شارك هذا الموضوع

القرآن ودوره في صياغة الشخصية الإنسانية

يقول الله سبحانه وتعالى في كتابه المجيد: {شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن هدىً للناس وبيّناتٍ من الهدى والفرقان}[ البقرة:185]، نعيش في هذا الشهر أجواء القرآن التي قد لا نعيشها بانفتاح وتدبّر وتأمل، لأن الواحد منّا ما إن يبدأ بقراءة السورة حتى يستعجل ختمها، ما يؤدي إلى ختم القرآن بسرعة من دون أن يفهم ما يقرأ.


من هنا جاءت عملية التأكيد على تلاوة القرآن في شهر رمضان فكراً وتدبراً وعملاً لنكون المجتمع القرآني، وليجسد كل فرد منّا القرآن في سلوكه العملي، بحيث نكون في مقارنة دائمة بين الواقع الذي نعيش فيه في أخلاقنا وفي أوضاعنا وفي كل مشاريعنا وتطلعاتنا، وبين القرآن حتى يكون القرآن لنا هدىً ونوراً وفرقاناً بين الحق والباطل.


ونحاول في هذه الوقفة القصيرة أن نتوقف أمام الآيات القرآنية في سورة الإسراء التي أكدت الوصايا العشر التي جاءت بها الرسالات، وتمثل الخط الرسالي الذي أنزله الله على موسى وعيسى وختمه بمحمد(ص)، والتي ترسم للإنسان حدود علاقته بربه وبوالديه وبالحياة العامة، كما أنها تحدد له مسار علاقته بالثروة الاقتصادية وكيفية تحركه الأخلاقي والنفسي في الحياة، وعلاقته بالفكر الذي يلتزمه وما إلى ذلك من أمور.


عبادة الله
كما أن هذه الآيات تحاول أن تصوغ الإنسان المسلم صياغة أخلاقية، روحية، عملية، فكرية، متوازنة، يستطيع من خلالها أن يكون إنسان الحياة الذي يتحمل مسؤوليتها من خلال إيمانه وإسلامه {وقضى ربك أن لا تعبدوا إلى إياه}[الإسراء:23]، وهذه هي الوصية الأولى التي تقضي بأن توحِّد الله في العبادة، فلا يخضع فكرك ولا يخشع قلبك لغيره، ولا تتحرك حياتك في أي درب يخططه غير الله إذا كان على خلاف درب الله.


وذلك هو معنى الوحدانية في العبادة التي تعني أن يكون الله كل شيء في حياتك، وفي فكرك، وفي قلبك، وفي حركتك في الحياة، بحيث تكون ارتباطاتك بالناس وبالأرض وبالأشياء من خلال ارتباطك بالله، حتى تكون الإنسان الذي يحب الناس والأرض والأشياء من خلال الله، ويرفض الناس والأرض والأشياء من خلال الله، ذلك هو معنى أن تعبد الله وحده في كل جوانب حياتك، على أن لا تكون عبادتك لله في المسألة الروحية فحسب، ولكن في المسائل الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، بحيث لا تقدم رجلاً ولا تؤخر أخرى حتى تعلم أن ذلك لله رضى.


الإحسان للوالدين
ويتوجه الله سبحانه وتعالى في الوصية الثانية للوالدين {وبالوالدين إحساناً}[الإسراء:3]، حيث لهما دورهما في وجودك، لأنهما الوسيلة العملية الفعلية له والذي خلقه الله ونظّمه وجعل له قوانين في جسد أبيك وفي جسد أمك، وتعهدك وأنت نطفة، فعلقة، فمضغة، ثم بعد أن صرت لحماً كسا الله العظام لحماً وأنشأك خلقاً آخر، وبعدها انطلقت في الحياة يرعاك أبواك اللذين أودع الله في كيانهما معنى المحبة والعاطفة والرعاية لك، ولولا ذلك لما أطاقا أن يتحملا مسؤوليتك لحظة واحدة، لما يترتب على ذلك من جهد كبير.


