واصل سماحة الشيخ ابراهيم الصفا سلسلة محاضراته الرمضانية بحسينية الحاج أحمد بن خميس ، و ذلك في ليلة الثامن من شهر رمضان المبارك لعام 1444هـ ، وتحت عنوان " كيف ينحرف العلماء ؟ " ، ابتدأ سماحته بالآية المباركة من سورة الأعراف " وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ (175) " ، القرآن الكريم من خلال هذه الآية المباركة يتحدّث حول مرضٍ خطير قد تصاب به الأمة والمجتمعات فيؤدي ذلك للفتك بتلك الأمة ، الآية المباركة تتحدث حول انحراف العلماء و آثاره الفادحة في جسد الامة ، وقد بيّن خطورة ذلك أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (ع) عندما بيّن طرفين خطيرين فسادهما يعادل فساد الأمة : " صنفان من أمتي إذا صلحا صلحت أمتي وإذا فسدا فسدت أمتي قيل: يا رسول الله ومن هم؟ قال: الفقهاء والامراء " ، فلهما خطورة مجتمعية أممية ، فقد يفسد أب أولاده و قد يُفسد الأستاذ تلاميذه ، ولكن الأمراء و الملوك قد يفسدون الأمة برمتها ، لما لهم من تأثير وأدوار قيادية ، فالعلماء يجنّدون الإعلام ، و العلماء يحتجّون بالدليل .
عن الإمام علي (ع): " الملوك حكام على الناس والعلم حاكم عليهم، وحسبك من العلم أن تخشى الله، وحسبك من الجهل أن تعجب بعلمك " . وعن الإمام الصادق (ع): " الملوك حكام الناس، والعلماء حكام على الملوك ". الدين فوق السياسة و الغاية لا تبرر الوسيلة أبدًا ، و هنا تأتي القضية عندما يفسد العالم ، المسألة خطرة و حديثنا الليلة حول أسباب انحراف العلماء ، والعالِم قد يكون عالمًا أكاديميًا و قد يكون عالِمًا دينيًا ، وكلاهما يمثلان شعلة هداية الأمة . فاذا اطفئت بضلالهم و فسادهم وانحرافهم فما حال هذه الأمة . ينحرف قادة الفكر و المعرفة مع أنهم يحملون مشعل العلم و المعرفة لأسباب عديدة .
السبب الأول : هشاشة البناء العلمي ، لكل شيء أصول ، كأي بناء مادي يتهاوى اذا لم يكن ذا قاعدة قوية ، البناء العلمي كذلك ما لم يكن رصينًا مقوّمًا على قواعد المعرفة لا ينفع ، طالب العلم في الحوزة مثلًا لابد أن يمر بالمقدّمات ثم السطوح الدنيا فالعليا ثم البحث الخارج ، لكن الطفرة العلمية لا نؤمن بها ، لكل بناء أسس . عندما يبني الإنسان بناءه بسبب الألقاب يسقط اثر أي هزة ، هذه الطفرات لا تولّد الا فراغات من الجهل ، وقد قيل " من تصدر قبل أوانه فقد تصدى لهوانه " قبل أوانه أي تصدّر قبل نضوجه العلمي ، فتعترضه الظروف و يتهاوى بعد ذلك ، والعلم له شروطه . وهنا الإمام يتصدى لأصحاب العناوين البراقة و هم لا يملكون ذلك فيقول : " وآخر قد تسمى عالما وليس به، فاقتبس جهائل من جهال، وأضاليل من ضلال " .
السبب الثاني : اختراق العلماء وتجنيدهم ، أي هناك أيادي آثامة تشتري ذمم العلماء ويتمّ اغواؤهم وتتهاوى العمائم كما في قصة سيد علي محمد الشيرازي الملقب بـ الباب والذي انتشرت معه البابية ، السبب الثالث : تمرّد الأنا وانتفاخ الذات ، عندما يتقدّم العالم علميًا من دون تهذيب النفس يصاب بالغرور ، من دعاء مكارم الأخلاق عن الإمام زين العابدين (ع) " ولا ترفعني في الناس درجة إلا حططتني عند نفسي مثلها، ولا تحدث لي عزا ظاهرا إلا أحدثت لي ذلة باطنة عند نفسي بقدرها " وقد صدق الشاعر " فَـقُـلْ لِـمَـنْ يَـدَّعِـي فِـي الْـعِـلْـمِ فَـلْـسَفَةً. حَـفِـظْـتَ شَـيْـئًـا وَغَـابَـتْ عَـنْـكَ أَشْـيَـاءُ. " رقعة الجهل أعظم من رقعة العلم ، فلا نهاية للعلم . وفي تاريخ آل البيت تجد مصائبًا كثيرة ، في زمن الإمام العسكري انحرف الشلمغاني و غيرهم انحرفوا في زمن الإمام الهادي فاتهموا الإمام بالربوبية .
السبب الرابع : الآيات التي ذكرناها لبلعم بن باعوراء الذي له مكانته العالية ويملك الإسم الأعظم وله دعوة مجابة وقد كان في زمن النبي موسى وفرعون ، ولمّا تجرّد عن شرائط الإستقامة و الإيمان كان من الغاوين و السبب في ذلك اتباع الهوى وميله لحب الدنيا " وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَٰكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ ۚ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِن تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَث ۚ ذَّٰلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا ۚ فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (176) " . عندئذ ينحرف الهدف الأسمى ، والتاريخ حدثنا عن شريك النخعي والذي كان بعيدًا عن الدنيا في زمن المهدي العبّاسي . فالعلم هو صمام الأمان .
التعليقات (0)