شارك هذا الموضوع

قراءة مختلفة في آراء ومواقف آية الله منتظري

من الأخطاء الاستراتيجية التي يعترف القادة الإيرانيون بأن نظام الجمهورية الإسلامية قد وقع فيها في بداية عقد الثمانينيات هي تنصيب الشيخ حسين علي منتظري من قبل مجلس خبراء القيادة الأول خليفة للولي الفقيه (الإمام الخميني آنذاك) بدعم من تيار عريض من القادة الثوريين في المجلس وكذا الحوزة العلمية والكثير من المواقع العلمائية والسياسية المختلفة، وكان ذلك الإجراء في كنهه لا يخرج عن حالة الإرباك السياسي الذي شاب تلك الفترة من جهة واستكمالاً لحركة البناء العمودي لكيان الدولة السياسي من جهة أخرى، كما أنه يأتي تشريفاً للرجل باعتباره أسنّ قادة الثورة بعد الإمام الخميني " وعصارة عمره " وممن كانت لهم نشاطات سياسية مناهضة للحكم الشاهنشاهي في السنوات التي سبقت انتصار الثورة الإسلامية في فبراير 1979 م .


وكان المعارضون لذلك التنصيب قد اختزل في رجلين فقط آنذاك وهما منتظري نفسه والثاني هو الإمام الخميني الذي كان يعرف تلميذه بخصوصياته بأنه أقرب إلى الفقاهة الدينية منه إلى الفقاهة السياسية ودهاليزها وكان سكوته عن ذلك التنصيب ليس إقراراً منه عليه بل هو نابع من رغبته في عدم التدخل في حدود أعضاء مجلس خبراء القيادة القانونية كما قال في أحد رسائله .


ومع بدايات عام 1986 م بدأت تلوح في الأفق سحابة غير صيفية بين منتظري والنظام الإسلامي الذي أسهم في تشكيله؛ عندما ألقت قوات الأمن الإيرانية القبض على خليّة إرهابية يتزعمها شخص يدعى مهدي الهاشمي (أخو صهر منتظري وابن أستاذه وأحد أقرب مريديه وتلامذته) تتخذ من مكتب منتظري وبيته مرتعاً ومنطلقاً لعملها مستغلة موقعه الوظيفي في الدولة كخليفة للولي الفقيه والذي أعطاه الحرية والصلاحية في التصرف بالكثير من شؤون الحكم، وقد ألقت المعلومات الخطيرة التي أدلى بها أفراد تلك الخلية والمضبوطات التي بحوزتهم بظلالها على موقع منتظري وطبيعة ومستقبل علاقته مع الحكم، فقد تبين بأن تلك الخلية قامت بتجسير علاقات منتظمة مع جماعة مجاهدي خلق المعارضة والتي تتخذ من العراق مقراً لها؛ ومع حركة نهضت آزادي المحظورة، وبتنظيم عمليات اغتيال متعددة في مدينة إصفهان وغيرها من المدن الإيرانية ولأشخاص اعتباريون من أذواق سياسية وقيادية مهمّة (خصوصاً قتل الشيخ رباني أملشي الشيرازي أحد أعضاء مجلس خبراء القيادة وأحد المقربين للإمام الخميني) وبتصرف غير مجاز بالأموال العامة وحيازة 280 قطعة سلاح مهربة من مقرات الحرس الثوري، إلى غيرها من المعلومات .


وفي حقيقة الأمر فإن تلك الخليّة لم تكن سوى تيار متطرف كان مسيطراً ومهيمناً على جزء كبير من مكاتب ومدارس منتظري الدينية وحتى على مكتبه الخاص ومنزله وبالتالي على قراره الشخصي، واستطاع أن يُمَرِر من خلاله (أي من خلال منتظري)  الكثير من المشاريع الثورية المتطرفة والمتصادمة مع قرار الدولة الرسمي كانت سبباً مهمّاً في تدهور العديد من العلاقات الخارجية بين إيران وبعض الدول، كما أنها أعاقت تطبيق جملة من الإصلاحات في هرم السلطة كان يمكنه أن يبدأ على أيدي بعض رجالات الثورة، خصوصاً من طبقة التكنوقراط والإنتلجنسيا مثل مير حسين الموسوي  وحسن حبيبي ولاريجاني .