إذاً، الإحسان لوالديك هو العنوان الكبير لعلاقتك بهما، والطاعة لهما ليست بالمعنى الذي تطيع فيه الله أو تطيع فيه الرسول أو تطيع فيه أولي الأمر، لأن الله لم يجعل خط الطاعة للوالدين إلا من خلال علاقة الطاعة بالإحسان، فإذا كانت الطاعة في دائرة الإحسان كان عليك أن تطيعهما، أما إذا انطلقت الطاعة بخلاف مصلحتك أو مصلحة الأجواء من حولك أو بخلاف أوامر الله ونواهيه، هنا يقول سبحانه وتعالى: {وإن جاهداك على أن تشرك بي ما ليس لك به علم فلا تطعهما وصاحبهما في الدنيا معروفاً}[لقمان:15]، {إما يبلغنّ عندك الكبر أحدهما أو كلاهما فلا تقل لهما أفٍ ولا تنهرهما وقل لهما قولاً كريماً* واخفض لهما جناح الذلّ من الرحمة وقل ربّ ارحمهما كما ربياني صغيراً}[الإسراء:23ـ24].


الرحمة في الكلمة، في الممارسة، في النظرة، في علاقتك بوالديك، لقد رحماك فرعياك في طفولتك، وعليك أن ترعاهما عندما تنطلق في حياتك وتصبح شاباً، لأنهما يحتاجان إليك {هل جزاء الإحسان إلا الإحسان}[الرحمن:60]، {ربكم أعلم بما في نفوسكم أن تكونوا صالحين فإنه كان للأوابين غفوراً}[الإسراء:25]، إن الله يعلم ما في نفوسكم ودوافعكم للعمل، ودوافعكم للبر بالوالدين، ودوافعكم في كل ما تقومون به، فإن تكونوا صالحين فإن صلاحكم يُجعل الأساس لغفران ذنوبكم التي أذنبتموها، فعليكم أن تعيشوا الصلاح في أنفسكم وفي أعمالكم، فذلك هو شرط غفران ذنوبكم أو أنه هو الذي يهيىء الفرصة للغفران فيما أراده الله لكم في الحياة.


مجال الإنفاق
وفي الوصية الثالثة أراد الله سبحانه وتعالى للإنسان أن يتحرك في الإنفاق على المحتاج، حيث يقول سبحانه: {وآت ذا القربى حقّه والمسكين وابن السبيل ولا تبذّر تبذيراً* إن المبذرين كانوا إخوان الشياطين وكان الشيطان لربه كفوراً}[الإسراء:26ـ27]، حيث رزقك الله مالاً، وجعله طاقة لعباده في الحياة، وقد أعطاك بعض هذه الطاقة وأراد لك أن تحركها وتقوم بمسؤوليتها في الإنفاق على من يحتاج إلى الإنفاق، بأن تنفق على ذوي القربى وعلى المسكين وابن السبيل، وأن تنفق على نفسك بشرط أن لا تبذر، فتصرف الشيء من دون فائدة وفي غير محله، ومن دون دراسة للنتائج العملية التي يمكن أن يقدمها هذا المال لحياتك ولحياة الناس.


يقول الله سبحانه وتعالى يمكنك أن تلهو بعض اللهو بوقتك لتجدد طاقتك على أن تقوم بمسؤوليتك، ولكن إياك أن تلهو بمالك وبجهدك وبثروتك كما يلهو الإنسان من دون أن يخطط للإنفاق، لأن التبذير ليس مجرد مسألة اقتصادية يعود ضررها عليك من ناحية ذاتية على أساس حالتك الاقتصادية، ولكنها مسألة تتصل بروحيتك وبانفتاحك على ربك في مسؤوليتك، لأن الله عندما أعطانا طاقاتنا، طاقة العلم، القوة، المال، حمّلنا مسؤولية هذه الطاقات بأن نصرفها في ما ينفعنا وينفع الناس وينفع الحياة، لا نبذرها ولا نتلفها، وأن لا نوجهها إلى ما يفسد الناس أو إلى ما لا ينفعهم فنكون بهذه الحال نبذل جهداً ضائعاً.


