شارك هذا الموضوع

أبعاد (الحياد الإيراني) في الحرب على العراق

منذ أن طرح الرئيس جورج دبليو بوش نظريته حول الدول المارقة في العالم وسمّاها بمحور الشر؛ شاءت الأقدار لأن تكون دولتين من تلك الدول (المارِقَة !!) جارتان متصلتان لا يفصلهما سوى تاريخ مُثخن بالجراح والمآسي منذ أيام الملك إيرج والملك تور وحتى يومنا هذا، وتنافر قومي حاد لا يُقاربه شيء .


وسَرَت قناعة أكيدة بأن المارد الأمريكي قد حَشَرهما (العراقيون والإيرانيون) معاً دون أن يكون بينهما أدنى تقاطع آيدولوجي أو سياسي إلاّ بما تراه واشنطن، وكانت سياسة الإدارة الأمريكية إنتهت إلى أن الهدف القادم لضربة ذراعها العسكرية هو العراق بلا تردد (وقد فعلت) ليس لأنه (فقط) البطن الرخو في محور الشر بل لأنه (أيضاً) يُقرب إيران للمواجهة فيما لو قررت الولايات المتحدة الصِدَام معها، وقد رتبت للبدء بذلك الإجراء في ِتَبْيِئَة المنطقة أولاً فضمَّت إيران لمحور الشر بُغية تحييدها تماماً ولاكت المملكة العربية السعودية بهجمة إعلامية شرسة صوَّرتها بأنها منبعاً لوجستياً للحركات الإسلامية المتشددة في العالم وساحة رحْبَة لنمو الفكر الأصولي المُتطرف، بل زادت على ذلك في إعلامها المُتصَيهِن بأن هناك مشروعاً أمريكياً مُقَر من قِبَل جهات متنفذه في الإدارة التنفيذية والكونغرس يهدف إلى تقسيم السعودية إلى كانتونات منفصلة ومتناثرة لالتهام منابع النفط في الخليج، وكان ذلك السلوك الأمريكي المُتعجرِف تُجاه السعودية وإيران اعتُبِرَ بمثابة رسالة كُتِبَت بلونٍ أحمر لكل من يعنيه الأمر في الدولتين بضرورة عدم عرقلة أي إجراءات عسكرية أو سياسية أمريكية قد تُتخذ ضد العراق .


وكانت خريطة منطقة الخليج (وهي مُقدِمَة على حرب) قد اتضحت للإيرانيين كالتالي :


(1) أن هدف الإدارة الأمريكية من الحرب ضد العراق (بالإضافة إلى كسر شوكة القوة العسكرية العراقية وإضعاف تأثير البُعد القومي والاستراتيجي للعراق تجاه القضية الفلسطينية بشكل خاص والقضايا العربية بشكل عام) محاصرة إيران جغرافياً وسياسياً الأمر الذي يجعلها أكثر قابلية للإبتزاز، والرغبة في إخضاع أسلحتها المتطورة وبرنامجها النووي المُتعاظم للمجهر الصهيوأمريكي، خصوصاً وأن الولايات المتحدة ومعها الكيان الصهيوني باتا يُدركان بأن إيران بَنَت ترسانتها العسكرية التقليدية بإِحكام مستعينة في ذلك (بدايةً) بعقول علماء روس قبل أن تقوم بشراء التكنولوجية الروسية وتفرّخها في عقول الإيرانيين لتكون في مأمن من أي طارئ، فالدراسات التي تصل إليهم تشير إلى أن إيران بدأت –وبأيدي وطنية مُستَنسَخَة- في تصنيع :


مقاتلات إف 4 وإف 5 وإف 7 والطوافة شاباوز 2-75 التي يبلغ مدى اكتفائها 500 كيلومتر ويمكن أن تحلق على ارتفاع 12600 قدم (3800 متر )