وكان منتظري معارض لذلك الاعتقال باعتباره طال أحد أقربائه الموثوقين، وتفاقمت شقة الإنفصال أكثر عندما بث التلفزيون الإيراني اعترافات مهدي الهاشمي الذي اعتبرها منتظري ضربة ألحقت به وببيته وبمدارسه الدينية ضرراً بالغاً، فكتب رسالة إلى الإمام الخميني قال فيها " حول تعييني كخليفة للقائد فإنني كنت منذ البداية معارضاً لذلك جداً وبالنظر إلى المشاكل الكثيرة وثقل المسؤولية كتبت في ذلك الوقت إلى مجلس الخبراء بأن تعييني ليس فيه مصلحة، والآن أيضاً أعلن بصراحة عن عدم استعدادي وأطلب من سماحتكم أن تأمروا مجلس الخبراء بأن يأخذ بنظر الاعتبار مصلحة ومستقبل الإسلام والثورة والبلاد بشكل قاطع واسمحوا لي بأن أشتغل كما في السابق كطالب صغير وحقير بالتدريس في الحوزة العلمية والنشاطات العلمية وخدمة الإسلام والثورة تحت ظل قيادة سماحتكم الحكيمة " فكتب إليه الإمام الخميني بعد يوم واحد رسالة قال فيها " كما كتبتم إن قيادة نظام الجمهورية الإسلامية هو أمر صعب ومسؤولية ثقيلة وخطيرة وتحملها لا تسعها طاقتكم، ولهذا كنت أنا وأنتم معارضين لهذا الإنتخاب منذ البداية وكنا نفكر مثل بعضنا في هذا المجال، ولكن الخبراء كانوا قد وصلوا إلى هذه النتيجة ولم أرغب في أن أتدخل في حدودهم القانونية وبعد القبول بإعلانكم بعدم استعدادكم لمنصب خليفة القائد أشكركم من الصميم " وبذلك بدأت الاجراءات القانونية والإدارية لتنحي منتظري عن منصبه انتهت رسمياً في 13/3/1988م والغريب أن السلطات لم تتخذ أي إجراءات قضائية ضده رغم ثبوت تورطه في أحداث تمس الأمن القومي الإيراني وخصوصاً العلاقة التي أقامها صهره وأخيه مع مجاهدي خلق !!


وفي العام 1997 وعشية انتخابات الجمعة الثالث والعشرين من شهر مايو آيار التي أوصلت الرئيس خاتمي إلى رئاسة الجمهورية وبالتحديد في 31 رجب 1418 هـ ألقى منتظري خطبة في أحد مساجد مدينة قم (جنوبي طهران) شنّ فيها هجوماً عنيفاً على مبدأ ولاية الفقيه (يعتبر منتظري مُنظر النظرية وكتب فيها بحثاً تجاوز الـ 700 صفحة) وعلى صلاحيات مرشد الثورة الإسلامية آية الله خامنئي ومن ثم على شخص المرشد نفسه عندما شكك في مؤهلاته العلمية والإدارية، شجّعه على ذلك مواقف انقلابية لأحد فقهاء قم هو الشيخ أحمد أذري قمّي رجل اليمين المتشدد والذي قام بتوزيع مذكرة من 35 صفحة نادى في ختامها بإعادة تنصيب منتظري قائمقاماً لولي الفقيه، والذي رحب بها منتظري وزكّى محتواها . وكان ذلك الهجوم على المباني العقيدية والفقهية لأصل النظام الإسلامي القائم قد شحن الأجواء من جديد ورتّب لحالة اصطفاف سياسية منظمة، وكان أوّل الداخلين على خط المساجلات هو الرئيس محمد خاتمي الذي انحاز بالكامل إلى النظام ضد منتظري عندما صرّح بالقول " إن ولاية الفقيه أصبحت ركناً من أركان الدستور ولم تعد محل نقاش، وعلى الجميع أن يحترمها، وأن أي إصلاحات قد تحدث يجب أن تنبثق عن نظام الجمهورية الإسلامية وفقاً للصلاحيات التي ينص عليها دستورها " كما وصف المرشد الأعلى بأنـــه " عالم جليل وثوري صادق "  كما أدان مواقف منتظري أيضاً مهدي كروبي الزعيم الروحي لليسار الديني الراديكالي (روحانيون مبارز) ورئيس البرلمان الحالي عندما اتهم منتظري " بالسذاجة ومعارضة الإمام الخميني " في رسالة بعث بها إليه، كما أصدر رئيس مجلس الخبراء آية الله مشكيني بياناً أدان فيه منتظري وتصريحاته، وأصدر أئمة الجمعة والحوزة العلمية بمدينة قم وفقهائها وحوزتي إصفهان ومشهد والتنظيمات السياسية في كل أرجاء إيران بيانات مماثلة، إلاّ أن أهم ما صدر في أتون تلك الحادثة هو بيان إبنة الإمام الخميني زهراء مصطفوي (لما تمثله من ثقل روحي لدى الإيرانيين نسبة لوالدها) الذي أدانت فيه تصريحات منتظري بالساذج .


كما تظاهر أكثر من خمسة ملايين شخص في أنحاء متفرقة من إيران للمطالبة بإقصاء منتظري عن المرجعية والحوزة الدينية ومحاكمته، انتهت بهجوم عنيف قام به محتجون في مدينة قم على مدراس منتظري الدينية ومكتبته رغم تدخل قوات الأمن وإطلاقها للغازات المسيلة للدموع والمُسارعة لحمايته، بعدها أصدر المجلس الأعلى للأمن القومي قراراً يقضي بفرض قيود على حركة منتظري السياسية .


وكانت ردة الفعل القوية تلك بمثابة النهاية العملية لحركة منتظري السياسية والفقهية إلى حد ما ولمسار العديد من علاقاته مع الكثير من أصدقائه في الحكم .