إذا كنت الإنسان المبذر فأنت الإنسان الذي يعيش أخوة الشيطان في سلوكه وفي تصرفه، لأنه عندما أنعم الله عليك بنعمة المال، فإنه أراد منك أن تشكر النعمة، وشكر النعمة ليس أن تقول بلسانك أشكر الله أو الشكر لله، بل أن شكر النعمة إنما يكون بتوجيه النعمة في خط المسؤولية التي جعلها الله على عاتقك في كل شيء، فإذا وجهت النعمة في غير الوجهة التي تنفع بها، فإنك بذلك تكون قد كفرت بنعمة الله من الناحية العملية وأي كفر للنعمة هو أعظم من أن تقتل النعمة فتجعلها شيئاً ضائعاً في الحياة.


يقول الله سبحانه وتعالى: {إن المبذرين كانوا أخوان الشياطين وكان الشيطان لربه كفوراً}[الإسراء:27]، وأخوان الشياطين كالشياطين، لأنهم ينطلقون في خط الكفر لله، وكفر النعمة الذي قد يؤدي إلى كفر العقيدة وكفر العمل باعتبار أن الإنسان الذي يعيش أجواء الشيطان في موقع من المواقع، فإنه يمكن أن يجره إلى المواقع الأخرى من خلال أجواء الألفة والأخوة الشيطانية {وإما تعرضنّ عنهم ابتغاء رحمةٍ من ربّك ترجوها فقل لهما قولاً ميسوراً}[الإسراء:28]، إذا كانت المصلحة تقضي بأن تعرض عن هؤلاء المبذرين والشياطين فلا تصدهم بقوة، بل تحدث معهم بشكل ميسور لكي تبعدهم عن هذا الجو.


ويحدد الله لنا بعد ذلك طرق إنفاقنا للأموال، وقد يفكر بعض الناس بطريقة تجعله يكدّس الأموال لمواجهة الظروف الصعبة على طريقة "وفّر قرشك الأبيض ليومك الأسود"، حتى ولو احتاج الناس إلى مساعدته وعلا صراخهم من حوله، فلا يساعدهم بحجة أنه ليس رباً وإنما للناس رب خلقهم {أنطعم من لو يشاء الله أطعمه}[يس:47]، كما أن بعض الناس يعمل على صرف كل ما في جيبه اعتماداً على قول: "اصرف ما في الجيب يأتي ما في الغيب"، وهذا لا يبقي ليرة واحدة في جيبه، ولكن المعيار الصحيح لصرف المال هو أن توازن في الإنفاق، {ولا تجعل يدك مغلولةً إلى عنقك ولا تبسطها كل البسط}[الإسراء:29]، أي أن لا تمنع العطاء عن الناس ولا تصرف كل ما في جيبك، بل اتخذ حداً وسطاً.


فالوسطية وخط التوازن هو أن تبقي لنفسك ما يمكن لك أن تحفظ به ظروفك الحاضرة والمستقبل القريب، وأن تعطي من نفسك ما يحتاجه الآخرون.


وقال تعالى في القرآن الكريم في آية أخرى {إن ربك يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر لمن يشاء من عباده إنه كان بعباده خبيراً بصيراً}[الإسراء:30]، أي اتبع خط الله في الإنفاق والله يريد لك أن تتوازن، فلا تجعل نفسك وأولادك كلاًّ على الناس ولا تحرم الناس من عطاياك.


بين التخطيط والثقة بالله
ويشير سبحانه وتعالى في الوصية الرابعة {لا تقتلوا أولادكم خشية إملاق نحن نرزقهم وإياكم إن قتلهم كان خطأً كبيراً} [الإسراء:31]، تؤكد هذه الآية أن بعض الناس كانوا في الجاهلية يقتلون أولادهم خشية الفقر، لأن كثرة الأولاد ربما أربكت وضعه الاقتصادي، فكان يتخلص من هذه المشكلة عن طريق قتل الزائد منهم عندما يأتيه بطريق "الغلط"، كما يفعل بعض الناس حالياً، بحيث تحمل نسوتهم بعد استعمال كل وسائل المنع من الحمل، فيبادر إلى قتل ولده أو ما كان مشابهاً لهذه الحالة.


