التساؤلات: هل يجوز للإنسان أن يبذل نفسه ويضحي بحياته في سبيل الدين ونصرته؟ تكمن أهمية هذا السؤال في أن الإسلام يُسقط التكليف - حتى الواجب منه - إذا كان العمل به يعرض المكلف للخطر والضرر، كما ورد في القرآن الكريم: "لا يكلف الله نفسًا إلا وسعها لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت". بمعنى آخر، عندما يدور الأمر بين أداء تكليف واجب وبين وجوب حفظ النفس، فإن قانون الإسلام يوجب حفظ النفس ، ومن أهم الأدلة القرآنية على ذلك قوله تعالى: "ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة". قد يرى بعض العلماء أن هذه الآية الكريمة يدور حولها نقاش في دلالتها، ولكن لدينا قاعدة في التشريع الإسلامي تسقط بموجبها أي حكم يوجب الضرر، وهي قاعدة "لا ضرر" المأخوذة من الحديث النبوي: "لا ضرر ولا ضرار في الإسلام". هذه القاعدة تنفي وتحرّم الإضرار بالنفس وبالآخرين. وقد ذكر الشيخ ناصر مكارم الشيرازي أن لهذه القاعدة مكانة عالية جعلت بعض الفقهاء يكتبون رسائل مستقلة حولها. فالإسلام يوجب على الإنسان حفظ نفسه وعدم تعريضها للضرر.
العنوان الثاني هو التقية ، تعتبر التقية من الأحكام المهمة في الفقه الإسلامي، خاصة فقه أهل البيت (ع)، بحيث أصبحت سمة ملازمة لخط التشيع. فالتقية لا تكاد تنفك عنه، وعند ذكر الشيعة تتبادر التقية إلى الأذهان، والعكس صحيح. ولذلك، تمتلك التقية مقامًا ومكانة مهمة عند الشيعة. يرى بعض العلماء أن التقية قبل أن تكون منهجًا إسلاميًا، هي أسلوب عقلاني ومنطقي يعمل به كل من يعيش صراعًا مع عدو قوي متمكن منه ، لقد ذكر القرآن الكريم قضية التقية في سورة النحل ، يذكر بعض المفسرين أنه عندما تعرض عمار بن ياسر ووالديه سمية وياسر، وكذلك خباب بن الأرت، وصهيب الرومي، وبلال الحبشي للضرب والتعذيب الشديد، خاطب الرسول (ص) ياسر وزوجته: "صبرًا صبرًا آل ياسر إن موعدكم الجنة". وبسبب شدة التعذيب استشهد ياسر وزوجته سمية. أما عمار فقد نطق بما طلبه المعذبون بلسانه. وعلى الرغم من أن هذه الآية وردت في سياق التقية من الكفار، إلا أن العلماء يقولون إن الملاك واحد والهدف واحد، وهو وجوب حفظ دم المسلم وماله وعرضه في الظروف الخطيرة. فلو اضطر المرء إلى إخفاء عقيدته خوفًا على نفسه أو ماله أو عرضه من مسلم آخر، فإن حكم التقية يسري هنا، لأنه كما جازت التقية من الكافر، تجوز من المسلم لوحدة العلة والملاك والهدف بينهما.
يتساءل البعض: لماذا لم يتبع سيد الشهداء (ع) مبدأ التقية أو أي أسلوب من أساليبها ليقي نفسه؟ بل نجده (ع) ضحى بنفسه وأهله وعياله وخيرة الأصحاب، حتى الطفل الرضيع. كيف يمكن تبرير ما قام به الإمام الحسين (ع)؟ وكيف يمكن معرفة انطباق فعله على المعايير الفقهية الإسلامية؟ خاصة وأن هناك روايات تتحدث عن التقية ووجوب حفظ النفس، يحاول البعض الرد على ذلك بالقول إن الإمام الحسين (ع) لم يكن يعرف النتيجة التي ستؤول إليها الأمور، ولم يكن على دراية بوفاء أهل الكوفة ، ويزعمون أنه لو كان يعلم بنتيجة الأمر، لما قام بما قام به، ولالتزم بحكم التقية لحفظ نفسه، ولما وقعت واقعة كربلاء أصلاً. الرد على هؤلاء أن المطلع على معارف الشيعة وسيرة أهل البيت (ع) يجد أن هذا التحليل والتوجيه لا وجه له من الصحة إطلاقًا. فالأدلة والشواهد تشير إلى أن سيد الشهداء (ع) كان على دراية تامة، أي لديه علم حقيقي قطعي بما سيجري عليه. ولهذا قال: "كأني بأوصالي تقطعها عصلان الفلوات بين النواويس وكربلاء"، وبخصوص قوله (ع) "بين النواويس وكربلاء"، لا يعني ذلك أن أشلاءه ستتوزع على طول هذه المسافة الممتدة - كما يعتقد البعض - بل يشير العلماء إلى أن الإمام (ع) أشار إلى هذه المسألة إجمالاً لا تحديدًا.