كما أنها بدأت في تصنيع الصواريخ المتطورة شهاب 3 متوسط المدى ( 1300 كم ) والذي يعمل على الوقود الصلب، وشهاب 4 الذي يصل مداه إلى 3000 كم، كما تعتزم حالياً القيام بتطوير الصاروخ الكوري الشمالي " تايبو دونغ 1 " ليصل مداه إلى 5000 كم ويدخل الخدمة في سنة 2005 – 2006م، بالإضافة إلى منظومة صواريخ زلزال "1" و"2" و"3" المتطورة وكذلك صاروخ صيّاد "1" المضاد للطائرات الذي تمّ اختباره في مناورات الحرس الثوري بجنوب طهران في العام 1999م ، وبالتالي فهم يرون بأن الإجهاز على نظام الجمهورية الإسلامية وقوته العسكرية الطموحة لا يقل أهمية (إن لم يكن أكثر) عن القضاء على أسلحة العراق غير التقليدية ونظامه السياسي كما يروجون، وكان الكيان الصهيوني هو أول من روج لتلك الفكرة .


(2) أن حرب الإرهاب الذي أطلقها الرئيس بوش عقب أحداث 11 سبتمبر مازالت تُشكل نزيفاًَ مادياً ومعنوياً للدولة الأمريكية من دون أن تحقق نتائج فعلية وملموسة على الأرض يوازي جرح البرجين المنهارين، فتنظيم قاعدة الجهاد لازال ينتشر في أكثر من ستين دولة وأتباعه بالآلاف ولا زال يستقطب العديد من الشباب المُفعم بعاطفة الدين و الجهاد ضد الصليبيين !! والمدفوع أصلاً من منطلق العداء للأنغلوساكسون، وبالتالي فإن تحقيق نصر حاسم في العراق سيعوض مادياً (ومعنوياً أيضاً) الهزيمة الأمريكية في حربها ضد الإرهاب ويُعيد رسم الخريطة السياسية في المنطقة على أسس أمريكية برجماتية جديدة لها حساباتها وتكتيكاتها، ويُسدل الستار نهائياً على تقسيمات اتفاقية سايكس بيكو الأوروبية (البالية) لمنطقة الشرق الأوسط، كما أنه سيجعل بين أصابعها أزرار أهم مخزون نفطي بعد السعودية (يوازي احتياطي العراق من النفط احتياطي كل من الولايات المتحدة وكندا وأوربا الغربية واستراليا)


(3) أن تركيا تُحاول إعادة تنشيط مطامعها السياسية والتاريخية في العراق، خصوصاً بعد تصريحات بعض الساسة الأتراك حول إمكانية العودة إلى اتفاقية 5 يونيو 1926 بينها وبين بريطانيا والعراق والتي قامت على مبدأ إعطاء حصة 10% من البترول العراقي لتركيا مقابل إنهاء تركيا لمطالبها التاريخية بضم أجزاء من شمال العراق كالموصل إليها ومعاودة النظر بالتالي بما تتيحه تلك الإتفاقية من حقوق تركية بنفط العراق وهي الحقوق التي حصلت فيها تركيا بين عامي 1926 و 1955 على حصة ثلاثة عشر عاماً، ثم أعادت النص على هذه الحصة في الميزانية التركية بعد قيام ثورة 14 يوليو 1958 وعادت إلى حذفها من تلك الميزانية في العام 1986 على خلفية تحسن علاقاتها مع بغداد وأنهت مطالبتها الفعلية بها وليس القانونية . وإيران تنظر إلى تلك المطالبات ذات النَفَس الإستعماري بريبة كبيرة خصوصاً وأنه يفتح الباب للحديث من جديد عن تقسيم العراق وهو الأمر الذي لا تقبله طهران البتَّة .