ويحذر الله سبحانه وتعالى من قتل الأولاد خشية الفقر، لأن الذي يرزقكم حتى بلغتم هذه المرتبة هو الذي يرزقهم، ولذلك فإن قتلهم يعد خطأً كبيراً.


ويستفاد من هذه الوصية أنها تؤكد على مسألة إيمانية، مفادها أن الإنسان الذي يبادر إلى قتل ولده مخافة عدم قدرته على إعالته، هو إنسان لا يثق بالله، ولا يعرف مقدار حكمته وسنته في خلقه.


ولذلك، ينبغي أن لا تعيش هذه الفكرة في ذهن المؤمن، بحيث يفقد الثقة بالله وهذا لا يعني أن نعيش الفوضى في الحياة، ولكنه يعني أن ننطلق من الواقع في مسألة تخطيطنا لرزقنا وحياتنا من جهة، ومن ثقتنا بالله من جهة أخرى، لأن هناك خطان في الرزق، خط الوسائل المادية التي بأيدينا، وخط الوسائل الغيبية التي هي بيد الله، ويحدثنا الله سبحانه وتعالى في ذلك: {ومن يتق الله يجعل له مخرجاً ويرزقه من حيث لا يحتسب ومن يتوكل على الله فهو حسبه إن الله بالغ أمره قد جعل الله لكل شيء قدراً} [الطلاق:2ـ3]، {أليس الله بكافٍ عبده ويخوفونك بالذين من دونه ومن يضلل الله فما له من هاد} [الزمر:36]، {ولا تقتلوا أولادكم خشية إملاق نحن نرزقهم وإياكم إن قتلهم كان خطأً كبيراً}.


من الناحية الفقهية تتجه هذه المسألة إلى التأكيد بأن لا يعيش الإنسان هذا الهاجس، وأن لا يقتل ولده في الحمل، ولذلك فإن الإجهاض محرم في جميع حالاته، حتى في المرحلة الأولى من مراحل الحمل، أي منذ انعقاد النطفة، ولذا يحرم الإجهاض بإجماع جميع الفقهاء سواء دبّت فيه الروح أم لم تدب، وقد جعل الله دية معينة لكل مرحلة من المراحل التي يحصل فيها الإجهاض، ولا يجوز الإجهاض إلا في حالة واحدة، وهي حالة الخوف على حياة الأم أن تموت لو استمر الحمل، وهذه هي الحالة الوحيدة التي يبيح فيها الفقهاء أو بعض الفقهاء ذلك.


ولا تقربوا الزنى
وفي الوصية الخامسة يقول تعالى: {ولا تقربوا الزنى إنه كان فاحشة وساء سبيلاً} [الإسراء:32]، بحيث جعل الله سبحانه وتعالى الجنس لدى الإنسان حاجة طبيعية، وأراد له أن يلبي هذه الحاجة الجسدية، كما هو الطعام والشراب، وقد نظم الله سبحانه وتعالى وسائل الجنس، كما نظم للطعام والشراب وسائله، فجعله محصوراً في الزواج فحسب، دون غيره، كملك اليمين كما كان يجري سابقاً، ولذلك ليس لأي إنسان أن يمارس هذا الجنس، بدون علاقة زوجية، لأن الله يعتبر من يقوم بممارسته خارج إطار العلاقة الزوجية يرتكب فاحشة كبيرة، أي أنه يتجاوز الحدّ الذي رسمه الله سبحانه وتعالى في هذا الجانب، كما أنه يتجاوز الحد فيما هو مصلحة الإنسان، {وساء سبيلاً} يعني هو السبيل السيّىء الذي لا يخدم صاحبه وإنما يسيء إليه.


القتـل الحـرام
وفي الوصيتين السادسة والسابعة يقول سبحانه: {ولا تقتلوا النفس التي حرّم الله إلا بالحق ومن قتل مظلوماً فقد جعلنا لوليّه سلطاناً فلا يسرف في القتل إنه كان منصوراً} [الإسراء:33]، تؤكد هذه الآية على حماية النفس الإنسانية، لأنه ليس لك أن تقتل النفس التي حرّم الله أن تقتل، مهما كانت قوتك، ومهما كانت حالتك النفسية وأوضاعك الاجتماعية والسياسية.


