ضمن برنامج الاحياء العبادي للعشر الأواخر ، أحيت حسينية الحاج احمد بن خميس ليلة الثالث و العشرون من شهر رمضان لعام 1445هـ/2024م ( ليلة القدر ) ، ببرنامج عبادي ابتدأ بتلاوة سور الروم و العنكبوت و الدخان بمشاركة القارىء علي ملا سلمان ، تلاه قراءة مقاطع من دعاء الجوشن الكبير بمشاركة القارئ علي السبّاع ، و من ثم دعاء التوبة بصوت القارئ رياض يوسف ، وبعد ذلك مقاطع من دعاء أبي حمزة الثمالي بمشاركة القارىء مهدي سهوان ، تلتها زيارة الامام الحسين (ع) بمشاركة القارىء رياض يوسف .
و من ثم ألقى سماحة العلامة الشيخ محمد صنقور كلمة روحية بارك فيها حلول هذه الليلة الشريفة و العظيمة عند الله وملائكته و في ملكوت الله عزو جل و أوليائه والصالحين من عباده ، الإنسانُ المؤمنُ إذا وُفّق لبلوغ هذه الليلة ووُفّق للدعاء فيها و التوبة و التضرّع الى الله ، فإن ذلك من أمارات قبوله عند الله عز وجل ، يقول الله عز وجل في سورة آل عمران " وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَن يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى? مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ (135)" ، الآية المباركة فيها بشرى للمؤمنين ، و أنهم لو فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم ، فإن الباب لا يوصد أمامهم ، بل يظلّ مفتوحًا ، مدعوين معه الى الدخول و الولوج من هذا الباب الى عفو الله و مغفرته .
وأمّا في ما هو المقصود من قوله تعالى ( وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً ) ، هم من ارتكبوا ذنبًا من الذنوب المتصلة بالناس ، فمن الذنوب ما يتّصل بالناس و منها ما يتصل بالله محضًا ، فالفاحشة مثل السُباب فإنه ظلم للناس و الشتيمة و الغيبة و النميمة و البهتان و قذف المحصنة و الاستهزاء و السخرية بالناس كل ذلك يعد من الفواحش ، الفاحشة عنوان لا يصدُق على فعل مثل الزنا ، فهذا واحد من الذنوب و مظهر من مظاهر الفواحش التي قد يقترفها الإنسان ، لكنّ الفواحش تصدق على ما هو أعمّ ، فكل الذنوب خصوصًا ما يتصل فيها بظلم الناس و هظمهم حقوقهم ، فإنه من الفواحش ، كأن تسبّ الآخرين أو تشتمه أو تقذفه أو تسيء اليه أو تدخل عليه الوهن أو تنتقصه أو تستهزئ به وتسخر منه ، فيعد كل ذلك من الفواحش التي يقترفها الإنسان ، فإن لم يتب منها فإنه سيساءل عنها يوم القيامة و يُدان بها يوم القيامة ، فهذا هو المراد بالفاحشة بقرينة قوله تعالى بعد ذلك ( أَوْ ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ ) .
ثمة من لا تكون ذنوبه متصلة بظلم الناس ، و إنما تتصل بظلم نفسه ، فمن قصّر في أداء ما أوجبه الله عليه فقد ظلم نفسه كتركه فريضة من فرائض الله ، أو التهاون في أداء الصلاة أو شيء من فرائض الله عز وجل يُعدّ من ظلم النفس ، وكذلك أكل الحرام و النظر الى ما حرّم الله تعالى ، أو الإستماع الى اللّغو و الغيبة ، أو الإستماع الى الغناء ، أو اللعب بالقمار أو حضور مجالس الّلهو و الطرب ، كلّ هذه الأفعال قد لا يترتّب عليها ظلمٌ للآخرين ، ولكنّه ظلم لله ، و ظلم الله لا يناله من ظلم الإنسان شيء فإن الله غني عن العالمين ، فظلم الإنسان لربه هو ظلم لنفسه ، لأن الضّرر سيعود عليه محضًا ، هؤلاء لا يكون الباب موصودًا أمامهم إذا ذكروا الله عز وجل وتنبّهوا أنهم في محضر الله و إن الله يرقبُ ما يفعلون و يسخط حين يعصون و يرضى حين يستغفرون ، هؤلاء إذا ذكروا الله و ذكروا مقته للعصاة وحبّه للتائبين ، ذكروه ذكرًا صادقًا ، و شعروا بالخجل من الله و بالندم على ما اقترفوه في حق الله تعالى ، فإنهم سيجدون الله قريبًا منهم يغفر ذنوبهم .