(4) أن إيران ستكون مأوىً (من جديد) لتدفق عارم من اللاجئين العراقيين في حال وقوع الحرب واستمرارها، فتقارير المُنظمات الإنسانية كانت تُشير إلى أن الحدود الإيرانية تتوقع أن تستقبل ما بين 500 ألف ومليون و 300 ألف لاجئ عراقي في الأسابيع الأولى للحرب وبالأخص عند محافظة إيلام (غرب) ومدينتي مهران ودهلران وقد أقامت إيران لحد الآن عشرة مخيمات ضخمة داخل الأراضي الإيرانية للاجئين العراقيين بكلفة أحد عشر مليون دولار في حين لم تُساهم المفوضية العليا لشؤون اللاجئين التابعة للأمم المتحد سوى بمليون دولار فقط في حين أن إيران تحتاج فعلياً إلى أكثر من ستة عشر مليوناً من الدولارات لتأمين الاحتياجات الضرورية للاجئين، علماً أن إيران تأوي حالياً أكثر من مليوني لاجئ أفغاني تقاطروا عليها منذ الغزو السوفيتي لأفغانستان وتعاظم الأمر أكثر مع قيام الحرب الأهلية بين جماعات المجاهدين في العام 1994م وانهيار حكومة صبغة الله مجددي، ومليون لاجئ عراقي فروا معظمهم إبان حرب الخليج الأولى في العام 1991 م وكذا من جنسيات مختلفة وهو ما يُكلف خزانة الدولة آلاف الملايين من الدولارات سنوياً، كما أنهم يُشكلون تهديد جدي للأمن القومي الإيراني وإخلالاً بالنسيج الاجتماعي المتعدد الإثنيات والأعراق بين فرس وأكراد وعرب وآذريين .


(5) أن منطقة الخليج استسلمت بالكامل للنظرية الغربية القائمة على أن العامل الإقليمي في الشرق الأوسط ومنها بالذات منطقة الخليج ليس قادراً على حل مشاكله أزماته دون الاعتماد سياسياً وعسكرياً واقتصادياً على العامل الدولي؛ وأنه ليس بمقدوره التأُثير على معادلة الصراع لأن الأرقام الصعبة بيد الدول الكبرى، وبذلك بدأت منطقة الخليج أشبه ما تكون بالزاوية التي لا يلعب أضلاعها أي دور في شكلها، فرغم أن ميزانيتها السنوية للتسلح تفوق الستين مليار دولار وأنفقت في السنوات العشر الماضية أكثر من 200 مليار دولار وزادت من عدد جنودها من 174 إلى 300 ألف جندي إلاّ أن ذلك السلاح والعتاد لم يصبح بعد عاملاً حقيقياً بيد دول الخليج لرسم خريطة المنطقة التي هم فيها والتحكم بقراراتها المفصلية والحاسمة، أو حتى المُساهمة في حلحلة قضاياها ومشاكلها السياسية، بل تأصلت النزاعات البينية لدول الخليج أكثر حول قضايا الحدود الجغرافية والسياسات الخارجية والاقتصادية وأشكال التحالفات الدولية والإقليمية، لذلك كانت النظرة الإيرانية المُتوجسة لتلك المشكلة نابعة من أن بقاء دول الخليج على هذه الشاكلة سوف يُضاعف من الوجود الأمريكي في المنطقة، ويُعطيه المبررات الكافية لتكثيف وجوده العسكري والسياسي وهو ما يُشكل لإيران تهديد مباشر يجعل قواتها المسلحة وحدودها الشاسعة في حالة استنفار دائم .


(6) أنه ورغم حجم المشاكل السياسية والتاريخية وتداعياتها على البلدين (العراق وإيران) إلاّ أنه تبقي بينهما قواسم مشتركة لا يمكن للسياسة ولا الساسة أن يغيروا من حقيقتها وجلائها، فالعراق بالنسبة لإيران غوراً استراتيجياً رئيسياً تُبنى عليه مصالح الدولة الإيرانية؛ ويُمكنها العبور من خلاله نحو الكثير من المواقع الإقليمية في المنطقة وهو ما عبَّر عنه وزير الخارجية الإيراني كمال خرَّازي في مقابلة مهمّة أجرتها معه فصلية " إيران والعرب " في عددها الأخير .