فالله هو الذي خلق هذه النفس وهي ملك لله وليس لك أن تتصرف في ملك الله إلا بإذنه، لذلك فالأصل حرمة كل دم إلا بالحق، إلا بالوسائل التي رخص الله فيها {ولكم في القصاص حياة يا أولي الألباب لعلكم تتقون} [البقرة:179]، {ومن قتل مظلوماً فقد جعلنا لوليّه سلطاناً} [الإسراء:33]. ويركز الله سبحانه وتعالى أنه إذا قتل الإنسان من دون حق عمداً، فلولي القتيل أن يأخذ حقه من القاتل من دون أن يزيد على ذلك، ولهذا فإن الطريقة العشائرية أو الجاهلية مرفوضة وهي أن الإنسان إذا قتل قريبه فإنه يبادر إلى جعل كل أفراد العائلة محل ثأره، فقد يثأر من أخ القاتل أو من أب القاتل، أو من قريب القاتل، أو ما إلى ذلك.


ويقول الله سبحانه وتعالى أن لولي المقتول الحق إذا ثبت بالدليل الشرعي وبالبينة الشرعية، وبحكم الحاكم الشرعي، أن هذا الإنسان قتل عمداً من دون حق، ولم يكن القاتل في حالة الدفاع عن النفس أو في حالة تبيح له القتل،... إن لوليه أن يقتل قاتله حتى لو كان القاتل في أحط درجة اجتماعية، وكان المقتول في أعلى درجة اجتماعية.


تقول بعض العقليات، نحن لا نقبل أن يكون غريمنا فلان، فكما قتلوا وجيهاً من وجهائنا نريد أن نقتل ما يساويه من تلك العائلة، وإلا سنقتل مئة شخص مقابله، وهذا المنطق ليس من الإسلام بشيء وإنما هو منطق القبلية والعشائرية، لأن المنطق الإسلامي يقول ضربة بضربة، وهذا ما دعا إليه الإمام علي(ع) الذي هو بنظرنا لا أحد يفوقه عظمة إلا رسول الله(ص)، عندما قتله ابن ملجم، حيث يقال كما روي عنه في نهج البلاغة أنه جمع بني عبد المطلب: "يا بني عبد المطلب لا ألفينّكم تخوضون دماء المسلمين خوضاً، تقولون قتل أمير المؤمنين، ألا لا يقتلنّ بي إلا قاتلي، انظروا إذا أنا متّ من ضربتي هذه فاضربوه ضربة بضربة ولا تمثلوا بالرجل، فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله، يقول: إياكم والمثلى ولو بالكلب العقور".


كان الإمام علي(ع) يسعى لأن يطبق الإسلام بدقة حتى في قضيته الخاصة، فلا يقتل إلا قاتله وكما أن قاتله قتله بضربة واحدة فعليهم أن يقتلوه بضربة واحدة، فلا يجوز أن يمثلوا به بأن يقطعوا يديه ورجليه أو أن يقوموا بأي شيء آخر، كما هو متعارف عليه الآن في تعاطي بعض الناس مع القاتل، حيث يهجمون عليه مثلاً ويحرقون بيته وهكذا، فهذا لا يجوز، ليس لك الحق أن تضربه كفاً واحداً، لأن لله حدوداً {تلك حدود الله فلا تعتدوها} [البقرة:229].


قد تكون مشكلتنا هي أنّ بعض الناس يحركون سلاحهم في خدمة مزاجهم، وقال الإمام علي(ع): "لا تحركوا سيوفكم في هوى ألسنتكم"، بحيث يحصل النـزاع من خلال كلمة تطلق، فتؤدي إلى وجود حالة عصبية، ويطلق الرصاص ولذا لا حق لك بذلك، وعلينا أن نعتبر أن الله حرّم الدم إلا بالحق، وقضية الحق ليست فتوىً تفتي بها لنفسك أو أن تخضع فيها لهواك ولمزاجك ولعصبيتك ولأوضاعك التي تحيط بك، فتضع المبررات لتقتل الناس، هذا عميل وهذا منحرف، وهكذا..