ربما تنتشر هذه الشبهة ويتسع صداها إذا لاحظنا مسألة حياة الإمام الحسين (ع) في زمن أخيه الإمام الحسن (ع) بعد الصلح. فلقد قام الإمام الحسين (ع) مع أخيه الإمام الحسن (ع) بدورهما التكليفي والإلهي على أكمل وجه. وبعد حياة الإمام الحسن (ع) بعشر سنوات، سار الإمام الحسين (ع) في هذا الطريق التبليغي والتكليفي، لكنه لم يترك الأمة هكذا. بل ينقل التاريخ مكاتبات ورسائل بينه وبين معاوية، كانت تزداد حدتها كلما دعت الأمور، حتى تدرج فيها الإمام (ع) ووصلت إلى القمة، ففعل ما فعل. هناك مسألة يجب التنبيه إليها وهي مفهوم الدفاع . فالدفاع لا ينحصر على المعنى المرتكز في أذهان الناس المتعلق بالدفاع عن الوطن والبلاد فقط. بل قد تكون هناك حالات أخرى. فمن الطبيعي أن يقوم المسلمون ويساند بعضهم بعضًا إذا تعرض بلد من البلدان للاعتداء.
نقول إن مسألة الدفاع قد تكون واجبة إذا تعرض أعداء الإسلام للإسلام في قيمه ومبادئه. بل أحيانًا لا يريد الأعداء الثروات أو الأرض، وإنما المستهدف هو الإسلام بثقافته ومبادئه وقيمه. فنجد بعض البلدان الإسلامية تكثر فيها المساجد بعمرانها وزخارفها، تصدح بالآذان، يلتزم فيها بصلاة الجمعة والجماعة، ولا أحد يغلبهم في ذلك، ويأتون بالصوم والحج وبقية التكاليف والواجبات، حتى مسألة اللطم والعزاء تكون منتشرة بشكل كبير، لكنها لا تتعدى حيطان المسجد أو المأتم. ثق يقينًا أنه إذا مورس الإسلام بهذه الطريقة، فلن يكون هناك عداء من أعداء الإسلام. لكن إذا طُبق الإسلام بمراحله الأصيلة بما يريده رسول الله (ص)، فسوف تجد عداء أعداء الإسلام منتشرًا إليه. فمسألة الدفاع ليست واجبة فقط عندما يُرفع السيف ويُضرب المسلم الآخر، وإنما عندما تميع مفاهيم الإسلام، وتستهدف قيمه، ويُراد للإنسان أن يعيش ذليلاً خاضعًا لنفسه ولشهواته ورغباته. لذلك وقف الحسين (ع) وقفة مدوية ما بقي الدهر، أعلنها: "هيهات منا الذلة". وهكذا بقي خط التشيع. وقد قال (ع): "إني لا أرى الموت إلا سعادة والحياة مع الظالمين إلا برم". وهكذا تحرك الحسين (ع). بلا شك، يجمع الكثيرون على أن حفظ الدين أوجب. ولكن ما المدرك في هذا الأمر؟ هنا تأتي قاعدة يسميها الأصوليون قاعدة التزاحم. التزاحم يعني التنافي بين حكمين، وهذا التنافي ليس بالذات ولا بالعارض ولا بالجعل كما في مسألة التعارض، وإنما مسألة التزاحم هي التنافي بين مسألة الامتثال والتطبيق لعجز المكلف.
الكراني ليلة الثالث من شهر محرّم الحرام لعام 1447هـ/2025م

































التعليقات (0)