وأكدت إيران مراراً أنها حتى لو رأت القيادة العراقية في ضعف مهين فإنها لن تستغل الموقف وتسعى إلى تغيير حدودها مع العراق، وقد بادرت فعلياً في منع المعارضة العراقية المُتمركزة في طهران وخصوصاً قوات المجلس الأعلى للثورة الإسلامية في العراق بزعامة آية الله السيد محمد باقر الحيكم من الدخول إلى الأراضي العراقية عن طريق الأراضي الإيرانية واعتبرتها جهة مستقلة لا تتدخل طهران في قرارتها رغم الوشائج الآيدولوجية والروحية والسياسية التي تربطهما، كما أعلنت عن إيقاف أي تسهيلات لوجستية أو غيرها لأي معارضة عراقية تنوي دخول العراق، وكان التقدير الإيراني للموقف هو أن دخولها المعركة (أي المعارضة العراقية) عن طريق إيران " قد يُصعد المسألة أكثر " حسب تعبير  وزير الأمن الإيراني الشيخ علي يونسي، فإيران لا تريد أن يكون العراق مهبطاً لتدخل أجنبي يُهدد أمنها القومي وكذا يُدنس مقدسات إسلامية ترتبط ارتباطاً روحياً عميقاً وسحيقاً بها لا يُدلل على أهميته إلاّ موقفها عندما امتنعت المدافع الإيرانية عن قصف المدن التي تحويها (كربلاء المقدسة والنجف الأشرف وسامراء) إبَّان حربها مع العراق، وكذا ليس سراً أن نقول بأن الجناح المتشدد في إيران والمُتمثل آنذاك في مجمع علماء الدين المناضلين (روحانيون مبارز) قد ضغط على الرئيس هاشمي رفسنجاني في حرب الخليج الثانية لحثه على الدخول في الحرب بجانب العراق ضد الولايات المتحدة والتحالف الثلاثيني عندما صوَّرت كاميرات الصحافة الأماكن المقدسة في كربلاء والنجف الأشرف وهي تُدك بالصواريخ، كما أن وزير الخارجية الإيراني الدكتور خرازي اتصل بنظيره البريطاني جاك سترو في الثلاثين من شهر مارس الماضي وأكد له ضرورة صيانة المراقد المقدسة في العراق .


وكانت تلك الحقائق والمعطيات الموضوعية هي التي حددت مسار السياسة الخارجية الإيرانية تجاه الأحداث ودفعتها لأن تُعرب عن معارضتها التامة للحرب الأمريكية على العراق والوقوف على الحياد العسكري (لا السياسي والدبلوماسي) حين تقع (وهو ما حصل بالفعل) وكانت الولايات المتحدة الأمريكية ترغب في أن لا يكون للعراق أي حدودٍ آمنة مع جيرانه خصوصاً وأن الطوق الجغرافي قد اكتمل حول عنقه ولم تبق إلاّ حدوده مع إيران؛ لذا فإن الولايات المتحدة رغبت في أن تُقدم الجمهورية الإسلامية ولو تعاوناً في مجال فتح مجالها الجوي لعربدة الطائرات الأنكلوساكسونية خصوصاً وأن الحدود الإيرانية العراقية تبلغ آلاف الكيلومترات والوصول إلى العاصمة بغداد عن طريق إيران هو أقرب الطرق وأيسرها من بين كل دول الجوار، وبالتالي فهي تحظى بأهمية استراتيجية كبرى لأي عمل عسكري ضد العراق إلاّ أن ذلك لم يحدث، واختار الإيرانيون الوقوف على الحياد ورفض الحرب، وكان ذلك الرفض الإيراني للحرب ولتقديم أي تسهيلات عسكرية أو لوجستية للأمريكين شكل انتكاسة أخرى لرجال الكابوي في البيت الأبيض بعد أن رفضت إيران من قبل أيضاً إجراء أي تعاون معهم في حربهم العالمية على الإرهاب لأن الولايات المتحدة " ليست صالحة وغير صادقة " للقيام بتلك الحملة على حد تعبير مرشد الثورة الإسلامية، وقد عبَّر وزير الدفاع وإسناد القوات المسلحة الإيراني الإدميرال علي شمخاني عن ذلك الأمر بصورة أكثر تفصيلية ودقة عندما قال " أن إيران لن تُواكب أو تُغامر في أي مواجهة عسكرية بين العراق والولايات المتحدة " .

التعليقات (0)

شارك بتعليقك حول هذا الموضوع

شارك هذا الموضوع