.
واصل سماحة الشيخ ابراهيم الصفا سلسلة محاضراته الرمضانية بحسينية الحاج أحمد بن خميس ، و ذلك في ليلة التاسع من شهر رمضان المبارك لعام 1444هـ ، وتحت عنوان " ثقافة التفاهة " ، ابتدأ سماحته بحديث عن الرسول الأعظم (ص) " أيها الناس، من حسن منكم في هذا الشهر خلقه، كان له جواز على الصراط يوم تزل فيه الاقدام " المتتبع لأحكام الدين والشريعة وما جاء على لسانه (ص) ، يجد كمّا كبيرًا من النصوص التي أراد الله بها الإنسان بلوغه أعلى مراتب الكمال و أن يصل بالمجتمعات و الأمم الى كمالها ، فالتشريعات الإلهية و السنن النبوية غايتها أن يصل الإنسان فردًا و مجتمعًا و أمةُ الى أقصى مراتب الكمال ، ولهذا المولى قنّن الأحكام و التشريعات و النبي المصطفى من جانب آخر شرّع الأحكام و التقنينات التي تُمكّن الفرد بلوغه ذلك ، إلا أنّ الفرد و المجتمع بل و الأمة تواجه أمراضًا خطيرة قد تكون فتاكة فيها ، الأول المرض السلوكي و الثاني المرض الفكري وكلاهما متصلان . العلم و المعرفة و الثقافة تخلّد الأمم ، و العكس بالعكس ، الأمة التي يُغيّب فيها الفكر ويُحارب فيها العلماء مآلها الى السقوط ، و حديثنا الليلة يدور حول ثقافة التفاهة ، وهو حديث في غاية الأهميّة في هذا الزمان الذي انقلبت فيه المبادئ .
لابدّ أن نقف مع مفردتين مهمتين التفاهة و الثقافة . أولًا : المقصود بالتفاهة في اللغة ، تُطلق على الشيء الحقير أو الشيء اليسير أو الخسيس ، فالمال القليل تافه ، الا أن التفاهة قد تستعمل بمعانٍ مختلفة في سياقات مختلفة ، فقد تستعمل في الطعام الذي لا مذاق فيه ، و قد تستعمل في الشيء الزهيد مثل المال ، وأيضًا في الشيء اذا كان كلامًا لا ينفع ، والمجالس التي تعجّ بالتفاهات كثيرة فتضيع الأوقات في الكلام الفارغ ، إذا كان الإنسان عديم الوزن أو خسيس القيمة في الناس يُقال عنه رجل تافه . ثانيًا : الثقافة في اللغة فهي مشتقة من (ثقف) و تُطلق على الحدق وهي شدة النباهة ، و تطلق على الذكاء المتقدّم عند الإنسان ، و على الفطانة ، و على تسوية ما هو معوَجًّا سواءً كان ماديًّا أو معنويًّا ، فالثقافة هي الذكاء و التوقّد الفكري و المعرفي ، أما في أيامنا ، فالمتبادر الى الأذهان أنها حالة علمية يتمتّع بها الإنسان . في المجتمع الغربي و الثقافة الغربية فله علاقة بالثقافة المجتمعية الإنسانية ، وعليه صار يشمل المعرفة الإنسانية و الفنون و الآداب و أيضًا المعتقدات و القيم ، بالإضافة الى العادات و التقاليد و المبادئ . تكمن الخطورة عندما تتحول التفاهة الى ثقافة تُهيمن على المجتمع ، فهذه من مؤشرات سقوطه و سقوط أفراده .
إذا أصبحت السخافة ثقافة فإن المصيبة نازلة على المجتمع كلّه ، ومجتمعاتنا اليوم مُبتلية بهذا البلاء ، وذلك له مؤثرات كثيرة و عواقب وخيمة ، الأثر الأول : تحقير ما يجب توقيره و توقير ما يجب تحقيره ، وهذه من ظواهر الإختلال في المجتمعات وتختلّ الموازين ، فشهر رمضان فرصة للتوقير حيث دعانا لها النبي الأكرم في خطبته الشهيرة ، لكن المسلسلات و الأفلام تعمل لتحقيره و تدمير أخلاق الإنسان وهي في مسيرة مُعاكسة للأمة . الأثر الثاني : هو الإستخفاف بالعقول ، قيمة الإنسان بعقله ، ولما تنتشر التفاهة توضع العقول تحت الأقدام و يستخف بالناس ، فما ينشر في وسائل التواصل الإجتماعي ، ما أكثر ما ينشر من المُغالطات و الأكاذيب و نشر الترهّات و ما لا يقبله العقل ، ومع ذلك يتناقله الناس ، وسائل التواصل لها نفع لكن اذا أُهمل العقل صار الناس يتناولون الأكاذيب و الأباطيل . يجب أن نحترم هذا العقل ، المسلسلات و البرامج التي تُقدّم ولا سيّما الرسوم المتحرّكة التي تجتذب أولادنا اجتذابًا تامّا ، وبها من التفاهة الكثير ، فتعلّم الأولاد العنف وتدلّهم على طريق المخدرّات و تعرّفهم على حالات حرّمها الله مثل المثلية وغير ذلك من ايحاءات جنسية . أغلب تلك الأفلام مفرّغة من الفائدة و النفع ولا تقدّم سوى قتل الوقت .
من صور التفاهة ما نسمعه من هنا وهناك عندما يعطّل و يُحقّر المفكرون و الأكاديميون ، و تُنفق الملايين من الدولارات من أجل لاعب - مع كل الإحترام الى الرياضيين في بلادنا و نتمنّى لهم التقدّم - ، لكننا نتكلّم عن السفاهة و السفالة و الإنحطاط ، اللاعب الرياضي له قيمة كبيرة لكن من دون تفاهة . الأثر الثالث هو تقديم الشهرة على الفكرة ، ونقصد بالشهرة هم المشهورون المفرغون من الوعي و الإنجاز الذين يُقدّمون ، أمّا أصحاب الفكر و العلم الذين من حقّهم أن يُقدّموا وأن يُروّج فكرهم تجدهم مُغيّبون . - ومجتمعنا اليوم هكذا - ، ونجد كثرة المتابعين لهم في وسائل التواصل الإجتماعي ، الساقطون و المنحرفون لهم آلاف المتابعين ، إنّ مجلات الأزياء و عروض الأزياء تنمّرٌ يمارس على مستوى الثقافة الإجتماعية . الأثر الرابع هو انعدام القيمة الحقيقية و غياب الإبداع . التفاهة أحيانًا تُسيّس فتكون ثقافة التفاهة بغاية مقصودة تريد بها الحكومات تجهيل و تعطيل الشهادات
التعليقات (0)