فكما أن الأصل إذا شك الإنسان بالطهارة والنجاسة أن يبني على الطهارة، كذلك فإن الأصل هو براءة الإنسان، في حين أنه إذا شك بعض الناس في أنه هل يجوز قتله أو لا، فعنده الأصل أنه يجوز قتل كل إنسان دون إثبات أنه مستحق للقتل بحجة شرعية، حتى لو فرضنا أن فلان عميل أو مفسد في الأرض، فليس لك الحق في أن تبادر إلى قتله إلا إذا ثبت بأساس شرعي دقيق أن هذا الإنسان قتل عمداً من دون دفاع عن النفس ومن دون أي عذر شرعي، لذلك لا بد من أن نراعي هذه المسألة، وقد ورد عند الفقهاء أن الأصل الاحتياط في الدماء والأموال والفروج، ومثال ذلك ليس لإنسان أن يتصل بأية امرأة شك في أنها محللة له أو ليست محللة.


ليس للإنسان أن يأخذ مالاً إذا شك في أنه محلل أو لا، ليس له أن يهرق دماً إذا شك في أنه محلل أو لا، كما أنه إذا شك في بعض الأشياء فإن الأصل فيها البراءة والأصل الحلية والإباحة، وفي الدماء والأموال والفروج يقول الفقهاء بأن الأصل الحرمة، الأصل الاحتياط {ولا تقتلوا النفس التي حرّم الله إلا بالحق ومن قتل مظلوماً فقد جعلنا لوليّه سلطاناً فلا يسرف في القتل إنه كان منصوراً} [الإسراء:33].


الأيتام أمانة الله
وفي الوصية الثامنة يقول تعالى: {ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن} [الإسراء:34]، أيتامكم أمانة الله عندكم، وإذا كان لكم الحق في تحريك أموالكم من خلال الوسائل الشرعية، فعليكم أن لا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن، أي بالطريقة الأفضل التي تحفظ لليتيم ماله وتنميه، فلا يجوز لأي إنسان أن يتصرف في مال اليتيم إلا بما يصلح حاله.


كما أنه لا يجوز له أن يأكل مال اليتيم أو أن يتصرف بماله اعتماداً على بعض الظروف والأوضاع، ولا يجوز له أن يدخل بيته إلا إذا كانت هناك مصلحة له في الدخول عليه، أو أن يعوّض عليه في مقابل ذلك أو أن يأكل من طعامه إلا بإذن الولي الشرعي في هذا المجال.


{ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن حتى يبلغ أشدّه} [الإسراء:34]، يعني حتى يبلغ ويرشد، عند ذلك تسلّمه ماله ويكون له حرية التصرف فيه.


الوفاء بالعهد
أما في الوصية التاسعة فإنه تعالى يقول: {وأوفوا بعهد الله إذا عاهدتم ولا تنقضوا الإيمان} [النحل:91]، ومن العهود الزواج والعقود والمعاملات التي تنشأ فيما بينكم، بأن يبيع إنسان إنساناً آخر شقة مثلاً، كما يفعل تجار البناء، باعها بثمن معين ثم انخفض سعر العملة وارتفعت الأسعار، وبذلك يجب أن تفي بالعقد حسب الشروط، لأن العقد عهد ليس لك أن تطلب منه زيادة، وإذا حاولت أن تستغل ظروفه على أساس أنك خسرت أو ما أشبه ذلك، فرفضت أن تسجل له حصة حتى يدفع مبلغ خمسة آلاف أو عشرة آلاف دولار، فإذا لم يعطك المال برضاه وعن طيب خاطر فإن المال الذي تأخذه في هذه الحالة يكون سرقة وغصباً، وليس هناك فرق بين أن يبيع إنسان شقة وعمل بكل الشروط التي فرضتها عليه، وفجأة ارتفع سعر الدولار وانخفض سعر العملة، فلك في هذه الحالة نفس الثمن، لأنه لو فرضنا أن الليرة ارتفعت هل تعوض عليه؟