سبقت هذه الآية آية أخرى " ? وَسَارِعُوا إِلَى? مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ (133) الَّذِينَ يُنفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ ? وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (134) " ، سارعوا أي بادروا ، لا ينبغي للعاقل من المؤمن أن يتلكأ أو يُسوّف فإن عمره ليس بيده ، تسويف التوبة و الندم و الإقلاع عن المعصية لا يُناسب المؤمن العاقل الذي لا يدري متى يحين الأجل ، فينبغي للمؤمن أن يُبادر الى التوبة إذا صدرت منه ، الإنسان ضعيف ، فقد يقترف ذنبًا أو يجترح خطيئة أو ينتابه غضب فيودي به أن يقع في معصية لله عز وجل ، والمؤمن خطّاء لكن الفرق بين المؤمن و غير المؤمن أن المؤمن إذا اجترح خطيئة ذكر ربّه فبادر الى التوبة ، المغفرة من شأن الله ، و المبادرة الى مغفرة الله تعني المبادرة الى موجبات المغفرة ، أي أن تأتي بالفعل الذي يوجب غفران الله عز وجل .
ثم تصدّت الآية الى ما يوجب مغفرة الله للعبد ، فأفادت (أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ) في هذا إشارة أنّ أعظم موجبات المغفرة هي تقوى الله عز وجل ، والخشية من الله و استشعار الرهبة من الله ، والتورّع عن محارم الله خشية و خوفًا و خجلًا من الله عز وجل ، و الإلتزام بالفرائض التي فرضها الله ما صغر منها وما عظم ، هذه هي التقوى ، هؤلاء اللذين يتّقون ، هم من أُعدت لهم الجنة التي وصف الله سعتها بأنها كسعة السماوات و الأرض تعبيرًا عن عظمها ، ثم فصّلت الآية لبيان موجبات التوبة ، فأفادت أن موجبات التوبة الإنفاق في السرّاء و الضرّاء ، نتوهّم أن موجبات التوبة أن نقول " اللهم تُب علي ّ واغفر لي " وذلك من موجبات التوبة ومن موجبات المغفرة دون ريبٍ أو اشكال ، لكن ثمة خصال اذا التزمها المؤمن فإن التزامه إياها يوجب غفران الذنب ، منها الإنفاق في السرّاء و الضرّاء ، أي يُنفق في الضرّاء كما يُنفق في السرّاء ، المؤمن سواء عليه كان في ضيق أو سعة فإنه يُنفق ، فلا يبخل على الضعفاء من أقربائه و أرحامه و جيرانه ومن سائر المؤمنين ، و يُنفق النفقات اللازمة عليه كالخمس و الزكاة ، فيُنفق اليسير حين يكون في الضيق و السعة - وان تفاوت انفاقه - ، فقد يكون إنفاقه لليسير القليل في ظرف الضائقة أكثر ثوابًا و أكثر إيجابًا للمغفرة من الذي يُنفق في حال السعة .