كان وجود منتظري في موقع خليفة القائد قد أربك الكثير من الأوراق والملفات الموجودة آنذاك في قصر الرئاسة ومراكز صنع القرار في الدولة، فقد تعزز من خلاله التيار الراديكالي المنفلت بلا عنان صوب المجهول وبالتالي تمظهرت أمور دراماتيكية كثيرة زاحمت بشكل مزدوج منطق الدولة الدبلوماسي والعلاقات الخارجية، فمنذ مجيئه قام بتشكيل مكتب دعم حركات التحرر العالمية في قوات حرس الثورة الإسلامية (قام الإمام الخميني بحله في العام 1986 رغم معارضة منتظري لذلك) مع فتح حساب مصرفي ضخم لها، كما أنه أعلن الثورة الإسلامية العالمية وسياسية تصدير الثورة بشكل متطرف وهو ما جعل علاقات إيران الخارجية مع بعض الدول لأن تتعثر بشكل خطير .


والغريب أن تلك القرارات وتمظهراتها الإجرائية هي محل نقد واعتراض منتظري الآن، كما أنه ينفي أن تكون له أي صلة بإنشاء أو إدارة أي أمر من تلك الأمور وهو مايتبين لكل قارئ لمذكراته الذي كتبها له إبنه وصهره ‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍!! وهي مُكابرة هزيلة أمام التاريخ ..


والأغرب من كل ذلك أيضاً ما أورده في مذكراته بأنه كان من الداعيين لوقف الحرب مع العراق لأن في ذلك حبساً لنزيف الدم الإسلامي، إلاّ أنه نسى التصريح الذي أدلي به قبيل موافقة إيران على القرار الأممي رقم 598 والقاضي بوقف الحرب عندما قال معلقاً على القرار " ادعوا إلى تصعيد الهجمات ضد المصالح الأمريكية في مختلف أنحاء العالم وليس بالإذعان لقرارات منظمة تحركها الولايات المتحدة " .


إن ما تكتبه الصحافة العربية بين الفينة والأخرى حول شخصية منتظري وتاريخه وحاضره مجانب للحقيقة والتاريخ ولا يفهم منه إلاّ شُحة الإضطلاع على الملف الإيراني المُعقد، فلم يكن الرجل معتدلاً كما يُصوَّر ولا هو الآن من الإصلاحيين كما يدّعِي ولم يكن مدافعاً يوماً عن حقوق الإنسان أو ضد استمرار الحرب مع العراق، فهو الذي شكّل محاكم الثورة وعيّن قضاتها وعين رئيس ديوان القضاء الأعلى آية الله موسوي أردبيلي ووصفه بأنه " جيد وخير الموجودين " وبعدها وصفه بأنه " غير صالح وينقصه الحزم " وهو الذي كان يدعو إلى إعدام شريعتمداري ثم بعد خروجه من الحكم درف عليه دموع التماسيح، وهو الذي كان يُشرف بالنظارة على شؤون الحرس الثوري ويعين الموجهيين العقائديين في دوائره وكبار رجالاته ثم بعد خروجه اعتبرهم جناة وقتلة .


وهو الذي هندس مكتب دعم حركات التحرر العالمية في الحرس الثوري وبعد حلِّه من قِبَل الإمام الخميني احتفظ به في مكتبه وكان يقول لوزير الأمن الإيراني آنذاك محمدي ريشهري " إن حركات التحرر الإسلامية الحسنة أو السيئة كانت بأمري وتحت إشرافي " .


كما كان يدعو إلى مواصلة الحرب ضد العراق حتى بعد الهجوم الإيراني المضاد في الرابع والعشرين من مايو 1982 وحتى بعد صدور القرار رقم 598 عن الأمم المتحدة كما ذكرت سلفاً وتصريحاته الموثقة تُزكي ما أقول وهو الآن يدعي بأنه كان يدعو إلى وقفها !!


إن تشخيص تلك الإزدواجية وحركة التناقضات النشطه لديه لا يمكن تفسيرها إلاّ بمقولة للإمام الخميني (لها دلالاتها المعبرة) عندما قال له مرة  " أنتم من خصوصياتكم أنكم تريدون أن تكتبوا تاريخكم بشكل جميل، فلو كان تأييدكم للنظام والإسلام يخدش تاريخكم فسوف تبتعدون عن النظام والإسلام " 


ولو كان الهدف من كتابة هذه الأمور "يجب" و "لا يجب" أن ترسم للإنسان تاريخاً جميلاً يسحر القلوب، فذلك سهل ميسر، أنا أيضاً أكتب : يجب أن يملك كل إيراني منزلاً ذا خمسمائة متر مربع وسيارة، ويجب أن يكون الإيراني دخله ضعفي مصروفه .


نعم .. إذا كان منتظري يريد أن يُحاكم تلك الفترة من التاريخ الإيراني فإن المتهم الأول سيكون هو لا غير لأنه المنظر والمنفذ الرئيسي لها .


أن المناداة بما ينادي به الناس، ولعن السياسات الخاطئة السابقة والحالية، هو أسهل الطرق لنيل الغنائم والإنحشار في شعارات اليوم ..

التعليقات (0)

شارك بتعليقك حول هذا الموضوع

شارك هذا الموضوع