عالم البيع والشراء فيه ربح وخسارة، لماذا يكون المشتري هو الذي يخسر وأنت يجب أن تربح؟! وهنا نقول إذا لم يحصل تراضٍ بين البائع والمشتري في هذه الأمور أو في أمثالها واستغل البائع سلطته لأنه قادر على أن لا يسجل، فالمال الذي يحصل عليه هو مال غصب ومال حرام لا يجوز له أن يتصرف به إلا برضاه، ولم يوف بذلك العهد، لأنه لم يفِ بالعقد والله يقول: {أوفوا بالعقود} [المائدة:1].


والمهر أيضاً هو عهد مؤكد، وميثاق غليظ، ويعبر الله سبحانه وتعالى عن العلاقة الزوجية بأنها ميثاق غليظ، فلا يجوز أن تأخذوا المال الذي فرضتموه لهن {وقد أفضى بعضكم إلى بعض وأخذن منكم ميثاقاً غليظاً} [النساء:21]، {وأوفوا بالعهد إن العهد كان مسؤولاً} [الإسراء:34]، {وأوفوا بالكيل إذا كلتم وزنوا بالقسطاس المستقيم ذلك خير وأحسن تأويلاً} [الإسراء:35]، ولذلك عليك عندما تريد أن تشتري أو تبيع أن لا تأخذ أكثر من حقك وأن لا تدفع للآخر أقل من حقه سواءً كان بطريق الكيل أو الوزن أو العد أو الذراع أو ما إلى ذلك، لأن ذلك هو الذي يحقق لكم الخير..


وفي الوصية العاشرة، يقول سبحانه: {ولا تقف ما ليس لك به علم إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسؤولاً} [الإسراء:36]، عندما تريد أن تتبع أي فكر، أو أن تتحرك في أي شيء يحتاج إلى إثبات أو تنتمي إلى أية جهة، أي حزب، أية حركة، أي وضع، فيجب أن تكون على بينه من أمرك فتحصل اليقين وتعرف أن ما تخوض به هو حق، لأن الله سيسألك غداً لِمَ انتميت إلى هذه الجهة، أو قلت تلك الكلمة، أو شهدت هذه الشهادة، أو حكمت هذا الحكم، لذلك كل شيء لا تعلمه أو لا تملك القطع واليقين به أو الحجة الشرعية، كل ذلك سيكون موضعاً للسؤال، لأن السمع وما وعى، والبصر وما رأى، والفؤاد وما فكّر، حيث عليك أن تحضّر جواباً لكل سؤال في كل هذه الأمور.


هذه الوصايا هي الخطوط الحيوية المهمة التي تمثل المنهج الإسلامي للإنسان المسلم، فإذا قرأتم هذه الآيات في القرآن الكريم وتدبرتموها ووعيتموها، فإن عليكم أن تنتهوا عما نهاكم الله عنه، وأن تأتمروا بما أمركم الله به، لأن في ذلك معنى أن تكونوا مسلمين وأن تكونوا قرآنيين، وعليكم أن تنفتحوا على القرآن كله حتى تبرزوا إلى العالم من موقع منهجكم القرآني، ومن موقع خطكم الإسلامي في كل مجال من مجالات الحياة، في السياسة والاقتصاد والاجتماع، في لذاتكم وشهواتكم وطعامكم وشرابكم، لأن الله جعل لكل شيء حدّا، وجعل لكل شيء حكماً، وعلينا أن نتبع حكم الله ونقف عند حدوده، لأن الدنيا لا تغني عن الآخرة.


ولذلك يريد الله لنا أن ننفتح من خلال القرآن على كل قضايانا، وعلى كل مواقع عزتنا، ومواقع حريتنا، وأن نعرف الطاغوت فنبتعد عنه ونجتنبه، وأن نعرف من هم أولياء الله فنسير معهم، وأعداء الله لنبتعد عنهم ولنواجههم.

التعليقات (0)

شارك بتعليقك حول هذا الموضوع

شارك هذا الموضوع