الصفة الثانية التي هي من موجبات المغفرة (وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ) ، و هي صفة تشقُّ على غير الحليم واسع الصدر أن يلتزمها ، تعرض على الإنسان الكثير في يومياته ما يوجب الغيظ و الغضب ، و الفرق بين المؤمن العاقل الذي يخشى الله عز وجل وغير العاقل أنّ المؤمن يقابل تلك بسعة الصدّر و الكظم ، فلا يترتّب على غيظه إساءة وظلم للآخرين ، ثم قال ( وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ ) وهي مرتبة أعلى من المرتبة التي سبقتها ، فقد تكظم غيظك فلا تظلم ، و لكنّك لا تعفو ولا تصفح ولا تغفر ، فأنت في مرتبة دون المرتبة التي وصفهم القرآن بالعافين ، رغم غضبك و إساءة الآخرين لك ، إلا انك تعفو وتصفح و تغفر - خصوصًا لذوي قرابتك و ذوي أرحامك و أصدقائك و جيرانك ومن هم على الحقّ الذي أنت عليه - ، هؤلاء أحقّ الناس بأن تغفر خطيئاتهم في حقّك و أن تغفر إسائاتهم لك ، ثم قال تعالى " وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ " فاعل الإحسان من يُحسن للآخرين و هي مرتبة أعلى من كل ما سبق ، فقد لا تظلم و تترقى فتعفو عمن ظلمك لكنك قد لا تُحسن اليه ، لكن ثمّة من الناس من يتعالى على غيظه فيعفو ، ثم يتعالى فوق تعاليه فيُحسن لمن أساء إليه ، والمحسنون وصفٌ يشمل للذين لم يُسيؤوا اليك ، فكل من أحسن للآخرين أو قضى لهم حاجة فهذا من المُحسنين .
الله عز وجل بعد هذه الآية قال ( وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً )، فقد يعرض في ذهن الإنسان أنه لا تنفعه المبادرة الى التوبة و فعل موجبات المغفرة لارتكابه بعض الذنوب و الفواحش ، فالله يقول بأن الذين سارعوا الى موجبات المغفرة و أنفقوا في السرّاء و الضرّاء وعفوا عن الناس و أحسنوا إليهم لو فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم ثم ذكروا الله و استحضروا غضبه وانتقامه و سخطه ، وهو المنعم عليهم فإنهم سيجدون الله راحمًا غافرًا تائبًا قابلًا لتوبتهم ، ثم قال تعالى " أُولَ?ئِكَ جَزَاؤُهُم مَّغْفِرَةٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ? وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ (136) " ، هؤلاء لهم مغفرة ، وبل إن المغفرة التي عناها الفرآن في هذه الآية و آيات أخرى ليست التجاوز عن الذنوب فحسب بل تبدّل هذه الذنوب الى حسنات كما نصّت على ذلك آيات أخرى ، من سورة الفرقان " إِلَّا مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَ?ئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ ? وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا (70) " ، وهذه تُفسّر هذه ، ويقول الله عز وجلّ من سورة هود " إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ? ذَ?لِكَ ذِكْرَى? لِلذَّاكِرِينَ (114)" .إذن هذه المغفرة التي عناها الله عز وجل تفوق الصفح عن الذنب لترقى الى مستوى تبدّل الحسنات بالسيئات .
لكنّ الملاحظ أن الآية قيّدت ذلك بقيدٍ مذكور في ذيل الآية " وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى? مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ (135) " ، الذنب قد يكون صغيرًا مُحتقرًا و قد يكون كبيرًا ، لا فرق بين الذنب الكبير و الصغير مع الإصرار ، بل إن الذنب الكبير مع التوبة يُغفر لكنّ الذنب الصغير مع الإصرار يتحوّل الى ذنبٍ كبير ، فقد ورد عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: لا صغيرة مع الإصرار ولا كبيرة مع الاستغفار. وهذا تأكيد على هذا القيد التي ذُيلت به الآية الشريفة . فلذلك ينبغي للإنسان ان يكون أشدّ حذرًا من الإصرار على الذنب ، عن أبي بصير قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: " لا والله لا يقبل شيئا من طاعته على الاصرار على شئ من معاصيه " ، ليلة القدر هي من أعظم الفرص التي منحها الله عز وجل عباده أن يستذكروا ذنوبهم التي غفلوا عنها فيستغفروا الله منها ، فما ان يستغفروا مع الشعور بالذنب الا وقد غفر لهم ، فذلك وعد الله ومن أوفى بعهده من الله عزو جل ، فنسأله سبحانه و تعالى ان يجعلنا في هذه الليلة من عتقائه من النار و يحشرنا مع الأولياء الصالحين و الأئمة الأطهار عليهم السلام .
في الختام صلاة نافلة الليل و دعاء رفع المصاحف بصوت القارئ مهدي سهوان .
التعليقات (0)