شارك هذا الموضوع

العيد: فلسفته... وآفاقه

المعنى الإنساني للعيد:
إن هذا الأسبوع أسبوع "عيد الفطر" المبارك الذي نرجو من الله سبحانه أن يعيده على المسلمين وهم أكثر إيماناً وإسلاماً ووعياً وحركيةً وانفتاحاً على كلِّ قضايا الواقع، وعلى كل متغيراته، وعلى كلّ مواضع القوة التي يملكونها ليزدادوا منها، وعلى كلِّ نقاط الضعف التي يعيشونها ليتخفّفوا منها.


إننا عندما نثير مسألة العيد فقد نتساءل ما هي فلسفته؟ وما هي آفاقه؟ فالعيد هو معنى إنساني. ونحن لا نجد أمةً من الأمم إلا ولها أعيادها الدينية والسياسية والاجتماعية، وقد أصبح لدينا تقليد جديد وهي الأعياد الشخصية كعيد ميلاد الإنسان وعيد زواجه، وما إلى ذلك...


وعندما نريد أن ندرس فكرة العيد، فإنها تنطلق من مناسبة حيوية مهمة، حيث يعيش الإنسان الفرح الكبير فيها ويحاول أن يمدّ هذا الفرح من خلال ما يمدّ به المناسبة في الذكرى تارةً وفي الممارسة تارة أخرى، ولقد جاءت كلمة العيد في القرآن في الحوار بين عيسى وأصحابه حول المائدة التي يمنحها الله لهم، ليعيشوا الفرح في معنى الكرامة الإلهية، ولتكون مناسبة يتذكرونها ويخلّدونها مع الأجيال التي تلتزم نهجهم، وتعيش سرّ الكرامة في حركتهم، وفي قاعدتهم، ولذلك طلبوا منه أن ينـزّل الله عليهم مائدة من السماء وقالوا: {تكون لنا عيداً لأوّلنا وآخرنا}(1). أن تكون عيداً يحتفل به أوّلنا الذين عاشوا الكرامة، ويحتفل به آخرنا الذين يعيشون من بركة هذه الكرامة.


أعياد الإسلام:
وفي الإسلام عيدان في المعنى المصطلح للعيد "عيد الفطر" و"عيد الأضحى". فلنقف مع عيد الفطر ونستوحي سرّ العيد فيه. ولعل أفضل كلمة قيلت في معنى العيد، في امتداد العيد بالزمن من حيث حركة هذا السرّ في الإنسان هي كلمة الإمام علي(ع): "إنما هو عيد لمن قبل الله صيامه وقيامه"(2). فلقد جاء في نهاية حركة مسؤولية عاشت في موسم معين محمّل بمختلف ألوان الروح، فيما يمكن أن يرتفع بالإنسان في عملية روحية إنسانية داخلية وخارجية، فشهر رمضان هو شهر الله الذي يفتح الله فيه باب رحمته ومغفرته ولطفه وعفوه وغفرانه للصائمين، وللقائمين، وللمجاهدين، وللعاملين، في مواقع رضاه؛ فهو شهر التوبة والمغفرة والرحمة وهو شهر القبول كما جاء عن الإمام زين العابدين(ع) في دعائه، وهو شهر الإسلام.


ولذلك فقد حشد الله في هذا الشهر ما وزّعه على بقية الشهور، فهو حمّام روحيٌ يدخله الإنسان ليغسل عقله، فلا يبقى في عقله إلا الحق، وليغسل قلبه فلا يبقى منه إلا الخير والمحبّة، ويغسل فيه حياته فلا يبقى في حياته إلا ما يرضي الله في مواضع طاعته، وليغسل فيه أهدافه فلا تكون أهدافه إلا الأهداف التي تنفتح على الغايات التي وضعها الله للإنسان ليستهدفها في حياته، وهكذا جعل الصيام وسيلة من وسائل تقوية الشخصية الإسلامية الإنسانية وتقوية الإرادة المنفتحة على وعي المسؤولية.


الصـوم الكبيـر:
فالصوم ليس مجرد وسيلة تديبية لإرادة عمياء، ولكنه وسيلة تدريبية لإرادة مفتوحة العينين في خط الله، وهكذا كان هذا الصوم الصغير مقدمة للصوم الكبير، فقد أرادنا الله أن نصوم عن كلّ المحرمات، وأرادنا الله أن نصوم عن كلّ مواقع الذل في حركة الحياة، وأرادنا أن نصوم عن كل حقدٍ وعداوةٍ وضغينةٍ وشرٍّ في مشاعرنا وعواطفنا وأحاسيسنا، وهكذا كانت مسؤوليتنا في الصوم مسؤولية تشمل كلّ مواقعنا الإنسانية الداخلية والخارجية وهي أن تكون لك إرادة البحث عن الحقيقة دون تعصب، وإرادة كلّ الذين يتحركون في خطّ الحق دون خوف، وإرادة المواجهة لكلّ الذين يقفون في وجه الرسالات دون ضعف، ولذلك كان شهر رمضان شهر الإسلام في مواقع القوة.


الزاد الثقافـي:
فإذا انطلقت إلى لقاءاتك بالله التي تعطي صومك روحانية ووعياً وانفتاحاً وثقافةً في العقيدة، وثقافة في وسائل طاعة الله، وثقافة في كل مفاهيم الإسلام في المعنى الروحي الذي لا يبتعد عن الحياة، بل يغني الحياة حيث إنك في ليالي شهر رمضان وفي نهاراته تنطلق في هذه الأدعية التي تمثل منهجاً ثقافياً تربوياً ينبت في عقلك الكثير من غراس الحق، ويزرع في قلبك الكثير من شتلات الخير، ويزرع في حياتك الكثير من أشجار القوة. وهكذا تنطلق في كلّ مواقعه صائماً منفتحاً على الله لتجمع لنفسك في هذا الشهر كلّ عناصر روحية المسؤولية ليكون الشهر بكلّ عطاءاته الموسم الزمني الذي يعطي الإنسان من روحانيته ويأخذ من الإنسان مسؤوليته.


النجاح في المسؤولية:
ليقول لك ـ أي شهر رمضان ـ أيها الإنسان إذا نجحت في مسؤوليتك، فإن هذه المسؤولية الرمضانية لا بدّ أن تتحرك لتكوّن مسؤولية العام كلّه والعمر كلّه، أيها الإنسان إذا التقيت بالله في شهر رمضان في مواقع القرب إليه فحاول أن لا يبعدك الشيطان عنه، وإذا اقتربت إلى الإنسان في مواضع التعاون على البرّ والتقوى فلا تسمح للشيطان أن يدفعك بعيداً لتتعاون على الإثم والعدوان، وهكذا نجد أنه شهر المسؤولية وشهر القرب إلى الله وشهر الرجوع إلى الله، ولذلك إذا كنت الإنسان الجاد في صيامك وقيامك، فإنها السعادة كل السعادة عندما يقبلك الله، وإذا قبلك الله وأحسست بقبول الله لك من خلال عقلك المنفتح عليه، وقلبك الخاشع بين يديه، وحياتك المتحركة في دربه، فهو العيد كلّ العيد "إنما هو عيدٌ لمن قبل الله صيامه وقيامه"(3)، وإذا أردت أن لا تجعل العيد يوماً في الزمن فبإمكانك أن تعطي الزمن في كلّ أيامه وفي كل لحظاته معنى العيد، فإذا كنت تحتفل في يوم الفطر بأنّك أطعت الله، فاليوم الثاني الذي تعيش فيه الطاعة وتبتعد فيه عن المعصية هو يوم يمكن أن تحتفل به كعيد.


العيد في مدى الزمن:
وبذلك يرتفع معنى العيدين في وجداننا وحياتنا ليكون العيد طاعة الله ولتكون مناسبة العيد مناسبة طاعة، وعند ذلك تكون كلّ أيامنا أعياداً عندما نطيع الله في صلاتنا وعندما نطيع الله في علاقاتنا، وعندما نطيع الله في كل معاملاتنا، وعندما نطيع الله في سياستنا واقتصادنا وأمننا وجهادنا في سبيل الله، عند ذلك يمكن أن نعيش العيد في امتداد الزمن. وهكذا لا يبقى العيد يوماً في السنة ولكنه يمتد ليكون سنةً في العمر وعمراً في الوجود كله.


وهذا ما ينبغي لنا، أيها الأحبة، أن نعيشه وأن نفهم أن العيد ليس لعباً ولا لهواً. وقد ورد في حديث مروي عن الإمام الحسين(ع) وقد يروى عن غيره من أئمة أهل البيت(ع)، والنبع واحد والجوهر واحدٌ والوحي واحد والأفق واحد "نظر إلى قوم يلعبون في يوم عيد الفطر، فقال: إن الله جعل رمضان مضماراً لخلقه يستبقون فيه بطاعته إلى رضوانه فسبق قوم ففازوا وقصّر قوم فخابوا فالعجب كل العجب من الضاحك اللاهي في يوم يثاب فيه المحسنون ويخسر فيه المسيئون"، فليكن فرحنا بثواب الله، وليكن حزننا من خلال سخط الله كما قال علي(ع) لابن عباس: "فلا يكن أفضل ما نلت في دنياك بلوغ لذةٍ وشفاء وغيظ، ولكن إطفاء باطلٍ وإحياء حق، فليكن سرورك فيما قدّمت لغدك وأسفك فيما خلّفت من فرص وهمك فيما بعد الموت"(4)، {وفي ذلك فليتنافس المتنافسون}(5).
والحمد لله رب العالمين


--------------------------------------------------------------------------------
الهوامش:
(1) سورة المائدة، آية:124.
(2) نهج البلاغة، قصار الحكم:428.
(3) نهج البلاغة، قصار الحكم:428.
(4) نهج البلاغة، الكتاب: 66.
(5) سورة المطففين، آية:26. 

التعليقات (0)

شارك بتعليقك حول هذا الموضوع

شارك هذا الموضوع